حسن الطشم
كيف يتعامل من يدعونه اليوم مثقفاً مع مهمته؟
كيف يواجه الأزمة ويخرج من عنق الزجاجة لكي يتحوّل إلى قوّة مجتمعية فاعلة؟
وأين أصبحت اليوم الأحلام والمشاريع التي سعى المثقفون إلى تحقيقها تحت شعارات التنوير والتقدّم والحرية والعدالة وحقوق الإنسان وغيرها؟
إنّ العقلية الاستلابية التي تسم أغلب المثقفين العلمانيين الحالمين بتغيير الواقع دفعتهم إلى التعلّق والمناداة بالكلمات الوافدة من الغرب، كأنّ مجرد الحماس لها يؤدّي إلى تطبيقها وكما هي جاهزة ومعلّبة من الغرب، وهذا ما أدّى إلى خواء المصطلح من معناه لأنّه وإن كان يتمتّع ببريق وجاذبية ظاهرتين فإنّه أولاً بحاجة إلى إعادة نظر ووضع تحت مجهر القيم التي يؤمن بها المثقف إيماناً حقيقياً راسخاً لا آنياً محكوماً ببعض التأثرات الغربية الخارجية، هذا من جهة ومن جهة أخرى لا بدّ من وضع هذه الشعارات ذات الجاذبية كالحرية وحقوق الإنسان والتنوير والعدالة في الإطار الذي ينسجم مكانياً وزمنياً مع منظومة القيم التي هي عند الشعوب موضع احترام وتقدير بل وتقديس، ولهذا كان من الأفضل أن لا تنحو خطابات المثقفين الغربيين والشرقيين أمثال ماركس وراسل وسارتر من دون الالتفات إلى الأرضية العربية والإسلامية التي يقفون عليها.
ولعلّ المشكلة الأهم تكمن في التصور الخاطئ عن هذه المفاهيم والأفكار التي كان لها عند المثقفين العرب تصوراً نموذجياً أفضى إلى إقحامها في قلب مجتمعاتنا الحية والمتحركة والتي تختلف كما ذكرنا عن المجتمعات التي نشأت فيها هذه الأفكار الديمقراطية التي لم يُعد المثقفون النظر فيها نقداً وفحصاً واختباراً على أرض الواقع، بل أخذتها جاهزة دون تعديل أو ترميم بل كانت النظرة إليها نظرة مثالية محفوفة بهالة من القداسة.
لقد انساق المثقف العربي وراء طوباوياته مسنداً إلى نفسه بخيلاء دوراً خلاصياً ناسياً أو متناسياً دوره الذي يطايف إمكانياته ويطابق الحاجة الموضوعية لهذا الدور الذي لا غنى عنه لفهم ما يجري في العالم الإسلامي والإقليمي والعربي ولتجنيد رؤيته في خدمة مشاريع قابلة للتحقيق. ونكاد نقول أنّ السياسة المجرّدة من أفكار المثقفين يفتقدها الكثير من أسباب الوضوح ولكن ضمن الحدود التي لا يفهم منها أنّ دور المثقف يختصر ويلغي دور الآخرين على نحو ما فهمه هو نفسه في غمرة انغماسه في ادعاءاته الرسولية على ما يقول أحدهم. هذه الادعاءات التي أدّت به إلى السقوط في دائرة الذين يواجهون إرادة شعوبهم والمتورطين في الاستلاب الثقافي ناسياً حالة الهيمنة الاقتصادية والسياسية الغربية علينا واضعاً نفسه قبالة قوى التغيير الثقافي الإسلامي المرشحة للقيام بالدور الأكبر في الدفاع عن مصالح الأمّة وهويتها مجنداً أفكاره وثقافته لمهاجمة ما أسماه الأصولية الإسلامية الأمر الذي أدّى إلى نزيف ثقافي وإهدار لطاقات كان يجب أن تكون على جبهة أخرى هي جبهة الذود عن القيم الإسلامية الأصيلة ضدّ كلّ أشكال الاستهلاك والإحباط الثقافي التي يعمل الغرب جاهداً على تعميمها في أوساطنا الاجتماعية والثقافية.
إنّ الصدام بين المثقفين الإسلاميين وغيرهم من المثقفين العرب منذ الخمسينات إلى نهاية السبعينات أدّى إلى تشقّقات واسعة في الساحة الثقافية المناوئة لمشاريع الاستكبار العالمي الثقافية، فالغرب يملك قضية أخرى غير فرض هيمنته السياسية والاقتصادية وهذه القضية هي توحيد العالم بالقوة تحت راية نموذجه الحضاري.
إنّ أزمة المثقف العربي اليوم حقيقةً تكمن برؤيته الكونية، هذه الرؤية الخاطئة التي أفرزت علاقة متوترة وغير صحيحة مع الحقيقة ونجم عنها بالتالي هذا التنميط في معالجة مشكلاتنا الثقافية الراهنة.
لا بدّ للمثقف العربي اليوم من مراجعة تجربته الوجودية بمجملها رؤية وموقفاً ومنهجاً.