نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الآداب المعنوية للصلاة: في الإخلاص


السيد عباس نور الدين


قد مر فيما ذكرنا سابقاً أن النية شرط في جميع العبادات بمعنى وجودها وصحتها. وحيث أن البحث عن وجود وتحقق النية قد انتهى متضمناً الحديث عن موانعها ومشاكلها، فإننا ننتقل الآن إلى صحة النية التي تعد شرطاً لقبول العمل عند اللّه تعالى، ومقدمة لتحصيل الآثار والثمار الطيبة والفوائد المعنوية للعمل في الدنيا والآخرة.

ومن المعلوم عند من تدبر في تعاليم الإسلام إن لكل عمل ظاهراً وباطناً. والحقيقة الباطنية للعمل الصالح هي ظهور حقيقة النية الصالحة. وربما يكون العمل بظاهره حسناً، ولكنه في الحقيقة خال من الآثار والفوائد المعنوية بسبب الخلل الواقع في التوجه والغاية منفعلة. فينقلب على صاحبه كما جاء في الحديث: "أن الملكين ليصعدان بعمل العبد مبتهجين، فيقول اللّه تعالى: اجعلوه في سجين، فيقولان: ولم يا رب؟ فيقول تعالى: "إنه ليس إياي أراد" وواضح من نص الحديث الشريف أن ظاهر العمل كان حسناً لأن الملائكة كانت ترفعه بابتهاج وسرور، ولكنه صار نارياً جهنمياً، بسبب خلو التوجه، أي النية فيه، من طلب الحق سبحانه.

وكذلك ما ورد عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: "إن الرجلين من أمتي ليقومان في صلاتيهما وركوعهما وسجودهما واحد والفرق ما بين صلاتيهما كالفرق ما بين السماء والأرض" حيث تشابهت الصورة الظاهرية للعمل (ركوعهما وسجودهما واحد)، ولكن شيئاً آخر ـ غير الظاهر ـ كان سبباً لتباعد العملين. وهذا الشيء هو الغاية من وراء العمل، أي النية.

إن جميع الأعمال حتى تكون مقبولة عند اللّه تعالى، ينبغي أن تراعي شرطين أساسيين.
الأول: موافقة الشرع الإلهي.
الثاني: الإخلاص في النية. وبالرغم من اتفاق الجميع على ذلك. فإننا نجد اختلافاً في تحديد الإخلاص بشكل دقيق والاتفاق على حدوده، لذلك سنرجع إلى الكلمات النورانية لسيد العرفاء الإمام الخميني العظيم حيث تعرض في كتابه "الآداب المعنوية للصلاة" لبيان حقيقة الإخلاص ودرجاته.

* معنى الإخلاص
يقول الإمام قدس سره: "وحقيقة الإخلاص تصفية العمل عن شائبة سوى اللّه، وتصفية السر عن رؤية غير الحق تعالى في جميع الأعمال الصورية واللبية والظاهرية والباطنية".
والسر هو باطن الإنسان. وقد يقصد به في مجال التفصيل إحدى مراتب وقوى النفس الإنسانية. والمعلوم الثابت في محله أن للإنسان ذاتاً واحدة هي حقيقته التي تصدر منها الأعمال بواسطة الأعضاء والجوارح. أن صدور أي عمل من النفس ينبع من الغاية التي يرد صاحبها تحقيقها أو الوصول إليها بواسطة العمل. وربما يتوسل البعض بالأعمال الصالحة والعبادات الشريعة للوصول إلى غايات غير مقبولة عند اللّه تعالى. فهذا النوع من الأعمال لن يكون مقبولاً عنده سبحانه، كما قال "لا أقبل إلا ما كان لي خالصاً" (حديث قدسي). وفي قوله تعالى:  ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة﴾ ِ  (البينة: 5) إشارة واضحة إلى هذا المطلب.
إن اللّه تعالى يريد من الإنسان العمل والباعث على العمل. وعلى السالك أن يجعل عمله موافقاً لإرادة اللّه. أن يجعل غايته موافقة لما يريد اللّه تعالى أيضاً. والأول يطلب في شريعة الإسلام الغراء الكاملة. والثاني أمر واحد في الجميع، وهو أن لا يطلب في عمله غير اللّه عز وجل، وفي الحديث أن اللّه تعالى يقول: "أنا خير شريك، من أشرك معي غيري وكلته إلى غيري".

لا يخلو أي إنسان من رغبة تدفعه للقيام بالعمل. وهذه الرغبة تنشأ من رؤيته لما قد ينتجه هذا العمل، فوجود الغاية أو الباعث أمر بديهي في جميع البشر. وهو المحرك الواقعي لكل عمل، بحيث لو فرضنا عدم وجود أية رغبة في عمل ما لانتفى هذا العمل ولم يتحقق. قال رسول اللّه صلى االله عليه وآله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات".
فما معنى أن لا يكون العامل غير طالب سوى اللّه؟.
وهل يمن أن يكون اللّه سبحانه غاية للإنسان؟.

لقد رأى البعض استحالة أن يعمل الإنسان عملاً لا يريد به نفعاً ومصلحة، وأن كانت في الآجل، لأن الإنسان مفطور على الرغبة والطمع. غاية الأمر أن على هذا أن لا يطلب الأمور الدنيئة والخبيثة في أعماله. فإذا طلب الحلال الدنيوي، صحت نيته. هذا فضلاً عن طلب الحلال الأخروي. والطلب المطروح هنا هو الباعث الغائي للعمل. وبعبارة أخرى هذا الطب يعبر عن الغاية التي يريد العامل تحقيقها والوصول إليها من خلال العمل. أما إذا كان طلب الحلال كوسيلة لا غاية، وكان الباعث على طلبه الأمر والإرادة الإلهية فهو في الواقع خارج عن محل بحثنا. وينبغي التأمل جيداً في هذا التمييز، لأن عدم الدقة ههنا قد يؤدي إلى الوقوع في شبهات كبيرة.

ولا تعترض ـ أخي القارئ ـ على هذا التمحيص والتدقيق. لأننا نتناول أهم وأخطر موضوع في التعاليم الإسلامية على الإطلاق. وأن التساهل في هذا الأمر قد يجر إلى عواقب وخيمة. ونحن إذا قلنا بأن سير الإنسان وسلوكه يختصر في البحث عن الإخلاص والسعي نحوه فلا نبالغ بتاتاً. أن السالك بحق هو الذي لا يرى مسؤولية أعلى وأولى من تحقيق الإخلاص. وهو يتوسل بكل عبادة شرعية ومجاهدة قلبية للوصول إلى هذا المقام. يقول الإمام الخميني قدس سره:
 أن اللّه تعالى قد اختار لنفسه الدين الخالص. فإذا كان لشيء من الحظوظ النفسانية والشيطانية دخل في الدين، فلا يكون خالصاً. وما ليس بخالص فإن اللّه لم يختره. وما كانت فيه شائبة الغيرية والنفسانية فهو خارج عن حدود دين الحق". (الآداب : ص 294).
فرغم صريح البيان، فقد أنكر هؤلاء معنى وصول الإنسان إلى اللّه ، وأولوه بمعنى الوصول إلى الحظوظ والمشتهيات النفسانية، وذلك لأن اللّه عندهم مجهول، وهم لا يدركون من الواقع سوى المادة والماديات. لذلك تراهم يصفون الجنة بالحور والقصور والأنهار التي هي من سنخ عالم الطبيعة،. ولا يعني ذلك إنكار الجنات الجسمانية أنما الاعتراض على حصر الوجود بالمادة. أن هؤلاء لا يتميزون من ناحية سعة الإدراك وعمقه عن الماديين الذين أنكروا وجود اللّه سوى بشيء واحد وهو أنهم وسعوا حدود الوجود المادي ليشمل عالم ما بعد الموت.
ومثل هذا القصور في الإدراك هو السبب في صعوبة تناول قضايا، كالإخلاص، وتصورها بشكل صحيح.

وقال آخرون أن الوصول إلى اللّه تعالى يعني الوصول إلى الكمالات المعنوية (بالإضافة إلى اللذات الجسمانية).وان الإنسان لا يمكن أن يخلو من الرغبة والطمع لأنه مفطور على ذلك، غاية الأمر أن عليه أن لا يقتصر في طلبه على الحظوظ الجسمانية، بل عليه أن يكون طالباً للكمالات المعنوية، وإن في الأجل.

وهؤلاء، وان ارتفعوا رتبة، حيث أدركوا عوالم ما فوق المادة، وآمنوا بوجود وواقعية غير المادة.إلا أنهم لم يصيبوا حقيقة الإخلاص. ونعود للتأكيد مجدداً على أن طلب الكمالات المعنوية، إذا كان الباعث إليه هو اللّه، فهو خارج عن بحثنا هنا. لأن هذا الطلب وسيلة والبحث عن الغاية. يقول الإمام قدس سره:
"فالسفر إذا كان في مراتب النفس، وللوصول إلى الكمالات النفسانية فليس بسفر إلى اللّه، بل هو سفر من النفس إلى النفس".
فجميع الكمالات النفسانية وأعلاها لا ينبغي أن تكون الباعث ولا الغاية من العمل ـ لأن هذا ينافي الإخلاص لله تعالى ويقول الإمام أيضاً: "وإذا كان السالك في سلوكه إلى اللّه طالباً لحظ من الحظوظ النفسانية ولو كان الوصول إلى المقامات، بل ولو كان هو الوصول إلى قرب الحق بمعنى وصول نفسه إلى الحق فليس هذا سلوكاً إلى الحق. بل السالك لم يخرج بعد من البيت فهو مسافر في جوف البيت من ركن إلى ركن ومن زاوية إلى زاوية".

وإذا كان المطلوب تخلية الباعث من أية شائبة سوى اللّه تعالى حتى ولو كان الوصول إلى مقام قربه بمعنى إيصال النفس إليه فكيف يتحقق ذلك؟! وهل يمكن أن يسعى الإنسان بدون باعث أو رغبة لنيل فائدة؟! أليست هذه فطرة ؟التي فطر الناس عليها؟! ثم ألا يعد ذلك تكليفاً بغير المقدور؟!.

ولعل الإجابة عن كل هذه التساؤلات تحصل من خلال قراءة هذا التجربة السلوكية للعلامة الطبطبائي قدس سره، والتي يذكرها تلميذه الطهراني في رسالة لب اللباب حيث يكتب:
"ويشير إلى نفس المطلب ما يصرح به البعض في تعيين المنازل الأربعة، الأول: ترك الدنيا، الثاني: ترك العقبى، الثالث: ترك المولى، الرابع: ترك الترك، فتدبر. والمراد من نبذ الطمع عند السالكين هو هذه المرحلة العظيمة والعقبة المشكلة. وعبورها في غاية الصعوبة. وليس تحصيلها بالهيّن. لأن السالك في هذه المرحلة بعد التأمل والتدقيق يجد أنه لم يكن خالياً من النية في تمام مراحل السير. بل كان له غاية ومقصود في سويداء قلبه. وإن كانت تلك الغاية هي العبور من مراحل الضعف والنقص والوصول إلى الكمال والكمالات. ولو سعى السالك ـ عن طريق تجريد الذهن، والضغط على نفسه مرات عديدة ـ ليعبر هذه العقبة ويجرد نفسه من هذه المعاني والمقاصد فلن يحصل على أية نتيجة. لأن نفس هذا التجريد مستلزم لعدم التجريد. وذلك لأن هذا التجريد لم يكن من السالك إلا لداع وغاية، وهذا النظر إلى الغاية دليلا وعلامة على عدم التجريد.

وذات يوم طرحت هذا السر على أستاذي المرحوم الميرزا علي القاضي رضوان اللّه عليه والتمست منه حل هذه المعضلة، فقال: يمكن حلها بواسطة اعتماد طريقة الإحراق. وذلك بأن يدرك السالك حقيقة أن اللّه تعالى خلقه مفطوراً على هذه الصفة، وكلما أراد أن ينبذ الطمع لن يحصل على نتيجة. لأن فطرته جبلت عليه. فسعيه لنبذ الطمع عن نفسه مستلزم لطمع آخر. لأنه لا يسعى لذلك إلا طمعاً في الحصول على مرتبة أعلى من التي هو فيها، وهكذا إلى أن يشعر بالعجز التام عن التخلي عن هذه الصفة. فلا يجد حينئذ مفراً سوى اللجوء إلى اللّه تعالى وتوكيل الأمر إليه. وهذا الشعور بالعجز كفيل بأن يحرق بناره جذور الطمع في نفسه، فيعود السالك بعدها نزيهاً طاهراً" (رسالة لب اللباب: ص 119).

ولهذا يقول الإمام قدس سره:

"ولكن لا بد من هذا السفر في سفره إلى اللّه، ولا يقدر أحد أن يسافر السفر الرباني من دون السفر النفساني غير الكمل من أولياء اللّه...".
ومرجع الكلام إلى تقسيم السالكين إلى فئتين. المجذوب السالك والسالك المجذوب. والأول هو الذي كان سلوكه ثمرة وصوله. فلم يحتج إلى عبور مراتب التصفية للوصول إلى اللّه. لأنه كان خالياً منذ البداية من المقاصد النفسانية بسبب الجذبة الإلهية التي أحرقت كل جبال انيته. أما الثاني فإنه يسلك للوصول إلى هذا المقام المعبّر عنه بالفناء الذي يكون بحصول الجذبة عد السلوك وعبرو مراتب تصفية العمل والسير مما سوى اللّه تعالى.
للحديث صلة
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع