إن الباعث على مختلف النشاطات والأعمال الحياتية للإنسان هو الوصول إلى السعادة والكمال النهائي الذي يطمح إليه كل إنسان، وإن تقويم هذه النشاطات وكيفية توجيهها مرتبط بتحديد الأهداف والغايات التي من ورائها، ومن هنا كان لمعرفة المبدأ والهدف النهائي للحياة دور أساسي في توجيه النشاطات واختيار الأعمال وتعيينها.
وفي الواقع إن العامل الرئيسي في تحديد طريقة الحياة يكمن في نوع الرؤية الكونية للانسان، ونظرته إلى نفسه وحقيقة كماله وسعادته. فمن يعتقد أن حقيقته ليست إلا مجموعة من العناصر المادية والتفاعلات المعقدة فيما بينها، ويرى حياته محددة بهذه الأيام القليلة للحياة الدنيوية، ولا يعرف لذة أو سعادة أو كمالاً آخر وراء هذه المنافع والمكاسب المرتبطة بهذه الحياة، فإنه سوف ينظم أعماله وسلوكه بما يشبع حاجاته الدنيوية ومتطلبات هذا العالم.
أما ذلك الذي يؤمن بأن حقيقته أوسع وأبعد من الظواهر المادية، ولا يرى في الموت نهاية الحياة، بل له إله وتصير إليه الأمور، وإن هذا العالم منعطف يعبر منه إلى عالم خالد باق، وأن أعماله الصالحة زاده الذي يؤمن سعادته وكماله في ذلك العالم، فإنه سوف يخطط وينسق نظام حياته بطريقة تكون معها أكثر عطاء وأفضل تأثيراً على حياته الأبدية. ومن جانب آخر فإن المتاعب والأخطاء والخسائر التي يواجهها في حياته الدنيوية لا تثبط عزيمته ولا تبعث فيه اليأس والقنوط، ولا تمنعه من مواصلة جهوده ونشاطاته في سبيل ممارسة وظائفه وبلوغ السعادة والكمال الأبديين.
ولا ينحصر تأثير هذين النوعين من معرفة الانسان في الحياة الفردية، بل إن لهما تأثيراً كبيراً وفاعلاً في الحياة الاجتماعية، وفي مواقف الأفراد وعلاقاتهم فيما بينهم، فإن للاعتقاد بالحياة الأخروية دوره المهم وتأثيره البالغ في رعاية حقوق الآخرين، والايثار، والإحسان إلى المحتاجين والمحرومين، وحين يسود المجتمع مثل هذا الاعتقاد فلا يحتاج كثيراً إلى استخدام القوانين والأحكام الصارمة لمكافحة الظلم والاعتداء على الآخرين.
ومن خلال هذه الملاحظات تتضح لنا أهمية مسألة المعاد وقيمة البحث فيها، وينكشف لنا سر اهتمام الأديان السماوية، وخاصة الدين الاسلامي المقدس. بهذا الأصل العقائدي، وسر بذل الأنبياء أقصى جهودهم في سبيل ترسيخ هذه العقيدة في النفوس وتثبيتها.
* اهتمام القرآن بالمعاد:
الملاحظ أن أكثر من ثلث الآيات القرآنية مرتبط بالحياة الأبدية. فهناك مجموعة من هذه الآيات تؤكد على لزوم الايمان بالآخرة، كما في قوله تعالى: "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون" (البقرة/ 4)، وتشير مجموعة أخرى إلى آثار إنكاره ومضاعفاته كما في قوله تعالى: "إن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم، عذاباً أليماً" (الإسراء/ 10)، وتبين مجموعة ثالثة أنواع النعم الأبدية من جهة وأنواع العذاب الأبدي من جهة أخرى كما في سورة الواقعة (على سبيل المثال)، كما أن هناك آيات كثيرة ذكرت العلاقة بين الأعمال الحسنة من جهة نتائجهما وآثارهما والسيئة من جهة أخرى، وأكّدت بأساليب مختلفة إمكان القيامة وضرورتها وتعرضت إلى الجواب عن شبهات المنكرين في أول سورة القيامة.
ومن خلال التأمل في الآيات القرآنية نتوصل إلى أن القسم الأكبر من أحاديث الأنبياء ومناظراتهم مع الناس كان يدور حول المعاد، لأن أغلب الناس كانوا يتخذون موقفاً أكثر عناداً وتشدداً من هذا الأصل أكثر من أي أصل آخر ولعل ذلك لأمرين:
أ – عامل مشترك مع سائر الأصول يتمثل في إنكار كل أمر غيبي وغير محسوس.
ب – عامل مختص بموضوع المعاد، وهو عبارة عن الرغبة بالتحلل وعدم الشعور بالمسؤولية الذي يفرضه الاعتقاد بوجود يوم الحساب.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا العامل القوي في قوله: "أيحسب الانسان أن لن نجمع عظام. بلى قادرين على أن نسوي بنانه، بل يريده الانسان ليفجر أمامه".
فالقرآن الكريم هنا بعد أن – يجيب على شبهة إمكان إعادة الميت إلى الحياة بردٍ قوي ومتين مستنداً إلى قدرة الله المطلقة التي لا يعجزها شيء. وحيث أن هذا الجواب أقرب إلى البداهة منه إلى الاستدلال والبرهان، أشار إلى أن الباعث الحقيقي لانكار المعاد هو إرادة الفجور والرغبة في اتباع الشهوات، ولا يكون ذلك إلاّ بالتحلل من الشعور بالمسؤولية في يوم الحساب، ومن هنا فقد أكدت بعض الآيات في القرآن أن السبب في الكثير من أنواع الضلال والانحراف هو نسيان أو إنكار القيامة ويوم الجزاء. قال تعالى: ".... إن الذين يضلون عن سبل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب" (ص/26).
فالباء في قوله تعالى "بما" هي باء السببية، أي أنهم ضلوا بسبب نسيانهم ليوم الحساب، وبالتالي فإن جزاءهم العادل هو العذاب الشديد.
خلاصة القول أن الانسان من أجل أن يتمكّن من أن يختار في حياته طريقاً يؤدي به إلى سعادته الحقيقية وكماله النهائي يلزم عليه أني فكر: هل تنتهي الحياة بالموت؟ أم توجد حياة أخرى بعد هذه الحياة؟ وهل الانتقال من هذا العالم إلى عالم آخر كالسفر من مدينة إلى أخرى، بحيث يمكنه توفير وسائل ومستلزمات المعيشة والحياة في تلك المدينة؟ أم أن الحياة في هذا العالم مقدمة وأرضية لحصول المسرات والآلام في ذلك العالم، وأنه لا بد أن يزرع الخير والعمل الصالح هنا ليحصد السعادة والنعيم الأبدي هناك؟
هذه جملة من المسائل لا بد من معالجتها، وإذا لم تعالج فلا يمكن للانسان معرفة الطريق، وتعيين نظام الحياة وطريقتها، وذلك لأنه إذا لم يتعرف على مصيره ومقصد سفره، فلا يمكنه تحديد طريق الوصول إليه.
* من أهل الآخرة؟
إذا أردنا أن نُمثّل للدور العظيم الذي يؤديه الاعتقاد بالمعاد في حياة الانسان فلعل أفضل مثال هو قصة ذلك الشاب التي يرويها الشهيد مطهري قده في قصص الأبرار. حيث يروي أن النبي ص ذهب إلى المسجد يوماً كعادته ليؤدي صلاة الفجر. فلما أتمّ الصلاة بالناس كان الظلام قد سحب أثوابه حذراً من أن يحرقها وهج الصباح. ولما أوشك الرسول ص على مغادرة المسجد إذا بشاب مصفرّ اللون قد ضعف جسمه ونحف، وغارت عيناه في رأسه.
فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أصبحت يا فلان؟
فأجاب الشاب: أصبحت موقناً يا رسول الله؟
فتعجب الرسول من قوله وقال: إن لكل يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟
فقال الشاب النحيل: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ نهاري فزهدت نفسي في الدنيا وما فيها، فكأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتمتعون في الجنة ويتعارفون على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مستغيثون وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي.
فالتفت النبي ص إلى أصحابه وقال: هذا عبد نوّر الله قلبه بالايمان، ثم أوصى الشاب قائلاً: إلزم ما أنت عليه.
فقال الشاب: ادعُ الله لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله ص فلم يلبث أن خرج في إحدى غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستشهد بعد تسعة أشخاص فكان هو العاشر.