مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قيادة الإمام الصادق عليه السلام مرحلة الإمام الباقر عليه السلام (1)

الإمام الخامنئي (حفظه الله)


في معرض حديثه عن حياة الإمام الصادق عليه السلام وقيادته للأمة، تعرض الإمام القائد (دام ظله) في الحلقات السابقة إلى مراحل الإمامة التي سبقت، في الحلقة الماضية تحدث عن مرحلة الإمام السجاد عليه السلام ووصل الكلام إلى الإمام الباقر، فما هي السمات البارزة لهذه المرحلة؟

أصبح أتباع أهل البيت مجموعة متميزة ذات وجود مستقل، ودعوة أهل البيت التي اعترتها وقفة واحتجبت وراء ستار سميك بسبب حادثة كربلاء وما أعقبها من حوادث دموية كوقعة الحرّة وثورة التوابين وبسبب بطش الأمويين، قد أصبح لها وجود منتشر وواضح في كثير من الأقطار الإسلامية خاصة في العراق والحجاز وخراسان، وأصبح لها "تنظيم" فكري وعملي. وولّت تلك الأيام التي قال الإمام السجاد عليه السلام عنها: إن أتباعه ما كانوا يزيدون فيها على عشرين شخصاً. وأضحى الإمام الباقر عليه السلام يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فيلتف حوله جمع غفير من أهل خراسان وغيرها من أصقاع العالم الإسلامي، يسألونه عن رأي الإسلام في مختلف شؤون الحياة. ويفد عليه أمثال طاووس اليماني وقتادة بن دعامة وأبو حنيفة وآخرون من أئمة المذاهب الفقهية لينتهلوا من علم الإمام أو ليحاجّوا في أمور مختلفة. وبرز شعراء يدافعون عن مدرسة أهل البيت، ويُعبّرون عن أهدافها، منهم الكميت الذي رسم في هاشمياته أروع لوحة فنية في تصوير الولاء الفكري والعاطفي لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتناقلت الألسن هذه الروائع الأدبية وحفظتها الصدور.

ومن جهة أخرى فإن خلفاء بني مروان أحسّوا خلال هذه الفترة بنوع من الطمأنينة وشعروا بالاستقرار بعد أن استطاع عبد الملك بن مروان (ت86هـ) خلال فترة حكمه التي استمرت عشرين عاماً أن يقمع كل المعارضين. وقد يعود شعور الخلفاء المروانيين في هذا العصر بالأمن والاطمئنان إلى أن الخلافة وصلتهم غنيمة باردة، لا كأسلافهم الذين كدحوا من أجلها مما أدّى إلى انشغالهم باللهو والملذات التي تصاحب الشعور بالاقتدار والجاه والجلال.
مهما يكن الأمر فإن حساسية خلفاء بني مروان تجاه مدرسة أهل البيت قد قلّت في هذا العصر، وأصبح الإمام وأتباعه في مأمن تقريباً من مطاردة الجهاز الحاكم.

وكان من الطبيعي أن يقطع الإمام خطوة رحبة في ظل هذه الظروف على طريق تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت، ويدفع بالشيع نحو مرحلة جديدة. وهذا ما يميّز حياة الإمام الباقر عليه السلام.

ويمكن تلخيص حياة الإمام الباقر عليه السلام خلال الأعوام التسعة عشر من إمامه(95 ـ 114هـ) بما يلي:
إن أباه الإمام السجاد عليه السلام عندما حضرته الوفاة أوصى أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر أبنائه وعشيرته وسلّمه صندوقاً.. تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم... وتذكر أن فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: "يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك. ثم قال: أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم. ولكنه كان مملوءاً علماً". لعل هذا الصندوق يرمز إلى أن الإمام السجاد سلّم ابنه محمداً مسؤولية القيادة الفكرية والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم) وسلّمه مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي).
مع بدء الإمام وأتباعه بنشاطهم الواسع في بث تعاليم أهل البيت عليه السلام يتسع نطاق انتشار الدعوة، ويتخذ أبعاداً جديدة تتعدى مناطقها السابقة في المدينة والكوفة، وتجد لها شيوعاً في أصقاع بعيدة عن مركز السلطة الأُموية، وخراسان في مقدمة تلك البقاع كما تحدثنا الروايات التاريخية.

إن الواقع الفكري والاجتماعي المزري للناس كان يدفع الإمام وأتباعه نحو حركة دائبة لا تعرف الكلل والملل من أجل تغيير هذا الواقع والنهوض بالواجب الإلهي إزاء هذا الانحراف.
إنهم يرون غالبية الناس قد خضعوا للجو الفاسد الذي أشاعه بنو أمية، فغرقوا إلى الأذقان في مستنقع حياة آسنة موبوءة، حتى أضحوا كحكّامهم لا يفقهون قولاً، ولا يصيخون لنصيحة سمعاً "إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا".
ومن جهة أخرى يرون دراسات الفقه والكلام والحديث والتفسير تنحو منحى استرضاء الطاغوت الأُموي وتلبية رغباته. ومن هنا فإن كل أبواب عودة الناس إلى جادة الصواب كانت موصدة لولا نهوض مدرسة أهل البيت بواجبها "وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا".
اتجهت مدرسة أهل البيت فيما اتجهت إلى تقريع أولئك الذين باعوا ذممهم من العلماء والشعراء، في محاولة إلى إيقاظ ضمائرهم أو ضمائر أتباعهم من عامة الناس.

نرى الإمام يقول للكميت الشاعر مؤنباً:
"امتدحت عبد الملك"؟ قال: ما قلت له يا إمام الهدى، وإنما قلت يا أسد، والأسد كلب، ويا شمس، والشمس جماد، ويا بحر، والبحر موات، ويا حيّة، والحيّة دُويبة منتنة، ويا جبل، وإنما هو حجر أصمّ، فتبسّم الإمام وأنشد الكميت بين يديه:
من لقلب متيم مستهام
غير ما صبوة ولا أحلام
وبهذه الميمية يضع الحدّ الفاصل بين الاتجاه العلوي والاتجاه الأُموي في المكانة والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة.
وعكرمة تلميذ ابن عباس المعروف وصاحب المكانة العلمية المرموقة في المجتمع آنذاك، يذهب لمقابلة الإمام، فيؤخذ بهيبة الإمام وشخصيته ووقاره ومعنويته وفكره، فيقول له: "يا بن رسول الله لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره، فما أدركني ما أدركني آنفاً".
فقال له الإمام: "إنك بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه".

ومن الأبعاد الأخرى لنشاط مدرسة أهل البيت في هذه المرحلة سرد ما أحاط بأهل بيت رسول الله وأتباعهم من ظلم واضطهاد وقتل وتشريد وتعذيب في محاولة لاستثارة عواطف الناس الميتة، وتحريك ضمائرهم، الرخوة، واستنهاض عزائمهم الراكدة، وتوجيههم وجهة ثورية حركية.
عن المنهال بن عمر قال: كنت جالساً مع محمد بن علي الباقر عليه السلام إذ جاء رجل فقال له: كيف أنتم؟ فقال الإمام الباقر.
"أو ما آن لكم أن تعلموا كيف نحن؟ إنما مثلنا في هذه الأمة مثل بني إسرائيل كان يذبح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، ألا وإن هؤلاء يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا. زعمت العرب أن لهم فضلاً على العجم، فقالت العجم: وبما ذلك؟ قالوا: كان محمد منا عربياً، قالوا لهم: صدقتم. وزعمت قريش أن لها فضلاً على غيرها من العرب، فقالت لهم العرب من غيرهم: وبما ذاك قالوا: كان محمد قرشياً. قالوا لهم: صدقتم. فإن كان القوم صدقوا فلنا فضل على الناس لأنّا ذرية محمد، وأهل بيته خاصة وعترته، لا يشركنا في ذلك غيرنا. فقال له الرجل: والله إني لأحبكم أهل البيت. قال: فاتخذ للبلاء جلباباً، فوالله إنه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدو البلاء ثم بكم، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم".
فما إن بدت على الرجل علامات الهياج جرّاء استثارات الإمام حتى سارع الإمام إلى رسم الطريق أمامه. إنه طريق مفروش بالدماء والدموع، والإمام رائد المسيرة على هذا الطريق يصيبه البلاء أولاً قبل أن يصيب شيعته.
وفي دائرة أضيق نرى أن علاقة الإمام بشيعته تتخذ خصوصيات متميزة. نراه بين هؤلاء الاتباع كالدماغ المفكر بين أعضاء الجسد الواحد، يغذيهم ويمدهم بالحيوية والحركة والنشاط باستمرار.

وتتوفر بأيدينا وثائق تبين هذا الارتباط متمثلاً بإعطاء المفاهيم والتعاليم الصريحة لهؤلاء الاتباع، وبتنظيم مترابط محسوب بينهم.
منها وصية الإمام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي في أول لقاء له بالإمام أن لا يقول لأحد أنه من الكوفة، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة، وبذلك يعلّم هذا التلميذ الجديد، الذي لمس الإمام فيه قدرة على حفظ الأسرار، درس الكتمان... وهذا التلميذ أصبح بعد ذلك صاحب سرّ الإمام.

ويبلغ به الأمر مع الجهاد الحاكم أن يقول عنه النعمان بن بشير:
"كنت ملازماً لجابر بن يزيد الجعفي فلما أن كنّا بالمدينة، دخل على أبي جعفر عليه السلام فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور، حتى وردنا الأخيرجة (من نواحي المدينة) يوم جمعة فصلّينا الزوال فلما نهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم (أسمر) معه كتاب فناوله، فقبّله ووضعه على عينيه، وإذا هو من محمد بن علي (الباقر) إلى جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب. فقال له: متى عهدك بسيّدي؟ فقال: الساعة فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة. قال: ففكّ الخاتم وأقبل يقرأ ويقبض وجهه حتى أتى على آخره، ثم أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً، حتى وافى الكوفة.

يقول النعمان بن بشير: فلما وافينا الكوفة ليلاً بتّ ليلتي، فلما أصبحت أتيت جابراً الجعفي إعظاماً له فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب قد علّقها وقد ركب قصبة (كما يفعل المجانين) وهو يقول: أجد منصور بن جمهور... أميراً غير مأمور، وأبياتاً من نحو هذا فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً، ولم أقل له، وأقبلت أبكي لما رأيته. واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتى دخل الرّحبة، وأقبل يدور مع الصبيان، والناس يقولون؛ جُنّ جابر بن يزيد. فوالله ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إلى واليه أنظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه، فالتفت إلى جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟ قالوا: أصلحك الله كان رجلاً له علم وفضل وحديث، وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم. قال: فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب. فقال: الحمد لله الذي عافاني من قتله".

هذا نموذجٌ من نماذج الارتباط بين الإمام وخاصة أتباعه، يوضّح دقّة التنظيم والارتباط، ويبين كذلك نموذجاً لموقف السلطة الحاكمة من هؤلاء الاتباع، ويؤكّد أن الجهاز الحاكم لم يكن غافلاً تماماً عن علاقة الإمام بأتباعه المقربين، بل كان يراقب هذه العلاقات ويحاول اكتشافها ومجابهتها.
وبالتدريج يبرز جانب المجابهة في حياة الإمام الباقر عليه السلام وفي حياة الشيعة ليسجل فصلاً آخر في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام.

النصوص التاريخية الموجودة بين أيدينا وهكذا الروايات الحديثية لا تتحدث بصراحة عن حركة مقاومة سياسية جادة ينهض بها الإمام. وهذا يعود إلى عوامل كثرة منها جوّ البطش والتنكيل المهيمن على المجتمع الذي كان يفرض عنصر التقية بين أتباع الإمام الذين هم المطلعون الوحيدون على حياة الإمام السياسية... ولكن ردود الفعل المتشدّدة التي يبديها العدو تبين عمق العمل الجهادي. فحين يتخذ جهاز حاكم مقتدر كجهاز عبد الملك بن مروان، الذي يعتبر أقوى حاكم أموي، ضد الباقر عليه السلام أسباب الشدّة والحدّة فإن ذلك يدل دون شك على إحساس الخليفة بالمخاطر التي تواجهه جرّاء حركة الإمام وأتباعه، لو كان الإمام منهمكاً فقط بنشا علمي، لا ببناء فكري وتنظيمي، فإن الجهاز الحاكم لم يكن من مصلحته أن يتشدّد مع الإمام، لأن ذلك يدفع بالإمام وبأتباعه إلى موقف ساخط متشدّد كالذي اتخذه الثائر العلوي شهيد فخ الحسين بن علي من السلطة.
باختصار، موقف السلطة المتشدّد من الإمام الباقر عليه السلام يمكن فهمه على أنه رد فعل لما كان يمارسه الإمام من عمل معارض للسلطة...

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع