اعلم أنّ الحمد في مقابل الجميل. ويُستفاد من الآية الشريفة ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة: 2) أنّ الحمد والثناء ثابتان لمقام الاسم الأعظم، الذي هو الاسم الجامع، وهو مالك يوم الدين، فلا بدّ من أن يكون لهذه الأسماء الشريفة مدخليّة تامّة في التحميد.
* الحامد والمحمود
سنقارب مقام ربوبيّة العالمين ومناسبته للتحميد من جهتين:
1- الجهة الأولى: إنّ الحامد، حيث إنّه بنفسه من العالمين، بل في نظر أهل المعرفة كلّ موجود من الموجودات هو عالمٌ بذاته فيحمد الحقّ؛ لأنّه ربّاه بيده التربويّة في مقام الربوبيّة؛ فأخرجه من الضعف والنقص والوحشة والظلمة والعدم، إلى القوّة والكمال والطمأنينة ونورانيّة العالم الإنسانيّ، وأوصله عبر المنازل الجسميّة والعنصريّة والمعدنيّة والنباتيّة والحيوانيّة إلى منزل الإنسانيّة، الذي يُعدُّ أشرف منازل الموجودات. وبعد ذلك أيضاً، يربّيه إلى أن يصل إلى حدّ لا يتّسع في الوهم.
2- الجهة الثانية: إنّ تربية نظام عالم المُلك (الدنيا) من الفلكيّات والعنصريّات والجوهريّات والعرضيّات مقدّمة وجود الإنسان الكامل. وحيث إنّ عالم المُلك متحرّكٌ بالحركة الذاتيّة الجوهريّة، وهذه الحركة ذاتيّة استكماليّاً، فأينما انتهت فهو غاية الخلقة ونهاية السير. والإنسان قد وُجد بعد الحركات الذاتيّة الجوهريّة للعالم، وانتهت الحركات إليه؛ فيد التربية للحقّ تعالى قد ربّت الإنسان في جميع دار التحقّق، والإنسان هو الأوّل والآخر.
* السّير إلى باب الله
ليس لفعل الحقّ تعالى غاية سوى ذاته المقدّسة، وإذا نظرنا إلى الأفعال الجزئيّة أيضاً، فغاية خلقة الإنسان عالم الغيب المطلق، كما ورد في القدسيّات: "عبدي، خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي"(1). وفي القرآن الشريف، يخاطب الله تعالى النبيّ موسى بن عمران عليه السلام ويقول: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ (طه: 41). وأيضاً يقول: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ (طه: 13). فالإنسان مخلوقٌ لأجل الله، ومصنوع لذاته المقدّسة؛ وهو المصطفى والمختار من بين الموجودات، وغاية سيره الوصول إلى باب الله، والفناء في ذات الله، والعكوف لفناء الله، ومعاده إلى الله ومن الله، وفي الله، وبالله، كما يقول سبحانه في القرآن: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾ (الغاشية: 25). وسائر الموجودات ترجع إلى الحقّ تعالى بواسطة الإنسان، بل مرجعها ومعادها إلى الإنسان، وما ورد في الزيارة الجامعة المظهّرة لنبذة من مقامات الولاية: "وإياب الخلق إليكم، وحسابهم عليكم"(2) سرٌّ من أسرار التوحيد، وإشارة إلى أنّ الرجوع إلى الإنسان الكامل هو الرجوع إلى الله؛ لأنّ الإنسان الكامل فانٍ مطلقاً وباقٍ ببقاء الله، وليس له من عند نفسه تعيّن وإنّيّة وأنانيّة، بل هو نفسه من الأسماء الحسنى وهو الاسم الأعظم.
* حقائق التوحيد
إنّ الإشارات إلى هذا المعنى كثيرة في القرآن والأحاديث الشريفة والقرآن الشريف قد جمع من لطائف التوحيد وحقائقه ودقائقه ما تتحيّر فيه عقول أهل المعرفة، وهذا هو الإعجاز العظيم لهذه الصحيفة النورانيّة السماويّة.
لقد عُرف القرآن بالفصاحة، واشتهر هذا الإعجاز من بين سائر المعجزات في الآفاق؛ لأنّه كان للأعراب في الصدر الأوّل هذا التخصّص، وأدركوا هذه الجهة من الإعجاز فحسب. وأمّا الجهات الأخرى المهمّة، التي كانت فيه وكانت جهة إعجازها أرفع، وأساس إدراكها أعلى فلم يدركها أعراب ذلك الزمان. والحال أيضاً أنّ المتّحدين معهم في أفق الفهم لا يدركون من هذه اللطيفة الإلهيّة، سوى التركيبات اللفظيّة والمحسنات البديعيّة والبيانيّة. أمّا المطّلعون على أسرار المعارف ودقائقها، والخبراء بلطائف التوحيد والتجريد، فوجهة نظرهم في هذا الكتاب الإلهيّ وقبلة آمالهم في هذا الوحي السماويّ، إنّما هي معارفه، وليس لهم توجّه كثير إلى الجهات الأخرى. ومن نظر إلى عرفان القرآن وعرفاء الإسلام، الذين اكتسبوا المعارف من القرآن، وقايس بينهم وبين سائر علماء الأديان وتصنيفاتهم ومعارفهم، يعرف حدّ معارف الإسلام والقرآن، التي هي أساس الدين والديانة، والغاية القصوى لبعث الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب، ويصدّق، بلا مؤونة، أنّ هذا الكتاب وحي إلهيّ، وهذه المعارف معارف إلهيّة.
(*) مستفاد من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، المصباح الثاني، الفصل الخامس.
1- الجواهر السنيّة، الحرّ العاملي، ص 361.
2- من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج 2، ص 612.