الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالْعَصْرِ١ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ٢ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ٣﴾ (سورة العصر).
صدق الله العلي العظيم
في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن أصحابه ليتفرّقوا بعد اجتماعهم، إلّا بعد أن يتلو أحدهم سورة ﴿وَالْعَصْرِ﴾؛ لأنّ هذه السورة ممَّا يشدّ العزيمة، وهي من الشعارات التي كان من اللازم الانتباه إليها دائماً. فالمعنى الظاهريّ لتفسير السورة واضح؛ ولكن ما هو المعنى العميق لهذه السورة؟
تُستخدم كلمة العصر في أكثر من معنى: العصر مقابل الظهر؛ أي آخر النهار، والعصر بمعنى الدهر والأيّام؛ مثل: عصر الجاهليّة الأولى، وعصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والعصر مصدر من (عَصَرَ)، (يَعْصِرُ)؛ بمعنى الضغط على الشيء. فما هو المقصود من القسم الذي ابتدأت به السورة المباركة؟
•القسم بالمقدّسات
﴿وَالْعَصْرِ﴾؛ نحن نُقسم بالأشياء والأشخاص المقدّسين والمحترمين: نُقسم بالله، وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبالأعزّاء. فهل العصر محترم ومقدّس عند الله؟
ورد القسم في القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعاً، والقسم القرآنيّ يختلف عن القَسَم الذي يُنشئه الإنسان، فنحن نقسم بالله، وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبكتبه، وبملائكته، لكنّ القسم في القرآن ليس كذلك؛ فهو قسمٌ بالموجودات السماويّة والأرضيّة، يقول تعالى مثلاً: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ (الشمس: 1)؛ إنّه يقسم بالشمس، ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا* وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا* وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا* وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا* وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا* وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ (الشمس: 2-7).
•لماذا يُستخدم القسم؟
يُستخدم القسم لسببَين:
1- إثبات صحّة القول: قد يكون القسمُ تأكيداً على صحّة قولٍ ما، مثلاً: حينما أريد أن أقول شيئاً وأؤكّده لك، أقول: "والله"، أو "بحياة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم"، لذلك، فالمعنى المباشر للقسم أو اليمين العرفيّ؛ أن أجعل شيئاً مقدّساً بيني وبينك؛ ضمانةً وإثباتاً لصدقي.
2- قداسة المقسوم به: أمّا المعنى الثاني للقسم، فهو لفت نظر السامع إلى قداسة المقسوم به؛ فعندما يقول الله تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ (التين: 1-3)، ثمّ يسرد ما يريد قوله، عندها يشعر المستمع أنّ هذه الأمور التي يُقسم بها الخالق مقدّسة؛ أي التين والزيتون مثلاً، وإلّا فلماذا يُقسم بها؟ ولأجل أيّ سبب يريد القرآن الكريم أن يلفت المستمع أو القارئ إلى قداسة التين، والزيتون، والضحى، والعصر، والشمس، والليل، والنهار؟
يريد الإسلام أن يؤكّد للبشر -بأشكال مختلفة من البيان، وبطرق متعدّدة من التعبير- أنّ كلّ ما حولهم من الموجودات مقدّس. ليس في الكون أمرٌ حقير، أو خفيف، أو بعيد عن الله، ولهذا نجد أحياناً أنّه يقول إنّ الشمس والقمر والنجوم كلّها ساجدةٌ لله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ (الحج: 18)، ويقول أيضاً إنّ كلّ ما في الكون مسبّحٌ لله: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (الجمعة: 1)؛ "ما" وليس "من"؛ أي كلّ ما في السماوات. أحياناً يقول: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾ (الرعد: 13)؛ الرعد يسبّح، وأحياناً أخرى يقول: ﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ (النور: 41)، وكذلك الطير يصلّي ويسبِّح.
إنّ تقديس هذه الأشياء ليس محاولةً لعبادتها، بل لتكريمها. هذه النظرة القرآنيّة إلى الموجودات الكونيّة هي حقل من الحقوق التربويّة في الإسلام.
•التربية الدينيّة
قد تكون الغاية الأساس من القسم بالموجودات الكونيّة، هي لفت نظر البشر إلى قداسة هذه الأشياء. والمقصد من القداسة هو التربية الدينيّة التوحيديّة، حتّى نشعر -نحن البشر- أنّنا لسنا وحدنا في هذا العالم في خطّنا الدينيّ التوحيديّ، بل نحن في هذا الكون مع السماء، والأرض، والأشجار، والجبال، والرعد، وأمواج البحر، وحركة الأوراق في الأشجار، وكلّ هذه الأشياء في الكون ساجدةٌ لله، ومسبّحةٌ له، تصلّي له بشكلٍ من الأشكال.
•موجودات سالكة في الخطّ الإلهيّ
بنتيجة هذه النظرة الكونيّة، يصبح الكون كلّه بالنسبة إلى الإنسان محراباً لله، وهو جزءٌ من هذه المجموعة؛ فلا ينظر عندها إلى الموجودات الكونيّة نظرة احتقار، رغم أنّها أشياء جامدة، يدرك الإنسان أنّها تسجد لله وتسبّح له؛ فالسجود يعني غاية الخضوع، والموجودات الكونيّة خاضعةٌ لله ومطيعة للأوامر الإلهيّة إطاعةً مطلقة. يدلّ التسبيح على التنظيم؛ فكما أنّ البناء الضخم يشهد على خبرة المهندس، هكذا كلّ ذرّة من ذرّات الكون، تشهد على عظمة الله، وعدم النقص في ذاته تعالى.
إذاً، الموجودات الكونيّة موجودات سالكة في الخطّ الإلهيّ، عبر الطريق الذي خصّصه الله لها. فلو كنّا نسلك سبيل التوحيد والإيمان والسير نحو الله، فنحن عندها مع الكون؛ أي مع السماء، والأرض، والنجوم، والبحار، والجبال، والرعد، والعواصف، فكلّ شيء في موكبنا وفي خطّنا.
تتمّة تفسير السورة في العدد المقبل بإذن الله.
(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، ج 10، سورة العصر، الجزء الثاني، ص 299، بتصرّف.