الشهيد الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه)
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 21–24).
صدق الله العليّ العظيم.
يخاطب القرآن الناس جميعاً ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾. بمَ خاطبهم؟ ما المطلوب منهم؟ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾؛ ﴿اعْبُدُوا﴾ فعل أمر، إذاً هناك أمرٌ بالعبادة، فما هي العبادة؟ طبعاً العبادة حسب المفهوم المعروف عند الناس، أنّها الصلاة، والصوم، والحجّ، وغيرها، وهذا خطأ. فالصلاة إذا كانت لله فهي عبادة، والصوم إذا كان لله فهو عبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان لله فهو عبادة، والجهاد إذا كان لله فهو عبادة؛ ولكن مع هذا تبقى كلمة العبادة أوسع من هذه الأمور، فما هي العبادة الحقيقيّة؟
• العبادة الحقّة
العبادة بالدقّة هي الطاعة بلا نقاش، وبلا تردّد، ودون شروط، إلّا شرط الربوبيّة والألوهيّة. قد يأتي أحد ويقول: إنّ أيّ طاعة هي عبادة؛ مثل طاعة المرء لأمّه وأبيه، أو رئيسه، أو مسؤوله. ولكن في الواقع إنّها ليست عبادة؛ لأنّها طاعةٌ بشروط. فعلى سبيل المثال: إذا كان الإنسان يعمل في أيّ مؤسّسة، بمجرّد أن ينتهي دوامه يشعر أنّه أصبح في حلٍّ من إطاعة هذا المسؤول، وإذا ما طالبه الأخير بمزيدٍ من العمل، يقول له: أنا غير مستعدّ لذلك؛ لأنّني أنهيتُ ساعات العمل المطلوبة منّي، وأنا لستُ مجبراً على إطاعتك خارج هذا الدوام. إذاً، إطاعتي لرئيسي في العمل إطاعةٌ مشروطةٌ بالعمل، مرتبطةٌ بعقد أنا فيه طرفٌ مساوٍ للطرف الآخر، وهذا الرئيس ليس أفضل منّي (المرؤوس)، وفقاً لوجهة نظر الإسلام. كما إنّ طاعة الابن لأبيه لا تُسمّى عبادة؛ لأنّه لو أمر الأب ابنه مثلاً بما لا يُرضي الله، لا يلتزم الأخير. إذاً، أنا لا أطيع أبي في الشؤون كلّها، بل أطيعه في ما أمرني الله أن أطيعه به، أو في ما يفرضه عليّ الخُلُق.
هذا فيما خصّ علاقة البشر بعضهم ببعض، أمّا العلاقة بالله سبحانه وتعالى فهي مختلفة تماماً، حيث الطاعة له مطلقة غير مقيّدة بحدود؛ إذا أمرنا الله، فيجب أن نمتثل له، ونحن هنا لسنا طرفاً في عقد طاعة؛ لأنّنا لسنا ندّاً لله وشركاء له، وإنّما نحن مخلوقات الله وعباده.
• غنيٌّ حميد
هناك مثل شائع يقول: "ساعة إلك وساعة لربّك". إنّ هذا الكلام غير صحيح لسببين:
الأوّل: إنّ الله لا يحتاج إلى ساعات منّا في الأساس، ويجب أن لا نتعامل معه كربّ العمل الذي ندين له بساعات للعمل؛ لأنّ ما نطيع به الله يعود نفعه علينا، وليس لله فيه أيّ ضرر أو نفع، ولو كفر الناس جميعاً، فإنّ الله غنيٌّ حميد.
الثاني: حتّى لو فرضنا أنّ هذه الطاعة التي أمرنا الله بها ليست لفائدة الإنسان، لا يحقّ لنا أن نقول له: لكَ ولي؛ لأنّنا لسنا شركاءه، ولسنا في منزلته، وإنّما نحن عباد له فقط.
إذاً، لا نقاش في هذه العبادة؛ لأنّها من جهة لمصلحة الإنسان، ومن جهةٍ أخرى لأنّ من حقّ الله علينا، بعدما خلقنا، ورزقنا، وأعطانا القوّة والحواس، أن نطيعه ونعبده.
• أهلاً للعبادة
عندما قال الإمام عليّ عليه السلام: "إلهي، ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، وإنّما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك"(1)، ما الذي كان يقصده؟ معنى هذا الكلام أنّه لو فرضنا أنّه لا يوجد نار أبداً، وأنّ الله لا يُعذّب العاصي بالنار، مع ذلك فإنّ الإمام عليه السلام يعبد الله تعالى الذي خلقه وأوجده؛ لأنّه يستحقّ العبادة. ولو فرضنا أيضاً أنّه لا توجد جنّة، فإنّ الإمام عليه السلام يعبد الله كذلك؛ لأنّه يستحقّ العبادة وهو أهلٌ لها. وهذا التفسير ينقض ما يعتقده بعض الناس، من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يخاف من النار؛ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ الإمام عليه السلام كان إذا ذُكرت النار أمامه تأوّه؛ لأنّه يخشى الله حقّ الخشية: "آهٍ من نارٍ تُنضج الأكباد والكِلى، آهٍ من نارٍ نزّاعة للشوى..."(2)، وكان عليه السلام في بعض الأحيان يُغشى عليه وهو يردّد هذا القول. ويُروى أنّه نشب حريق في بيت الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام ذات يوم وهو يصلّي، فلم يلتفت، فلمّا قيل له فيما بعد: "يا سيّدي، كيف لم تلتفت إلى النار؟"، قال: "ألهتني عنها النار الكبرى"(3).
• الطاعة بلا اعتراض
إذاً، العبادة هي الطاعة بلا اعتراض على أيّ مسألةٍ أو حكم شرعيّ. ولا يحقّ لأيّ أحد أن يقول: "هذه المسألة غير منطقيّة". من نحن حتّى نقول ذلك؟ إنّ من يتفوّه بهذا الكلام هو مغرور، والغرور هو إحدى صفات إبليس التي يمقتها الله، إذ قال إبليس: أنا أفضل من آدم، خلقته من طين وخلقتني من نار.
بناءً عليه، إنّ الله سبحانه وتعالى لم يُخضع أحكامه لعقولنا؛ لأنّ عقولنا لا تستطيع أن تدركها: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّاَ قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 85). مضافاً إلى أنّ عبادةً كهذه، هي عبادة غير صحيحة؛ لأنّه لا يصحّ أن نعبد الله في أمر ولا نطيعه في آخر. كما أنّ الله ليس إنساناً حتّى نناقشه، فهو لا يُناقش؛ وعلينا أن نطيعه بشكل مطلق..
• ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾
لماذا نعبد الله تعالى؟ إنّنا نعبد الله لأنّه خلقنا، فوجب علينا أن نأتمر بأوامره وننتهي بنواهيه، وهو الوحيد الذي يحقّ له أن يحلّل ويحرّم، ولا يحقّ لأيّ إنسان أن يسنّ القوانين الإلهيّة: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59). أمّا حدود صلاحيّة الإنسان في سنّ القوانين، فهي في إطار المؤسّسة التي يديرها وينفق عليها. إذاً، بما أنّ الله هو الذي خلقنا، فهو الوحيد من يملك الحقّ في إصدار القوانين. فالله خلقنا وخلق الذين من قبلنا؛ أي أنّ الخلق كلّه بيد الله، قديمه وحديثه، ومن سيأتي في المستقبل، فوجبت العبادة على الناس انطلاقاً من أنّ الله خلقهم. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ إذا لم نعبد الله ربّنا، فلسنا بمأمن من سخطه، ولا من عذابه، لا في الدنيا ولا في الآخرة. فالتقوى حاجزٌ بيننا وبين سخط الله.
• نِعَمٌ لا تُعدّ ولا تُحصى
لو تفكّرنا في نعمة الماء فقط، لأدركنا عظمة الخالق: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا﴾ (الواقعة: 68-70) (المُزْن: الغيوم)؛ بمعنى أنّ الله قادر على أن يُسقط علينا مطراً شديد الملوحة كماء البحر، فلو حصل ذلك، ماذا سيفعل الناس حينها؟
﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ﴾ (البقرة: 22)؛ والله أخرج بالماء رزقاً لنا؛ أي ثمراً من مختلف الأشكال والأصناف، وذلك كلّه منه وبقدرته تعالى.
• لا شريك له
﴿فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 22)؛ إنّ هذه النعم كلّها، من الرزق والطعام والشراب والمطر، لا يستطيع أيّ أحد أن يحصيها، كما لا يحقّ لأيّ إنسان أن يكون شريكاً وندّاً لذلك الخالق الذي رفع السماء فوقنا، وبسَط الأرض تحتنا، ورزقنا من الطيّبات، أو أن يطيعه ويعبده وفق هواه.
(*) درس ثقافي بتاريخ 11/5/1981م.
1.روضة المتّقين، محمّد تقي المجلسي، ج2، ص41.
2. مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج1، ص389.
3.(م.ن)، ج3، ص290.