آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآمليّ
إنّ العناصر المحوريّة لرسالة آخر ذخيرة إلهيّة، ليست إلّا تلك العناصر التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام جميعاً، التي يمكن تلخيصها بأمرين أساسيّين هما: إيقاد سراج الوحي، والحفاظ على سلامة مصباح العقل وبصيرة البشر.
العقل والبصيرة: عينا الإنسان
إنّ العقل والبصيرة في الإنسان بمنزلة العينين له، والمجتمع الذي يفتقد إلى مصباح ينير له الطريق؛ أي يفتقد العقل السليم والعين البصيرة، لن يقع في نهاية الأمر إلّا في جبّ التهلكة.
والبصيرة تأتي من إذعان العقل للوحي، وليُعلم، أنّ بين العقل والوحي كمال الانسجام والاتّحاد، فلا يمكن للوحي دون العقل، ولا للعقل دون الوحي، أن يوصلا المجتمع إلى الهدف المشهود. فلا العقل يمكنه أن ينهض بأداء دور الوحي، ولا الوحي يمكنه أن يُجزئ عن دور العقل؛ وذلك أنّ العقل هو الوحي الباطنيّ، كما أنّ الوحي هو العقل الظاهريّ. وعليه، فإنّ أحدهما ظاهرٌ والآخر باطنٌ، كما أنّ أحدهما هو قلب المجتمع البشريّ، والآخر مصباحٌ منير طريق البشريّة، فيجب الاستفادة من كليهما؛ لتصل سفينة البشريّة إلى برّ الأمان.
عناصر أساسيّة في رسالة الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف
فقد ظهر أنّ الحفاظ على مصباح الوحي وقّاداً منيراً متفتّقاً، والاهتمام بمكانة العقل، عنصران أساسيّان في رسالة الحجّة القائم بالحقّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ومن أراد أن يؤدّي الرسالة المذكورة، فينبغي له أن يحصل على دعامة أصيلة، ويستند إلى عمودٍ من نورٍ، وإلّا فلن يتمكّن من تحمّل ثقل مسؤوليّة الرسالة. وإذ لا مفرّ لقافلة البشريّة من مواصلة السير للوصول إلى مقصودها، وهو ما لا يتحقّق إلّا بأداء الرسالة حقّ الأداء، فلا بدّ حينئذٍ من وجود هادٍ ومرشدٍ للمجتمع الإنسانيّ، يُخرجه من ظلمات الحيرة، ويسوقه إلى وادي النور. وهذا الأمر خارج عن نطاق قدرة الآخرين وطاقتهم؛ لأنّهم إمّا لم يصلوا بعدُ إلى حدّ النصاب التامّ للكمال، وإمّا أنّهم يفتقدون الأسس المحكمة الثابتة.
فاقدو صلاحيّة الإرشاد
وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في خطابه لأهل الكتاب، الفاقدين صلاحيّة الإرشاد والمعروف؛ لفشلهم في أداء مهمّة الرسالة وهداية القافلة البشريّة: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾ (المائدة: 68). يستنكر القرآن الكريم على هؤلاء الجُهّال: بأيّ أساس، وبأيّ زاد تريدون أن تقيموا معارف التوراة والإنجيل؟ إنّ إقامة هذه المعارف المتأتّية من الوحي، تحتاج إلى نظرة عقليّة ومخزون توحيديّ، وروحٍ عاليةٍ مقتدرةٍ، ونفسٍ مطمئنّةٍ. فإنّ فقدانهم لهذه الكمالات، يجعلهم فاقدين لإمكانيّة السير على طريق إنجاز هذه الرسالة.
وعلى هذا الأساس، يخبر الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسالة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف صنو رسالة نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام؛ أي هي هدمٌ لرسوم الجاهليّة، وإحياءٌ لأركان الإسلام(1).
هندسة المدينة المهدويّة عجل الله تعالى فرجه الشريف
قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ (النور: 55). هذا الوعد الحتميّ إنّما يتحقّق عند تأسيس الدولة المهدويّة الكريمة، على أساس البيعة لله. وتقوم تلك الحكومة على أساس التوحيد في بنيتها التحتيّة، لتقيم ببنيتها الفوقيّة القسط والعدل؛ ولذا ورد في الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم السلام تسميتها بدولة الحقّ. ولمّا كان الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف المظهر التامّ لقوله تعالى: ﴿قَآئِمًا بِالْقِسْطِ﴾ (آل عمران: 18) كانت الحكومة التي سيشكّلها قائمةً على أساس العدل والقسط. ثمّ إنّ الله تعالى سيمنّ على المستضعفين في الأرض بظهور حكومة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، كما منّ على المؤمنين بالبعثة والرسالة: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ (آل عمران: 164)، كما يعدهم بوراثة لواء الإمامة الذي هو الميراث الإلهيّ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5)، وحينئذٍ، تعود الحياة إلى الأرض، وتمتلئ عدلاً بعد سباتٍ طويل، نشأ من سيادة الظلم والطغيان.
برامج الحكومة الإلهيّة
إنّ إثارة دفائن عقول البشر والارتقاء بمستواها، وإيجاد روح القناعة والغنى في الإنسان، من بين الأمور التي يضعها الوجود المبارك لإمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف على رأس برامج حكومته الإلهيّة، كما سيبادر إلى تطبيقها: "يملأ الله قلوب أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم غنى"(2).
تمثّل محاربة طواغيت العصر وفكرهم الفرعونيّ، نقطة انطلاق البرنامج الرسميّ لقيام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، كما أشار إلى ذلك حال ولادته، حين تلا عجل الله تعالى فرجه الشريف قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5). إنّ تلاوة هذه الآية المرتبطة بانتصار مستضعفي بني إسرائيل على مستكبري آل فرعون، تدلّ على أنّ قيام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف سيتمّ أيضاً عبر المشيئة الإلهيّة، ضمن ظروف مشابهة لقيام النبي موسى عليه السلام ضدّ قوى الظلم والجبروت الفرعونيّ. وكما أنّ قيام أفراد مؤمنين موحّدين مجاهدين من بني إسرائيل –مع إيثارهم وتضحياتهم- تحت قيادة وليّ عصرهم، قد أفضى إلى نجاة المؤمنين من أسر الفراعنة، وانتهى إلى محو فرعون وقومه من الوجود، وإقامة دولة حكومة العدل والقسط، كذلك سيحصل في فجر قيام إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، سينطلق المؤمنون المنتظرون اقتداءً بإيثار المجاهدين من السلف الصالح وتضحياتهم في طريق الحقّ، بالاستعانة بتوجيهات وقيادة إمامهم المعصوم؛ للقضاء على الوجود الفرعونيّ لذلك العصر، وإقامة حكومة الحقّ والعدل على يد حجّة الله البالغة عجل الله تعالى فرجه الشريف. وهي حكومةٌ ستقوم على يد أفضل عباد الله، ببركة تضحياتهم واستشهاد ثلّة منهم؛ لتؤتي الشجرة الإنسانيّة الطيّبة ثمارها بإذن ربّها.
غنى قلوب الأمّة
ثمّة رواياتٌ معتبرةٌ ترسم لنا هندسة المدينة المهدويّة، وتصوّر خصائص سكّانها، فتتكلّم عن العدل الاجتماعيّ، إلى جانب الحديث عن غنى قلوب الناس. وبعبارة أخرى، تستند أصول القانون الأساس لحكومة الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، المرتبطة بالوحي، إلى أُسس العدل وتعزيز روح الغنى والقناعة، كما وصف نبيّ الإسلام الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم سنّته وسيرته قائلاً: "ويملأ الله قلوب أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم غنى ويسعهم عدله"(3)؛ أي إنّ المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف يغني بإذن الله قلوب الأُمّة الإسلاميّة، وينشر العدل في سائر بقاع العالم.
نتحدّث عن بعض ملامح هذه الحكومة، في العدد القادم إن شاء الله.
(*) من كتاب: الإمام المهديّ الموجود الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف- الباب الثالث: من الظهور إلى المدينة الفاضلة - الفصل الثاني - بتصرّف.
1- الكافي، الكليني، ج 8، ص 36-42.
2- كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، الإربلي، ج 3، ص 285
3- (م. ن).