التوكل
التوكل عبارة عن الاعتماد على اللَّه تعالى.. وتفويض الأمور وتسليمها إليه، ثقة بحسن تدبيره وتقديره. والتوكل رصيد ثابت للعمل، يضيء مشعل الأمل في القلب ويمحو اليأس منه، ويوجد الشهامة في الإنسان، ويقوي الروح، ويمنحها السكينة.
وإن ظهرت حقيقة التوكل على اللَّه في الإنسان، فإن إله هذا العالم يجعله مورداً لعونه وليس التوكل أن يمتنع الإنسان عن السعي وتدبير أموره، بل في عين استخدام قوته والقيام بكل ما يلزم لإنجاز العمل، ليه أن يعتمد على اللَّه وحده، وأن يعتبر اللَّه تعالى، عامل النصر الوحيد.
ولتحصيل التوكل أسس عديدة، منها: معرفة اللَّه ، واكتساب مراتب التوحيد، والتخلص من مراتب الشرك، واستحضار مراحل الخلقة وربطها باللَّه والتقوى، وقوة الإيمان... إلخ. وللتوكل على اللَّه درجات ينبغي أن تراعى حتى يصل الفرد إلى أعلى هذه المراتب.
التوكل العامل الأهم في انتصار الإمام قدس سره
بنظرة قليلة إلى جهود الإمام، نجد أن علة ثباته في جميع الأحداث، كانت الاتكاء الحقيقي على القدرة الأزلية لرب العالم، وأنه كان قد أودع القلبَ لدى اللَّه، ولم يكن يعتبر أي شخصٍ مؤثراً سواه. وفي المقابل، فقد حماه اللَّه وصار أعظم ناصر له، وأوصلهُ إلى الانتصارات.
يكتب القائد الكبير للثورة الإسلامية إلى ولده العزيز في رسالة حول هذا الموضوع:
"بني! عليك بالمجاهدة لتودع القلب عند اللَّه، ولا ترى مؤثراً غيره.. أوليس عامة المسلمين المتعبدين يصلون في اليوم والليلة عدة مرات- والصلاة زاخرة بالتوحيد والمعارف الإلهية. ويقولون عدة مرات في اليوم والليلة "إياك نعبدُ وإياك نستعينُ" ويتلفظون أن العبادة والإعانة مختصتان بالله... إلاّ أنهم يتذللون ويتزلقون لكل عالمٍ وقوي وثري، إلاّ المؤمنون بحق وخواص الحق سبحانه. وأحياناً يأتون بأكثر مما يأتون به للمعبود.. ويسمدون العون من كل شخص، يتمسكون بكل قشة من أجل آمالهم الشيطانية، وهم غافلون عن قدرة الحق..."(2).
* مظاهر التوكل في حياة الإمام قدس سره:
1- الجهاد في سبيل الحق
على ضوء اعتقاده الراسخ واليقيني، كان باني الجمهورية الإسلامية يؤكد طوال عمره المليء بالبركات، على التوكل على اللَّه تعالى والإتكاء على قدرته، فالإمام الذي قدم الكثير لأجل الجهاد في سبيل اللَّه، كان يذكّر دوماً بالاعتماد على العناية الإلهية والتوجه إليها، ودعا الجميع إلى ذلك، فكان على أثر هذا التوجه- كما بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم- أقوى الناس، بل أمّة في رجل. يقول النبي العزيز صلى الله عليه وآله وسلم: "إن سرّك أن تكون أقوى الناس فتوكل على اللَّه"(3).
ولقد أثبتَ الإمامُ، بتسليم نفسه للَّه تعالى، هذه الحقيقة طوال مراحل جهاده وهو الذي توجه بالخطاب إلى نظام الشاه الظالم وعملائه قائلاً:
"لقد جهزتُ قلبي لتلقي طعنات حراب عملائكم المأجورين، إلاّ أنني لن أكونَ حاضراً لقبول قول الزور، الخضوع أمام جبّاريكم، وأنا إن شاء اللَّه تعالى سأبيّن أحكام اللَّه في كل وقت مناسب، وطالما أمتلك القلم بيدي، فسأفضحُ كل الأعمال المخالفةِ لمصالح هذا البلد على الملأ"(4).
وفي البيان التاريخي والمهم الذي أصدره حضرة الإمام حول يوم الثالث عشر من شهر خُرداد لسن اثنين وأربعين هجري شمسي، يحدث الإمام عن العقيد مولوي، الذي كان رئيس جهاز السافاك في طهران، وقائد هجوم الكوماندوس على المدرسة الفيضية، واصفاً إياه "بذاك الرجل الحقير الذي لن أذكر اسمه الآن، لكن في ذلك الوقت الذي سأصدر فيه الأمر كي يسحبوه من أُذُنه فسأذكر اسمه".
وبعد يومين، أي في الخامس عشر من شعر خُرداد، عندما اعتقلوا الإمام وأحضروه إلى السجن، في تلك الساعة الأولى وقفَ العقيد مولوي على نفس تلك الهيئة المستعلية وقال: "أيها السيد! لماذا لم تصدروا الأمريكي يسحبوا ذلك الشخص من أُذنه؟!" وبعد لحظات من السكوت، يقول له حضرة الإمام بهدوء وثبات: "لم يتأخر الوقت بعد"!(5).
2- الثورة الإسلامية
بالاعتماد على المعارف الإسلامية، وقدرة الشعب وقيادته الحكيمة، وضع الإمام أسس ثورة تعدّ من أعجب حوادث تاريخ الإسلام على الإطلاق. كما اقتلع نظاماً ملكياً كان قد حكم إيران لمدة ألفٍ وخمسمائة سنة، وهدى سفينة الثورة المبحرة على أمواج مخيفة وخطيرة إلى ساحل النجاة، مثل قبطان متمرّس، معتمداً على اللَّه تعالى، لقد كان أملهُ باللَّه تعالى دوماً، ولقد فقد هانت عنده كل الصعوبات، لأنه وبتعبير الإمام علي عليه السلام:
"من توكل على اللَّه، ذلَّت له الصعاب وتسهّلت عليه الأسباب..."(6).
والقائد الكبير للثورة، يعتبر أن جميع نجاحاته هي من اللَّه تعالى، ولذا لم سيكن ليغفل لحظة واحدة عن عونه ومساعدته، ومما يُنقل، أنه وخلال حادثة انتصار الثورة الإسلامية، عندما أعلن الحاكم العسكري أن أي شخص يخرج من بيته اعتباراً من الساعة الرابعة بعد الظهر فسوف يُقتل، قال الإمام: "من الواجب على الجميع أن يكونوا في الشرع الساعة المشار إليها وعليهم أن يثبتوا". أما أصحاب الإمام فكانوا يحتملون أن يحصل هجوم على منزله، ولذا كانوا ينظرون في إمكانية تأمين منزل له خلف المدرسة العلوية، ويرون أن ينتقل إلى هناك، غير أن الإمام قال لهم: "أنا لن أخرج من الغرفة، أنتم إن كنتم تخافون فاذهبوا"(7). ويذكر أحد أصحاب الإمام والذي كان على اتصال بأحداث الخامس عشر من خرداد:
"في تلك الأيام، كانت تصدر تهديدات كثيرة للإمام من جهة الدولة. وفي إحدى المرات التي جاؤوا فيا، قالوا: لقد تقرر أن نعتقلكم اليلة وأن نسجنكم، فمن الجيّد أن تغادروا المكان وتذهبوا من هنا، لكن الإمام لم يكن يقبل ذلك أبداً. وفي الليلة التي تلت وقوع حادثة المدرسة الفيضية، حيث كان هناك احتمال أن يذهب أولئك لاعتقال الإمام، في نفس تلك الليلة بقي في المنزل أيضاً ولم يغيّر مكانه..."(8).
3- الظروف الحالكة
لقد تعرضت حيا الإمام في تلك البرهة من الزمن التي كان يواجه الظالمين فيها إلى ضغوطات كثيرة، إلاّ أن جميع الوقائع شهدت على كونه رجلاً فولاذياً، حيث وبالاعتماد على القوة الغيبية الإلهية لم يُسلِّم قط. لقد كانت روحه العظيمة مثل بحر عميق تستقر فيه كل المنغّصات، وامتلك قلباً قوياً مرتبطاً بفضل اللَّه تعالى، ولم تستطع أية قدرة أن تَحدث فيه خللاً، لقد كان الإمام مصداق
لقد كان في الحقيقة عماد النظام الإسلامي والشعب حيث لم يرتعد أبداً، يقول الدكتور بور مقدس، طبيب الإمام، حول الحرب العراقية المفروضة على إيران:
"إبان قصف الصواريخ الشديد على طهران، تشرفت في أحد الأيام بالذهاب مع الشيخ أنصاري كرماني لخدمة حضرة الإمام، فقال الشيخ كرماني للإمام: إن حالة المدينة هي على شكل جعل أكثر أهلها يهجرونها، وإن بقي البعض في منازلهم فلأنهم يمتلكون ملاجىء فيها، أما أولئك الذين قد اجتمعوا حولك، كما الفرشة حول الضوء، فهم خائفون عليكم من أحداث القصف فاقبلوا منا أن ننقلكم إلى محل آمنٍ" فقال الإمام: "أنا لن أنتقل من هنا تحت أي ظرف" فكرر الشيخ أنصاري مطلبه مرة أخرى باكياً، فتبسم الإمام وقال: "... شيخ أنصاري! لقد اشتبهتم في حساباتكم..."(10).
ويقول أحد أصحابه:
"إن إحدى أجمل ذكرياتنا مربوطة باليوم الذي تقرر، أن نتحرك في صبيحه من باريس إلى طهران... جمع الإمام ليلاً جميع الأفراد الذين كانوا في محل إقامته، فكنّا حوالي عشرين شخصاً، وقال في أجواء من النصيحة والدعاء والشكر لنا والتقدير لأعمالنا: "لا ترافقوني على هذه الطائرة لوجود أساس بالخطر، فدعوا لي هذا الخطر وحدي". وفي تلك اللحظة ذكرنا ليلة وداع الإمام الحسين عليه السلام(11).
ويقول قائد الثورة المعظَّم آية اللَّه العظمى الخامنئي:
".. لم تكن أصعب الحوادث لتحرك ساكناً في محيط وجوده. العظيم.."(12).
وأيضاً يقول أحد معارف الإمام:
"كل حادث خطير كان يقع، كالخامس عشر من خرداد، وشهادة السيد مصطفى، لم يكن ليبدل حالة الإمام عن المعتاد أو ليُحدث أي تغيير، لأنه كان يتوكل على اللَّه تعالى"(13).
4- في العلاقة مع العدو
كان أعداء الإمام، والذين كانوا هم أنفسهم أيضاً أعداء الإسلام والثورة الإسلامية، ضعافاً أمام توكله الشديد وروحه السامية، فالإمام لم يستسلم للأعداء تحت وطأة أي ظرف، بل كان يواجههم بكل قدرة وشدة. فثباته واستقامته كانا بلا نظير، وتحركه العملي كاشفاً عن الكلام الإلهي
وفي وقت الحرب مع أعداء الإسلام، وحين التعرض لضغوطاتهم وحملاتهم، شكّل ملجأ مطمئناً، ومصدراً للسكينة لمسؤولي النظام والشعب المقاوم.
يقول القائد المعظَّم للثورة، آية اللَّه العظمى الخامنئي:
"لمرات عديدة، وخلال الظروف الحساسة، كنا نحن مسؤولو الجمهورية الإسلامية نلتجئ إلى الإمام. ففي الظروف التي كان الشرق والغرب متحدين قد وضعانا فيها تحت الضغط، وأنتم العسكريون أنفسكم تعرفون بشكل أفضل أي ظروف صعبة قد تخطينا خلال السنوات الثماني للحرب. كنا في هذه اللحظات الحركة نراجعه فكانت نفس النظرة إلى وجهه تمنحنا الطمأنينة والسكينة.."(15).
"نتيجة لارتباطاته المعنوية التوكل على اللَّه، وقف الإمام دوماً مثل جبلٍ، مقاوماً وصامدً، ولم يكن أي شيء ليزلزله، وفي أكثر أحداث هذا البلد وهذه الثورة ، كانت جميع الأثقال دائماً على عاتقه، حيث كان يرشد كل المسؤولين وأفراد الشعب خلالها بجملةٍ، ويسقط الاضطراب والضعف. وبالنسبة لقضية هجوم العراق على إيران، حينما تعرضت كل الحدود الجنوبية والغربية للبلد لحملات جوية عراقية، حضر جميع المسؤولين والقادة، في حالة من الاضطراب، بين يدي الإمام والتقوا معه للحظات، فاكتسبوا على أثر ذلك روحية مختلفة، حيث كان أحدهم يقول: "... نسقطُ العراق، وآخر كان يقول: "نتقدم حتى بغداد..."(16).
"كان الإمام في نوفل لوشاتو يمشي كل يوم بعد صلاة الصبح والتعقيبات حوالي نصف ساعة. في أحد الأيام جاء البوليس الفرنسي مضطرباً حيث رأى أن الإمام كان يمشي وحيداً في الشارع، فكانت هذه المسألة أمراً غريباً بالنسبة إليه: كيف أن شخصية عالمية، وعلى الرغم من كل هذا العداء لها، تظهر بمثل هذه الجرأة في التجمعات، وتشارك في صلاة الجماعة"(17).
(1) سرة الطلاق، الآية 3.
(2) تم نقل هذا المقطع من كتاب "وصايا عرفانية"، وصية "بلسم الروح"، ترجمة السيد عباس نور الدين ومن إصدار مركز بقية اللَّه الأعظم عليه السلام للدراسات والنشر، ص59، 60 الطبعة الأولى 1998.
(3) مكارم الأخلاق ص468.
(4) صحيفة النور، ج1 ص40.
(5) المذكرات الخاصة، ج5، ص59، 60.
(6) شرح غرر الحكم، ج5، ص425.
(7) مجلة "نور العلم" الدورة الثالثة، العدد 7، ص164.
(8) المذكرات الخاصة، ج2، ص23،
(9) سورة العنكبوت، الآية 59.
(10) مجلة "باسدار إسلام" العدد 96، ص40.
(11) المذكرات الخاصة، ج2، ص84.
(12) "حديث الشمس"، ص117.
(13) المذكرات الخاصة، ج2، ص31.
(14) سورة الأنفال، الآية 45.
(15) جريدة "جمهوري إسلامي" بتاريخ 18، 4- 68هـ.ش. حديث الشمس، ص116.
(16) المذكرات الخاصة، ج2، ص58- 59.
(17) المصدر نفسه، ج1، ص57.
اليمن -مارب حريب
ابوعلي الخاشب
2022-06-23 19:30:55
هذه المجله هي السبب الرئيسي لانطلاقنا في الجهاد في سبيل الله فسلام الله على الامامين الخميني والخامنئي وعلى العاملين في هذه المجله العظيمه