نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

معارف إسلامية: جمع القرآن الكريم


فضيلة الشيخ علي جابر


جاء في الأخبار وكلمات المؤرخين أن القرآن الكريم قد جمع على عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وفي العهود التي تلته، فماذا يقصد بهذا الجمع، وهل حصل حقاً أم لا؟ وبأي معنى؟
وأهمية هذا البحث تظهر بشكل واضح عندما نقف أمام المشككين بالقرآن الكريم وتواتره، والمثيرين لشبهات التحريف فيه، زيادة ونقيصة، فإن الجمع الذي يذكر في عهود الخلفاء وبالنحو الذي جاءت به تلك الأخبار، وعلى ما فيها من التعارض والتناقض، يفتح الباب واسعاً أمام تلك الشبهات.

1 ـ معنى الجمع:
إن جمع القرآن الكريم لا يخلو أن يقصد به أحد المعاني التالية:
1 ـ حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ولذا صح أن يقال لحافظ القرآن الكريم، جامعه".
2 ـ كتابة القرآن بآياته وسوره مفرقة على العكس (جريد النخل)، والرقاع (الجلد أو الورق) وغيرها من وسائل التدوين في ذلك العصر، بدون ترتيب بين السور وإن رتبت الآيات.
3 ـ كتابة القرآن الكريم في مصحف واحد مرتب الآيات والسور، ولا شك في أن كتاب الله عز وجل قد مرَّ تأليفه بمراحل متعددة ابتداءً من نظم الكلمات إلى تأليف الآيات ثم السور، وصولاً إلى ترتيب السور بين دفتي المصحف.
غير أن نظم الكلمات وتأليف الآيات وترتيبها في السورة الواحدة كان قطعاً فعله تعالى وهو ما يخرج ذلك عن الجمع الذي نحن بصدده.
قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر/9).
وقال تعالى أيضاً: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت/42).
فالقرآن الكريم يشهد على نفسه بعدم حصول زيادة فيه أو نقيصة.
ولتحديد معنى الجمع وحقيقته وزمن حصوله لا بد من القيام بقراءة تاريخية للقرآن الكريم ابتداءً من زمن البعثة النبوية الشريفة والسير معه إلى أن أخذ الشكل الذي عليه اليوم.

2 ـ القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
منذ أن نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دعا الناس إلى الرسالة وأبلغهم الوحي، وكان كلما نزل عليه شيء من القرآن علمه للمسلمين وحثهم على حفظه والتدبر فيه وشرح لهم من غوامضه ومعانيه ما جعله يرسخ في قلوبهم، وصار حفظه موجباً لرفعه قدر الإنسان المسلم في الدنيا والآخرة، فعن معاذ قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من رجل علَّم ولده القرآن إلاَّ توجَّه الله به يوم القيامة تاج الملك وكسي حلتين لم ير الناس مثلهما".
وكانت المرأة المسلمة تتزوج على تعلم سورة أو أكثر من القرآن فروي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واهبة نفسها له فقال: "مالي في النساء من حاجة، فقال رجل: زوجنيها؟ فقال: أعطها ثوباً. فقال: لا أجد. قال: أعطها ولو خاتماً من حديد؟ فاعتل له، فقال: ما معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا ـ قال: "زوجتكها بما معك من القرآن".
فكثر الحفَّاظ للقرآن الكريم حتى أنه قد قُتل منهم في السنة الرابعة للهجرة في (بئر معونة) سبعون حافظاً، وذكر ابن كثير أنه قُتل من الحفَّاظ بأرض اليمامة يوم قتال مسيلمة الكذاب وأصحابه من بني حنيفة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يقرب من الخمسمائة.
ولذا ذكر المؤرخون أن الحفَّاظ للقرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا بالآلاف.

وكان الحفظ للقرآن، على ما يبدو، سورة بعد سورة، وكوانوا يعرفون انتهاء السورة وابتداء أخرى من خلال البسملة، ففي تفسير العياشي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "كان يعرف انقضاء سورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداءً لأخرى".
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بكتابة القرآن الكريم على الرقاع والأكتاف والعسب، وقد اشتهر العديد من الصحابة بجمع القرآن، وقد جمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبأمره. فعن الإمام الصادق صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال له: "يا علي إن القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه وأجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة، وانطلق علي (عليه السلام) جمعه في ثوب أصفر وختم عليه).
ومن الواضح أن فعل جمع القرآن هنا هو جمع متفرقاته في موضع واحد دون ملاحظة ترتيب خاص بين سوره.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض السور كانت تفتتح بالبسملة وقبل أن تكتمل تفتتح بسورة أخرى، وربما اكتملت الأخيرة قبل الأولى ثم ينزل من الآيات ما يرجع إلى الأولى، فيأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوضعهما وكتابتهما في مكانهما، كما في سورة البقرة ـ مثلاً ـ التي بدأ نزولها أول الهجرة في المدينة واستمرت إلى ما بعد السنة السادسة حينما نزل قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما} (البقرة/158)، وذلك بعد صلح الحديبية في عمرة القضاء كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير العياشي، ومثله في تفسير الطبري.
ونخلص إلى نتيجة هي أن القرآن الكريم قد جمع خلال الفترة النبوية الشريفة في صدور المسلمين وعلى الرقاع والعسب ونحوه مدوناً ومرتب الآيات ضمن السورة الواحدة، ثم جمع كل ما نزل منه على يد أمير المؤمنين (عليه السلام) في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون ملاحظة ترتيب السور بنحو خاص.

3 ـ مع أمير المؤمنين (عليه السلام):
لقد ذهب أكثر العلماء إلى أن القرآن الكريم لم يكن مؤلفاً ومرتباً في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن ذلك إنما حصل بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى.
ومنهم العلامة الطباطبائي (قدس سره) في تفسيره (الميزان) حيث يقول: "إن القرآن لم يكن مؤلفاً في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن منه إلاَّ سوراً أو آيات متفرقة في أيدي الناس" (3/78).
وقال جلال الدين السيوطي في الإتقان (1/59): "قد كان القرآن كتب كله في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور".
ويذكر المؤرخون أن أول من جمع القرآن الكريم مرتباً بين سوره على ترتيب نزوله هو الإمام علي (عليه السلام)، وينقل السيوطي في (الإتقان) قال: قال الكلبي في (التسهيل لعلوم التنزيل): "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قعد علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ربيته فجمعه على ترتيب نزوله، ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير". ثم نقل السيوطي عن عكرمة أنه قال: "لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤالفوه كتأليف علي بن أبي طالب (عليه السلام) ما استطاعوا" (الإتقان 1/59).
وقد جاء في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) آلى على نفسه أن لا يضع رداءه على عاتقه إلاَّ للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه فانقطع عنهم مدة إلى أن جمعه فقدم فيه المكي على المدني والمنسوخ على الناسخ وهكذا.. وعن الإمام الباقر (عليه السلام): "ما من أحد من الناس يقول إنه جمع القرآن كله كما أنزل الله إلا كذَّاب، وما جمعه وما حفظه كما أنزل الله إلا علي بن أبي طالب".

والذي يبدو من الأخبار وكتب الحديث أن جمعاً من الصحابة أمثال زيد بن ثابت وأُبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وغيرهم قد قاموا بجمع آخر للقرآن الكريم على غير الترتيب الذي ألفه أمير المؤمنين (عليه السلام).
إلاَّ أن هذه المصاحف لم تدم طويلاً لأن عثمان قد جمع المصاحف في الأمصار وأمر بحرقها بدعوى أنها تسبب اختلافاً بين المسلمين لاختلاف ترتيبها وقراءتها وألزمهم بنسخة واحدة اختارها لهم. وقد روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك: "أرسل عثمان إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن وكل صحيفة أو مصحف أن يحرق".
وأما مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد رفضه القوم ولم يقبلوه وقد جرى توارثه بين الأئمة من ولده (عليهم السلام).
وحينما جاءه طلحة طالباً منه أن يخرج للناس المصحف الذي رفضوه أجابه: "فأخبرني عما كتبه القوم أقرآنٌ كله أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال طلحة: بل قرآن كله. قال (عليه السلام): "إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة". ونقل عنه (عليه السلام) أنه قال: "لا يهاج القرآن بعد اليوم".

وهذا الموقف من أمير المؤمنين (عليه السلام) حفاظاً على وحدة الأمة لكي لا يختلفوا في كتاب الله سبحانه بعدما كان ما بين الدفتين قرآن كله، وإن اختلف ترتيب سوره وبعض أموره الشكلية.
إلاَّ أن أمراً بقي عالقاً في تلك الفترة كان منشأ للاختلاف وكاد أن يؤدي إلى نزاعات وهو الاختلاف في قراءة القرآن الكريم والذي يعود بالدرجة الأولى إلى اختلاف اللهجات بين العرب ما يؤدي إلى الاختلاف في الحركات الإعرابية، وقد وصل الأمر بهم إلى أن يكفر بعضهم بعضاً كما نقل المؤرخون. وسنبحث في ما بعد مسألة قراءات القرآن الكريم بشيء من التفصيل.

وهناك رأي آخر يقول إن القرآن الكريم قد جمع كما هو اليوم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ينقل عن ابن الأنباري والكرماني والسيد المرتضى والبلخي ووافقهم السيد الخوئي (قدس سره) وأهم أدلتهم:
أولاً: أنه يستحيل عقلاً أن يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن موزعاً ومفرقاً وهو معجزة الإسلام والحجة على الأمة دون أن يحفظه ويجمعه ويؤلف آياته وسوره.
ثانياً: تناقض الروايات التي ذكرت بجمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعارضها مع الكتاب والإجماع فضلاً عن استلزام ذلك لدعوى التحريف في القرآن وهو ما لا يمكن قبوله.
لكن وجود الإمام علي (عليه السلام) بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة، وتحديد المقصود من هذا الجمع من جهة أخرى، واختلاف ترتيب السور عن ترتيب النزول لا يبقي محلاً لهذا الرأي.

4 ـ توحيد المصاحف:
اشتهر بين المسلمين أن عثمان بن عفان هو الذي جمع القرآن الكريم وهي شهرة لا أساس لها من الصحة، وقد اتضح مما سبق أن جمع القرآن الكريم قد حصل في زمن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم رتبت سوره ما بين الدفتين. وأول من قام بذلك هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإنما بقيت مسألة القراءات المختلفة للقرآن والتي توحدت على وجه واحد في زمن عثمان.
قال أبو عبدالله الحارث بن أسد المحاسبي وكما ينقل عنه السيوطي في (الإتقان): "المشهور عند الناس أن جامع القرآن هو عثمان، إنما حمل عثمان الناس على قراءته بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار".
ويذكر المؤرخون أن حذيفة بن اليماني بعد أن عاد من فتح أرمينيا وأذربيجان دخل على عثمان قائلاً له: "أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى" وكان أول من فكر من الصحابة في توحيد المصاحف، وقد وافقوه على ذلك ما عدا عبدالله بن مسعود كما جاء في (الكامل في التاريخ) لابن الأثير وغيره.

فشكل عثمان لجنة من الصحابة لتوحيد المصاحف على قراءة واحدة هي ما ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أواخر حياته.
وينقل السيد ابن طاووس في كتابه (سعد السعود) أن عثمان عاد وجمع المصحف برأي أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يؤيد ما ذكره الشهرستاني في مقدمة تفسيره.
وقد اختلف المؤرخون في عدد المصاحف التي استنسخت وأرسلت إلى أنحاء الدولة الإسلامية ما بين خمسة كما ذكر السيوطي، وتسعة كما عن اليعقوبي، في حين ذكر ابن الجزري أنها ثمانية، وأبو حاتم السجستاني أنها سبعة.
وأياً يكن العدد فإن هذا المصحف عرف بالمصحف العثماني، وقد كانت هذه المصاحف خالية من التنقيط أو التشكيل أو التجزئة إلى أجزاء وأحزاب وأعشار.. ومليئة بالأخطاء الإملائية والاختلاف في الخط.

5 ـ تشكيل القرآن وإعجامه:
(الشكل) هو العلامات التي تدل على الفتح والكسر والضم والسكون والتنوين.
وأما (الإعجام) فهو تمييز الحروف المتشابهة في الرسم كالباء والتاء والثاء والحاء والخاء والجيم، وكالسين والشين ونحوها.
فـ(الباء) المعجمة مع ما كان تحتها نقطة، والحاء المهملة هي الخالية من النقاط وهكذا، وبعبارة أخرى أن الإعجام هو تنقيط الحروف المتشابهة لتمييزها عن بعضها البعض.
ومما لا شك فيه في تاريخ العرب أنهم عرفوا الخط والكتابة قبيل الإسلام من خلال اتصال أفرادهم بأهل الشام والعراق فاقتبسوا الخط السرياني الذي كان منه الخط الكوفي، والخط النبطي الذي كان منه الخط النسخي المعروف اليوم.
وإن أول من وضع العلامات هو أبو الأسود الدؤلي تلميذ أمير المؤمنين (عليه السلام) وبتعليم منه. فقد ذكر أبو حيان التوحيدي في (البصائر والذخائر): "إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) سمع قارئاً يقرأ على غير وجه صواب، فساءه ذلك، فتقدم إلى أبي الأسود الدؤلي حتى وضع الناس أصلاً ومثالاً وقياساً بعد أن فتق له حاشيته ومهَّدله مهاده وضرب له قواعده".
وأما (أول من وضع نقط المصحف وحفظه من التحريف أبو الأسود الدؤلي صاحب أمير المؤمنين) كما ذكر السيد الصدر في كتابه (تأسيس الشيعة)، وقيل هو يحيى بن يعمر، وقيل إنه نصر بن عاصم، وهما تلميذان لأبي الأسود الدؤلي.
وعلى كل حال، فإن الفضل في ذلك كله يرجع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي لم يوفر جهداً إلا بذله ولا وسيلة إلاَّ أخذ بها لأجل حفظ القرآن الكريم وصيانته من كل تحريف.
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر/9).

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع