الشيخ بسّام محمّد حسين
إنّه كافل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وناصره والمحامي عنه، عمُّ النبيّ ومربِّيه، ومن أوّل المؤمنين به، ووالد الوصيّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وجدُّ الأئمّة الطاهرين عليهم السلام، قضى عمره في خدمة رسالته، وأوصى به عند وفاته. هو أبو طالب بن عبد المطّلب الهاشميّ المكيّ القرشيّ، شيخ البطحاء ومؤمن قريش الذي كتم إيمانه فأعطاه الله أجره مرّتين.
نحاول في هذه المقالة الإطلالة على بعضٍ من سيرته العطرة، وتضحياته العظيمة، بشكلٍ موجز.
* سيّد البطحاء
كان أبو طالب (رضوان الله تعالى عليه) شخصيّةً استثنائيّة؛ نظراً لما يتحلّى به من خصائص وصفاتٍ مميّزة، جعلت منه سيّد البطحاء، وشيخ قريش، ورئيس مكّة. حتّى قالوا: قلَّ أن يسودَ فقير، وسادَ أبو طالبٍ وهو فقيرٌ لا مالَ له، وكانت قريش تسمّيه: الشيخ(1).
وكان شيخاً وسيماً، عليه بهاء الملوك ووقار الحكماء. قيل لأكثم بن صيفي حكيم العرب: "ممّن تعلّمت الحكمة والرياسة، والحلم والسيادة؟ قال: من حليف العلم والأدب، سيّد العجم والعرب، أبي طالب بن عبد المطلب"(2).
* أوّل الناصرين
اتّخذ أبو طالب موقفه من حماية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن دعا عشيرته الأقربين يوم الدار، فقال أبو طالب: "ما أحبَّ إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشدَّ تصديقنا لحديثك. وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنّما أنا أحدهم غير أنّي أسرعهم إلى ما تحبّ، فامضِ لما أُمرتَ به، فوالله لا أزال أحوطُك وأمنعُك، غير أنّ نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب"(3).
قال الشيخ الأمينيّ قدس سره: "أراد بهذا السياق التعمية على الحضور؛ لئلّا يناصبوه العداء بمفارقتهم"(4).
فقال أبو لهب: "هذه والله السوء، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم". فقال أبو طالب: "والله لنمنعنّه ما بقينا"(5). وفي السيرة الحلبيّة: إنّ الدعوة كانت في دار أبي طالب(6).
عاش مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما ناف على الأربعين عاماً، يرعاه فيها، ويكفله، ويحنو عليه، ويدافع عنه، وينصره، ويبذل له ما لا يبذله الوالد لولده. حتّى قالوا: وكان يحبُّه حبّاً أكثر من حبّه لولده، وكان لا ينام إلّا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه(7).
فكان كثيراً ما يخاف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيات إذا عُرف مضجعه، وكان يقيمه ليلاً من منامه ويُضجع ابنه عليّاً مكانه(8).
* لماذا كتم إيمانه؟
إذا كانت حقيقة الإيمان بين العبد وربّه أمراً قلبيّاً، يمكن كتمه عن الآخرين، إلى الحدّ الذي يجتمع مع التظاهر بخلافه، فإنّ لأبي طالب (رضوان الله تعالى عليه) أن يختار طريقة الكتمان التي يراها أنفع في حماية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه، وخدمة دينه ورسالته.
وبتعبير العلّامة السيّد جعفر مرتضى قدس سره: إنّ سرّيّة إيمان أبي طالب عليه السلام، كانت ضرورةً لا بدّ منها؛ لأنّ الدعوة كانت بحاجةٍ إلى شخصيّةٍ اجتماعيّةٍ قويّةٍ تدعمها، وتحافظ على قائدها، شرط أن لا تكون طرفاً في النزاع. فتتكلّم من مركز القوّة لتتمكّن الدعوة من الحركة، مع عدم مواجهة ضغطٍ كبيرٍ يشلّ حركتها، ويحدّ من فاعليّتها(9).
وهذا ما أشارت إليه الرواية الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال حيث قال: "كان والله أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب مؤمناً مسلماً، يكتم إيمانه مخافةً على بني هاشم، أن تنابذها قريش"(10).
ولهذا نرى أبا طالب (رضوان الله تعالى عليه) يوصي وجوه قريش لَمّا حضرته الوفاة، بقوله: "وإنّي أوصيكم بمحمّدٍ خيراً، فإنّه الأمين في قريش، والصدّيق في العرب، وهو الجامع لكلّ ما أوصيكم به، وقد جاء بأمرٍ قَبِلَه الجِنان وأنكره اللّسان مخافة الشنآن"(11)؛ أي البغض.
* الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد أبي طالب
لم يكن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قومه أيّ سوء مدّة حياة أبي طالب، إلى أن مات (رضوان الله تعالى عليه)، فنالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم تكن تنال ولا تطمع به(12)، وأصابته بعظيمٍ من الأذى(13)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لَأَسرع ما وجدنا فقدك يا عمّ، وصلتك رحمٌ، وجُزيت خيراً يا عمّ"(14).
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "لما توفّى أبو طالب، نزل جبرائيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمّد، اخرج من مكة، فليس لك فيها ناصر، وثارت قريش بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم..."(15). وفي روايةٍ أخرى: "اخرج منها، فقد مات ناصرك"(16).
* عام الحزن
وقد سمّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم العام الذي توفّي فيه عمّه أبو طالب (رضوان الله عليه)، وتوفّيت فيه زوجته السيّدة خديجة (رضوان الله عليها) بعام الحزن(17).
واصفاً فقدهما أنّه مصيبة للأمّة بأسرها، كما هو صريح قوله في هذه المناسبة: "اجتمعت على هذه الأمة مصيبتان، لا أدري بأيّهما أنا أشدّ جزعاً"(18).
* من مقامات أبي طالب
أثنى أئمّة أهل البيت عليهم السلام على إيمان أبيهم أبي طالب (رضوان الله تعالى عليه)، وذكروا الثواب العظيم لعمله يوم القيامة، بما يناسب المستوى العالي لمقامه.
فعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إنّ أبا طالب من رفقاء النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً"(19).
وعن أبي جعفر عليه السلام: "... والله، إنّ إيمان أبي طالب لو وضع في كفّة ميزان، وإيمان هذا الخلق في كفّة ميزان، لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم"(20).
فسلامٌ عليك يا عمَّ الرسول الكريم، ويا أبا الأئمّة الطاهرين، يوم وُلدت، ويوم فُقدت، ويوم تُبعث حيّاً.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 1، ص 29.
(2) الكنى والألقاب، المحدّث القمّي، ج 1، ص 108.
(3) الغدير، الأمينيّ، ج 7، ص 352.
(4) (م. ن.)، ج 7، ص 353.
(5) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 2، ص 61.
(6) الغدير، (م. س.)، ج 7، ص 354.
(7) السيرة النبويّة، ابن كثير، ج 1، ص 242.
(8) الغدير، (م. س.)، ج 7، ص 357.
(9) الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، مرتضى العامليّ، ج 4، ص 60.
(10) وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 16، ص 231. (ط. آل البيت).
(11) روضة الواعظين، الفتّال النيسابوريّ، ص 140.
(12) السيرة النبويّة، (م. س.)، ج 2، ص 147.
(13) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، المدنيّ الشيرازيّ، ص 409.
(14) أعيان الشيعة، الأمين، ج 8، ص 115.
(15) الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص440 و449.
(16) شرح نهج البلاغة، (م. س.)، ج 4، ص 128.
(17) تاريخ اليعقوبيّ، ج 2، ص 35.
(18) السيرة النبويّة، (م. س.)، ج 2، ص 132.
(19) الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب، ابن معد الموسويّ، ص 82- 83.
(20) (م. ن.)، ص 84- 85.