يدرك أصحاب الركوع في توجّهاتهم القلبيّة أسراراً عظيمة تجعله حلواً مؤنساً لا يطيقون الخروج منه. أمّا السجود، فإنّه أجمل وأصدق تعبير عن العبوديّة بين يدي الله تعالى.
فإلى ماذا يرمز الركوع والسجود في الصلاة؟ وما هي الآداب المعنويّة التي تساعدنا على التحقّق بمعانيهما؟
* أوّلاً: الركوع
* آداب التكبير قبل الركوع
الظاهر أنّ هذا التكبير من متعلّقات الركوع، ولأجل تهيّؤ المصلّي للدخول إلى منزل الركوع. وأدبه أن ينظر المصلّي إلى مقام عظمة الحقّ وجلاله وعزّة الربوبيّة وسلطنتها، ويجعل ضعف العبوديّة وعجزها وفقرها وذلّها نصب عينه. وفي هذا المقام يقول الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام بلسانه الولائيّ الأحلى الذي هو لسان الله: "أفبلساني هذا الكالّ أشكرك؟"(1).
* الآداب العامّة للركوع
إذا أراد العبد السالك أن يرد منزل الركوع الخطير، فلا بدّ له من التهيّؤ لذاك المقام، وأن يلقي وراء ظهره توصيفه وتعظيمه وعبادته وسلوكه، ويرفع يده إلى حذاء الأذن، ويقلب كفّيه الخاليتين باتّجاه القبلة، ويرد منزل الركوع صفر اليدين وخالي الكفّين وبقلب مملوء بالخوف والرجاء:
1. خوف التقصير عن القيام بمقام العبوديّة.
2. والرجاء الواثق بمقام الحقّ المقدّس، حيث شرّفه وأذن له بالدخول إلى هذه المقامات التي هي لخلّص الأولياء وكمّل الأحبّاء.
* شواهد من النصوص
قال الإمام الصادق عليه السلام: "لا يركع عبدٌ لله ركوعاً على الحقيقة إلّا زيّنه الله بنور بهائه وأظلّه في ظلال كبريائه وكساه كسوة أصفيائه، والركوع أوّل والسجود ثانٍ؛ فمن أتى بمعنى الأوّل صلح للثاني، وفي الركوع أدب وفي السجود قُرب؛ ومن لا يُحسن الأدب لا يصلح للقُرب، فاركع ركوع خاضع لله بقلبه، متذلّل وجِلٍ تحت سلطانه، خافض له جوارحه خفض خائف، حزن على ما يفوته من فائدة الراكعين"(2).
من هنا، فإنّ السجود فناء ذاتيّ، كما قال أهل المعرفة؛ لأنّ الركوع أوّل هذه المقامات، والسجود ثانٍ؛ فليس هو إلّا مقام الفناء في الذات. وإنّ القُرب المطلق الذي يحصل في السجود لا يتيسّر إلّا بحصول الركوع على الحقيقة، ومن أراد أن يصلح للثاني لا بدّ من أن يحصّل القُرب الركوعيّ وأدب الركوع.
* ثانياً: السجود
آداب السجود عند الإمام الصادق عليه السلام
قال الإمام الصادق عليه السلام: "ما خسر والله من أتى بحقيقة السجود، ولو كان في العمر مرّة واحدة. وما أفلح من خلا بربّه في مثل ذلك الحال شبيهاً بمخادع لنفسه، غافلٍ لاهٍ عمّا أعدّه الله للساجدين من أنس العاجل وراحة الأجل. ولا بَعُد عن الله أبداً من أحسن تقرّبه في السجود، ولا قَرُب إليه أبداً من أساء أدبه وضيّع حرمته بتعليق قلبه بسواه في حال سجوده. فاسجد سجود متواضع لله (تعالى) ذليل، علم أنّه خُلق من تراب يطؤه الخلق، وأنّه ركب من نطفة يستقذرها كلّ أحد، وكُوّن ولم يكن"(3).
ففي هذا الحديث الشريف، قد جمع عليه السلام بين الأسرار والآداب، والتفكّر فيه يفتح للسالك طرقاً من المعرفة، ويقصم إباء المنكرين وجحودهم، ويؤيّد أولياء العرفان وأصحاب الإيقان، ويقرع السمع بحقيقة الأنس والخلوة مع الحقّ وترك غيره.
* معاني سجود المتوسّطين
واعلم أنّ في السجود، كسائر الأوضاع الصلاتيّة، هيئةً وحالةً وذكراً وسرّاً؛ فهيئته إراءة المتربة، وترك الاستكبار والعجب، وكذلك إرغام الأنف (وتمريغ الأنف بالتربة من المستحبّات المؤكّدة، بل تركه خلاف الاحتياط)، إظهاراً لكمال التخضّع والتذلّل والتواضع، وأيضاً هو التوجّه إلى أصله والتذكّر لنشأته. ووضع رؤساء الأعضاء الظاهرة –التي هي محالّ الإدراك وظهور التحريك والقدرة، (وهي الأعضاء السبعة أو الثمانية)- على أرض الذلّة والمسكنة علامة التسليم التامّ، وتقديم جميع القوى، والخروج عن الخطيئة الآدميّة. فإذا قوي تذكّر هذه المعاني في القلب، ينفعل القلب بها تدريجيّاً، فتحصل له حالة الفرار من النفس وترك رؤية النفس، وحصول حالة الأنس، وتعقبها الخلوة التامّة، وتظهر المحبّة الكلّيّة.
(*) الإمام الخميني قدس سره، الأداب المعنوية للصلاة، الباب الخامس والسادس.
(1) الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص 591.
(2) الشيخ الطبرسيّ، مستدرك الوسائل، ج 4، ص 442.
(3) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 82، ص 137.