كثرٌ هم الذين جمعهم حبّها عليها السلام تحت مظلّة الولاية، فكان ضريحها قِبلة العاشقين الوالهين للذود عنها بدمائهم وأرواحهم، وكثرٌ هم من ارتقوا شهداء في حضرتها، فكانوا جنوداً مجهولين في الأرض، ولكنّهم معروفون عند أهل السماء.
في ما يأتي، نتابع سرد قصص ومواقف لأولئك الأبطال الذين بذلوا دماءهم في طريق حبّ العقيلة عليها السلام، وأخرى في كرامات المقام ومعجزاته.
* صلاةٌ من نوعٍ خاصّ
كان التكفيريّون يحاولون استهداف المقام بشتّى الطرق؛ إذ كانت القذائف تبدأ بالسقوط من بعد صلاة المغرب حتّى صباح اليوم التالي بمعدّل 50 قذيفة يوميّاً، وكان يسقط الشهداء نتيجة ذلك كلّ يوم. وفي أحد الأيّام، كان القصف متواصلاً، فتقرّر إغلاق الحرم في النهار، وحول ذلك يقول الأخ محمّد خان: "كنت قد نسيتُ إنارة الأضواء. وقبل المغرب بنصف ساعة تذكّرت ذلك، فهرعت إلى المقام لإنارته، ودخلتُ من الباب الخلفيّ، وإذ بصوت الأذان قد رُفع، فدخل الشباب إلى الحرم للصلاة، وكأنّه كُتب لهم أن يؤدّوها هناك! فشكرني الشهيد أبو تراب والمجاهدون على ذلك".
ويذكر لنا الأخ محمّد خان الذي يعمل في خدمة العقيلة منذ عام 1990م حادثةً أخرى عن سيّدةٍ عراقيّةٍ كانت تأتي إلى المقام، فيقول: "كانت هذه السيّدة تخاف من القصف كثيراً. ذات يوم، سقطت قذيفةٌ خارج سور المقام، فخافت وهرعت مغادرةً إلى منزلها. وبينما هي كذلك، وإذ بقذيفةٍ أخرى تسقط على مقربةٍ منها! في تلك اللحظة، شعرت بتأنيب الضمير، فكيف لها أن تترك السيدّة زينب عليها السلام بسبب قذيفة! فعادت أدراجها نحو المقام، ولكنّه كان مغلقاً، فلم تستطع الدخول. وفي الليل، رأت في منامها السيّدة عليها السلام تسألها: ما الذي يخيفك؟ فتجيبها: أخاف من القذائف، فتجيبها العقيلة: هذه القذائف كالمطر، وهل يخيف المطر؟!".
وبالفعل، فقد كانت تسقط كلّ يوم أكثر من 50 قذيفة، ولكن بمجرّد أن يشقّ النور طريقه في سماء صباح اليوم التالي، تعود الأمور إلى طبيعتها، وكأنّ شيئاً لم يحصل.
* عمران في دور "الشمر"
الشهيد عمران موسى كاظم، نموذجٌ آخر لأولئك الشهداء الشرفاء. فقد قَدِم مهاجراً من العراق عام 1995م، ليعمل بعد سنوات عدّة خادماً للمقام. كان يُعرف بلقب "عمران الشمر"؛ لأنّه كان يؤدّي دور الشمر في المسرحيّات التي كانت تُقام ليلة العاشر من محرّم، لصلابته وقوّته؛ إذ كان يتحمّل الضرب بالحجارة كرمى للإمام الحسين عليه السلام، والعقيلة زينب عليها السلام.
فهو في تلك المسرحية أدّى دور الشمر، ولكنّه في الواقع، أدّى دور أبي الفضل العبّاس عليه السلام في دفاعه عن العقيلة عليها السلام.
وقد خدم المقام لسنوات عدّة، وله الفضل في مكافحة السرقة والحفاظ على الانضباط هناك. تمتّع بشخصيّةٍ عفويّة، وكان مقداماً، وشجاعاً، ومحبّاً، يشارك في أيّ جبهة عندما يسمع صوت الرصاص، فيندفع من تلقاء نفسه دون انتظار التعليمات. وقد استشهد في شهر رمضان المبارك.
* جرأةٌ وبسالة
الشهيد عمران هو من ساهم في تأمين الطريق أمام الزوّار الذين قدموا في إحدى المرّات ضمن حملة لتحدّي الحصار حول مقام العقيلة عليها السلام وكسره، وأمّن لهم الطريق من المطار، باتّجاه مقام السيّدة رقيّة عليها السلام، ومنه إلى الحضرة الزينبيّة. كان يتحدّى المسلّحين باندفاعه، وعفويّته، وحبّه للعقيلة عليها السلام. وقد تأثّر الزوّار باستشهاده، وكذلك المجاهدون، وأهل المنطقة، حتّى بات قدوةً لجميع من عرفه.
* اندفاعٌ نحو الأمام
يذكر الأخ بلال أحد المشرفين على حماية الحرم، أنّ الشهيد عمران كان يتمتّع بروحيّة جهاديّة عالية، وقد ترك فراغاً كبيراً باستشهاده؛ لأنّه كان قد أشرف على تشكيل اللّجان والكثير من الأمور.
ويضيف الأخ بلال: "كان عمران سابقاً خادم المقام. تعرّفتُ عليه مع بداية الحرب، فوجدته إنساناً مقداماً شجاعاً غيوراً، ذا روحٍ أبيّة عالية، وهو من عناصر أمن المقام. كان يهبّ للمشاركة في أيّ معركةٍ دون أن يطلب منه أحد. وكان يرافق الشهيد أبا تراب".
ويضيف: "في أحد الأيّام، قطع التكفيريّون خطّ الكهرباء (66) عن المنطقة، وهو للتوتّر العالي. وعلى الرغم من أنّ المنطقة هناك كانت مكشوفةً أمام المسلّحين وقنّاصيهم، إلّا أنّ الشهيد عمران دخل محطّة الكهرباء، بالتعاون والتنسيق مع حزب الله وأمن الدولة، وراح يُمطر المسلّحين بالرصاص. لقد كان بحقّ مجاهداً مندفعاً، وغيوراً، وصاحب حميّة".
يتابع الأخ بلال قائلاً: "وفي أحد أيّام شهر رمضان، خرج الشهيد عمران عند الفجر مع مجموعةٍ عراقيّةٍ كانت مسؤولةً عن تلك الجهة، في معركة استرداد المطاحن، وقد استشهد عند الساعة الثامنة ليلاً وهو صائم. وكان التكفيريّون قد صوّروا جثمانه، وهم يسحبونه إلى داخل الصومعة. وبعد يومين، استرجعنا المطاحن، فوجدنا آثار دمه على الأرض. وقد أسر التكفيريّون جثمانه؛ لأنّه كان معروفاً، وله صور مع شخصيّات دينيّة وحزبيّة كثيرة".
* محاولات استرداد الجثمان
حاول الشهيد أبو تراب استرداد الجثمان في أكثر من عمليّة تبادل. وكان الإخوان قد استردّوا في أولى عمليّات التبادل تسعة جثامين كانت مدفونة، معتقدين أنّ جثمان الشهيد عمران من بينها، ولكنّهم فوجئوا أنّه وُضع مكانه جثمان أخ ٍعراقيّ آخر! وكان المجاهدون يترقّبون عودته لتشييعه؛ لأنّه كان محبوباً من الجميع. وعن عمليّة التبادل الثانية، يقول الأخ بلال: "كان الشهيد أبو تراب قد كلّفني بها. وكانت تقوم على مقايضة التكفيريّين بمبلغٍ من المال قيمته مليون ليرة سوريّة، مقابل جثمان الشهيد عمران. فدخل الوسيط منطقة الإرهابيّين، ولكنّه عاد بعد أكثر من ساعة خالي الوفاض!".
لقد كان الشهيد أبو تراب يشعر أنّه فقَدَ أخاً من إخوته، وحاول جاهداً وبشتّى الطرق الحصول على جثمانه، ولكن دون جدوى.
* ضاحكاً مستبشراً
للشهيد أبي تراب قصصٌ وحكايا كثيرةٌ ومميّزة يحدّثنا الأخ محمّد خان، خادم العقيلة، أنّ أغرب تشييع حصل في المقام، هو تشييع الشهيد "أبي تراب" (رحمه الله). فعندما أحضروه، كشفوا عن وجهه، وجدوه مبتسماً وكأنّه لم يفارق الحياة؛ إذ لم تتغيّر ملامح وجهه أبداً. فطافوا به حول المقام وهو على تلك الحال؛ ضاحكاً مستبشراً بما ينتظره في جنّة الخلد. والمجاهدون المشيّعون كانوا يرتدون لباسهم العسكريّ، ويحملون عتادهم.
* الضريح المبارك.. وطن الشرفاء
لا تستطيع الروح والنفس أن تشبع من قصص الشهيد أبي تراب ومواقفه، وبمزيدٍ من عبق الجهاد والشجاعة، يحدّثنا الأخ بلال، وهو صديق الشهيد أبي تراب، أنّ علاقته بالشهيد قديمةٌ منذ الطفولة، ولكنّ الشهيد لم يكن يُظهرها للعلن لأسباب أمنيّة. وقال أيضاً إنّ جدّ الشهيد كان من أقدم الخدّام في المقام، وأخواله ما زالوا يقومون بخدمة الحرم الشريف.
ويذكر الأخ بلال أنّ الشهيد أبا تراب كان يستعين به لأنّه ابن المنطقة ويعرفها جيّداً، وخصوصاً الجهة الغربيّة منها، جهة سواقي الماء والنهر... وأنّه كان دائماً يعقد اجتماعاته في حسينيّة السيّدة زينب عليها السلام، فيجلس هو إلى يمينه ويدوّن الملاحظات.
أمّا عن علاقة الشهيد بالمقام وروحيّته، فيقول الأخ بلال: "إنّه أمرٌ لا يمكن وصفه. وكانت علاقته بربّ العالمين مميّزةً جدّاً لناحية إيمانه، وصلاته التي كانت تمتدّ لساعات، ومواظبته على كلّ الصلوات المستحبّة، والأدعية، مضافاً إلى قيام الليل، والمواظبة على الوضوء، وزيارة الإمام الحسين عليه السلام. وكان مصحفه الصغير ذو اللّون الأزرق، رفيق جيبه الدائم.
وكان يحثّ الإخوة ويوجّههم للدفاع عن المقام دائماً؛ لأنّ العقيلة عليها السلام شرفهم، وهي الأولويّة قبل أيّ شيءٍ آخر، وهي الرابط بين المرء ووطنه؛ إذ من دونها لا وجود لوطن.
وحول الحادثة الشهيرة لرفع العلم فوق المئذنة، يقول السيّد بلال، إنّ الشهيد أبا تراب ومجموعته، كانوا قد دخلوا المقام آنذاك بسلاحهم وعتادهم، وكان يرافقه أيضاً الشهيد علاء البوسنة، وبعض الإخوة الآخرين.
* عهد الشهادة
كان الناس والزوّار والإخوة يشعرون بالأمان لوجود أبي تراب. لقد كان إنساناً مرتّب الهندام ومتعطّراً دائماً، وكأنّ رائحة الجنّة تفوح منه، وسبحته دائماً في يده. وهو من أوائل مجاهدي حزب الله ممّن دخلوا الحرم والضريح، وكان يصلّي لوقتٍ طويلٍ داخله. لقد ترك أثراً كبيراً في نفوس الجميع، وهو قائدٌ مثاليّ، كما ينقل عنه رفاقه.
أصيب الشهيد أبو تراب ليلة العاشر من محرّم، واستشهد في يوم العاشر. كان يطلب من الله الشهادة عند تأمين سلامة المقام وأمنه، وقد قطع عهداً على نفسه بذلك، وكان له ما تمنّى.
ولشدّة تعلّقه بالسيّدة زينب عليها السلام، فقد بات ليلته الأخيرة في المقام، وكان يرغب أن يُدفن بجوار الضريح، ولكنّه ترك الأمر للأهل، فكان قرار العائلة عودة الجثمان ليُدفن في لبنان.
يقول الأخ بلال إنّ الشهيد ترك فراغاً كبيراً بعد شهادته؛ لأنّه هو من نظّم اللجان والمحاور. وكان يتفقّد الحواجز والمجاهدين، ويستفسر عن أحوالهم ومشاكلهم، وكان يتقدّم المجاهدين في المعارك. لقد كان محبوباً من الجميع!
وهكذا هم الشهداء جميعاً يزرعون ورود المحبّة في قلوب الناس ويرحلون، ليبقى شذا عطرها فوّاحاً كلّما مرّ في الخاطر ذكرهم.