الشيخ بلال حسين ناصر الدين
اتّخذت العلاقة بين النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، وشيعتهم ومواليهم، طابعاً مميّزاً وفريداً، قلّما نجده في الأقوام والشعوب، لم تقتصر معالمها على حياتهم فحسب، إنّما أيضاً استمرّت إلى ما بعد شهادتهم وارتحالهم عن هذه الحياة الدنيا.
وقد تجلّت معالم تلك العلاقة الوطيدة، من خلال تولّيهم وطاعتهم والانقياد إليهم عليهم السلام من جهة، ومن خلال الارتباط بهم بكلّ وسيلة تؤدّي إلى شدّ عرى الولاء والمودّة من جهة ثانية، كالصدقة والسلام والصلاة عليهم، وإحياء المناسبات التي تتعلّق بهم، ومنها زيارة أضرحتهم المشرّفة.
•فضل الزيارة
ورد في الحثّ على زيارة مراقد أهل البيت عليهم السلام والاهتمام بها أدلّة عديدة، تؤكّد فضلها ومكانتها، إليك بعضها:
1- زيارة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من زار قبري وجبت له شفاعتي"(1).
2- زيارة السيّدة فاطمة عليها السلام: عن الإمام الباقر عليه السلام قال لأحد الموالين: "إذا صرت إلى قبر جدّتك، فقل: يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك به صابرة..."(2).
3- زيارة الإمام عليّ عليه السلام: عن الإمام الصادق عليه السلام: "زيارة أبي -عليّ عليه السلام - تعدل حجّتين وعمرتين"(3).
4- زيارة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في كلام له مع الإمام الحسين عليه السلام: "يا بنيّ، من زارني حيّاً أو ميتاً، أو زار أباك، أو زار أخاك أو زارك، كان حقّاً عليّ أن أزوره يوم القيامة وأخلّصه من ذنوبه"(4).
5- زيارة الإمام الحسين عليه السلام: عن الإمام الباقر عليه السلام: "مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام، فإنّ إتيانه يزيد في الرزق، ويمدّ في العمر، ويدفع مواقع السوء، وإتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ (له) بالإمامة من الله"(5). وهكذا في زيارة الأئمّة عليهم السلام كافّة.
مضافاً إلى زيارة أبي الفضل العبّاس عليه السلام، والشهداء الأبرار، الذين قُتلوا بين يديّ أوليائهم؛ دفاعاً عن الإسلام والمسلمين، وحفظاً لشوكتهم.
• سرّ الزيارة
لطالما عمد المؤمنون إلى ملازمة زيارة تلك المراقد بشغفٍ وحبّ، ولم تمنعهم أيّ عراقيل ومعوّقات -مهما اشتدّت صعوبتها وخطورتها- من أن يجتازوا المسافات الطويلة، رغم خطورة التهديدات المتكرّرة، من قبل أنظمة مستبدّة بائدة، لكي يقصدوا أضرحة أوليائهم المطهّرين.
فهذا ضريح النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة، ما يزال حتّى الآن مقصداً للمسلمين وملاذاً لهم، يأتون إليه من كلّ أصقاع العالم، ويتشفّعون بين يديه عند ضريحه المبارك، وذلك مع كلّ التضييقات التي مارستها بعض الأنظمة التي تتولّى رعاية تلك البقعة المقدّسة. كذلك مقام الإمام الحسين عليه السلام، حيث كان له مع الأنظمة الحاكمة البائدة، حكايات طويلة، وقد حاولت تلك الأنظمة منع المحبّين والموالين من ملازمته بشتّى الأساليب والوسائل، حتّى وصل الأمر بهم إلى قتل كلّ من يزور تلك البقعة المقدّسة في كربلاء، أو التنكيل به أو نفيه.
وقد حذا بعض أصحاب الأقلام والأفكار المنحرفة، حذو سلاطينهم في بثّ الشبهات حول مشروعيّة زيارة القبور عامّة، وزيارة الأضرحة المقدّسة خاصّة، وبذلوا في ذلك قُصارى جهدهم، لكنّهم لم يفلحوا في منع الناس من الإقدام عليها.
• أبعاد الزيارة
لم يكن حثّ الأولياء المطهّرين على زيارة المراقد، وبيانهم فضلَها وعظمتَها، خالياً من الحكمة، وحاشاهم أن يدعوا أتباعهم إلى شيء، ويُقدمون هم أنفسهم عليه، دون أن يكتنف أبعاداً عظيمة وجليلة، وهم الذين استقوا العلم من لدنه، وجرت الحكمة على ألسنتهم، وكانوا أشدّ الناس نُصحاً للناس، وأكثرهم حرصاً على اتّباع الحقّ في صغائر الأمور وكبائرها.
فمن أبعاد زيارة المراقد المشرّفة:
1- البُعد العاطفيّ: إنّ في الزيارة دفعاً عاطفيّاً يتولّد عند زيارة الوليّ؛ فإنّ أيّ حركة حسّيّة في ظاهرها دعا إليها الإسلام، تكتنف بُعداً معنويّاً وروحيّاً، حيث تتحوّل تلك الحركة الحسّيّة إلى وقعٍ عاطفيّ يلامس القلبَ والرّوحَ. من هنا، يمكن إدراك سرّ الكثير من الأعمال العباديّة، كشعائر الحجّ من طواف، ورمي الجمرات، وسعيٍ بين الصفا والمروة، كذلك في ما يخصّ الصلاة وأفعالها، من تكبيرٍ وركوعٍ وسجودٍ وغير ذلك؛ فإنّ لكلّ فعلٍ من هذه الأفعال وقعاً غيبيّاً ومعنويّاً، يدركه فاعلها.
وهذا أيضاً، ينطبق على زيارة الأضرحة المشرّفة؛ حيث تولّد في نفس الزائر ارتباطاً عاطفيّاً بالمزور، وهو ما يشعر به الزائرون، خاصّة أولئك الذين التزموا آداب الزيارة الظاهريّة والباطنيّة. يشهد بذلك كلّ من زار ضريحاً من تلك الأضرحة المكرّمة؛ حيث نجد بكلّ وضوح، شغفَ الموالين الذين زاروا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أو إماماً من الأئمّة الأطهار عليهم السلام، كيف يتوقون حبّاً لزيارته مجدّداً، وكيف يسعون للارتباط به أكثر فأكثر، كأنّما أخذوا عهداً تلقائيّاً معه أن يكونوا على ذلك.
وممّا يؤكّد البُعد العاطفيّ، بعض الأحاديث الواردة عن المعصومين عليهم السلام، بأنّ للزيارة أثراً في منع الجفاء الذي قد يحدث بين الموالي والوليّ، فعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنّه قال: "أتمّوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجّكم إذا خرجتم إلى بيت الله، فإنّ تركه جفاء. وبذلك أُمرتم"(6).
كما هو واضح، فإنّ ما ينطبق على الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ينطبق على الأئمّة الأطهار عليهم السلام، فلا مورد للخصوصيّة هنا.
ولا بدّ من الإشارة، إلى أنّ الرابطة العاطفيّة ليست هي الغاية نفسها، إنّما ما يستتبعها من تفاعل وتأثّر من قِبل الموالي تُجاه وليّه؛ فمن شدّ عُرى المحبّة والمودّة بينه وبين وليّه أصبح أكثر التزاماً بأوامره وإرشاداته، ووصل إلى درجة الحرص على التحلّي بكلّ ما يُحبّه، والتخلّي عن كلّ ما يُبغضه.
2- البُعد العقديّ (الولائيّ): إنّ زيارة ضريح الوليّ المعصوم عليه السلام، هي بمنزلة تجديد العهد معه؛ فهي إقرار واعتراف بمقامه ومكانته وحقّه، وتسليم بنهجه وخطّه. وقد ورد ما يشير إلى ذلك، كما عن الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم"(7).
3- البُعد المعرفيّ: للزيارة أثرٌ مباشر في تقوية الجانب المعرفيّ لدى الزائر؛ حيث إنّه يرى بأمّ عينيه كيف يلوذ المؤمنون بالإمام المعصوم عليه السلام، وهم على يقين بأنّ له كرامة عند الله تعالى، يستطيع من خلالها أن يشفع لهم ويكرمهم ويفضّل عليهم. وهذا ما يدفع الزائر للتعرّف إليه أكثر فأكثر، ويضع نصب عينيه أن يتحرّى ما ورد فيه وعنه من فضلٍ وإجلال.
وقد اتّخذت المعرفة بالإمام عليه السلام حيّزاً مهمّاً في أحاديث الأئمّة الأطهار عليهم السلام، من ذلك ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام: "من زارني عارفاً بحقّي، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر"(8).
بالتالي، فعلى الزائر أن يضع في حسبانه أهمّيّة معرفة الوليّ وضرورتها؛ كي يكون نفع الزيارة عليه أشمل وأكمل.
•التوسّل بصاحب المقام
من الأمور الأساسيّة التي لا تنفصل عن فضل الزيارة، هي التوسّل بصاحب المقام الشريف؛ ذلك أنّه وسيلة من الوسائل التي جعلها تعالى وسائط خير بينه وبين عباده، وبذلك أمر، حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (المائدة: 35).
وليس الموت حائلاً بين قدرة الوليّ الذي أفاض الله عليه من فيض علمه وكرامته، وعباد الله الذين يلجؤون إلى تلك الوسائط طلباً للخير؛ ذلك أنّ الموت ليس انعداماً أو فناءً، بل هو مجرّد انتقالٍ من عالم إلى آخر، فإذا كان الحال بعامّة الناس كذلك، فهو حتماً ثابت للأولياء والأئمّة المطهّرين عليهم السلام.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يدلّ على طلب الاستغفار والتوسّل بين يديّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رحِيمًا﴾ (النساء: 64).
فالآية، وإن كانت واردة في كون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على قيد الحياة، لكنّها غير مخصّصة بذلك فقط، حيث ثبت بالدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حيٌّ بعد موته، بل كذلك الأولياء المعصومين عليهم السلام، وعلى ذلك شواهد عديدة؛ كالحثّ على التحيّة والسلام على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والتي ورد أنّه يردّ السلام. فمن لم يكن حيّاً، فكيف يردّ السلام؟!
•لطفٌ إلهيّ
كما كان أصحاب الأضرحة المقدّسة في حياتهم وسائط بين الله وعباده، كذلك هم في مماتهم؛ وينبغي للزائر إزاء ذلك، أن يهتمّ بهذا الجانب، وأن لا يغفل عن ذلك اللطف الإلهيّ، بأن جعل سبحانه عباداً له يبثّون الخير والعطاء في عباده.
1. مستدرك الوسائل، الطبرسيّ، ج 10، ص 185.
2. بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 97، ص 194.
3. تهذيب الأحكام، الطوسيّ، ج 6، ص 21.
4. الكافي، الكلينيّ، ج 4، ص 548.
5. بحار الأنوار، (م. س.)، ج 107، ص 10.
6. الخصال، الصدوق، ص 616.
7. من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج 2، ص 577.
8. بحار الأنوار، (م. س.)، ج 99، ص 38.