حوار مع الشيخ محمد القبيسي
* هل تعتقدون أن المسلمين يملكون دوافع عقائدية حقيقية تحفزهم لأن يحققوا صيغة الوحدة على الجانب السياسي دون الجانب العقائدي والفقهي؟
من المهم جداً في البداية أن نعيد توحد المفاهيم والرؤى في هذا المجال، من غير الصحيح أن نفصل بين المسائل العقائدية والفكرية من جهة وبين المسائل الحركية والسياسية من جهة أخرى، وذلك ما نفهمه من قول القرآن الكريم ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيب﴾ُ فالأساس الفكري يصب في خانة الوحدة، والأساس العقائدي الواحد يصب في وحدة الأمة وأيضاً وحدة الأمة تستند إلى الوحدة العقائدية ونستطيع أن نعبر من الوحدة السياسية ووحدة حركة الأمة وهدفها باتجاه الوحدة العقائدية، والمقصود من ذلك أنه عندما لا يوجد مجال للأمة أن تتحرك إلا في الإطار السياسي فهذه خطوة أولى باتجاه تصحيح المسار، ليس لأن الوحدة الإسلامية هي وحدة سياسية وليست عقائدية ولكن من باب أولوية الطرح والتحرك ضمن ظروف الواقع الحالية والمرحلية، ويمكن أن نحقق هدف الوحدة من خلال طرح أولويات سياسية من خلال بعض القضايا السياسية التي توحّد تحرك المسلمين، وفيما بعد تصب تدريجياً في وحدة توجه الأمة نحو التقارب النفسي والروحي، بعدها نستطيع أن نصل إلى الأساس الفكري والعقائدي، فلو أن بعض الأمور سارت بشكلها الصحيح، ولولا وجود بعض العوائق الكبيرة والتاريخية، العقائدية والسياسية، لأمكننا أن نعود إلى أصل طرح الإسلام. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم طرح المسائل السياسية والعقائدية جنباً إلى جنب وانطلق فيها مرحلة مرحلة ولم يكن هناك مشكلة.
* نستنتج من كلامكم أن الأولوية الآن لطرح الوحدة السياسية؟
لها أولوية ضمن متطلبات ومقتضيات الواقع الراهن.
* أين يكمن الطريق الحقيقي والصحيح لتحقيق هذه الوحدة، هل هو في تشكيل منظمة المؤتمر الإسلامي والتواصل بين الحكومات الإسلامية، أم أنه في تفاهم الشعوب الإسلامية والتواصل بين المراكز العلمية ومفكري هذه الأمة وإشاعة الوعي بين الناس وإذكاء جذوة المشاعر لديهم من قبل العلماء والمؤسسات والمراكز الإسلامية؟
عندما نريد أن ننطلق بأي خطوة على أي مستوى من المستويات لا بد أن نؤسس لمناخ، هذا المناخ يسهل حرة الفكرة والخطوة، ولا نستطيع أن نتحرك في مناخ غير مؤاتٍ وغير مناسب، وهنا اسمحوا لي أن أستطرد، ما الذي جعل الإمام الخميني ينجح في حركته في مساحة واسعة بالرغم من أنه ينتمي إلى المذهب الشيعي. فالإمام الخميني اخترق الجدار في الوسط الشيعي على المستوى الفكري والفقهي وأيضاً على مستوى فهم الأمة ووعيها السياسي، اخترق حواجز ضخمة في الوسط الشيعي، أيضاً اخترق هذه الحواجز في الوسط السُنِّي، وما الذي جعل الإمام الخميني يستطيع أن يمتد هذا الامتداد ويكون لحركته ونداءاته ذاك المد العظيم والجارف بكل أوساط المسلمين سُنَّة وشيعة.
أنا أَتقد بأن الإمام الخميني أراد أن يوجد مناخاً مؤاتياً ينطلق من خلال الثورات الإسلامية، قبل أن يدخل في البحث العقائدي وقبل أن يدخل في الخلاف الديني في إيران وفي خارج إيران، أراد الإمام أن يطلق شعاراً يجمع جميع المستضعفين وخاصة المسلمين في وجه الطاغوت ونحن نؤمن بأن الإسلام استند إلى هذا الأساس العقائدي وهو السياسي أيضاً الذي يقول ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم﴾ٌ فالطريق إلى توحيد عقائد الأمة وتوحيد حركة الأمة ينطلق من خلال الوقوف في وجه الطاغوت أي أن القرآن الكريم الذي يؤمن بأن هذا الإسلامية الذي جاء لتوحيد الأمم والشعوب ليس فقط المجتمع الإسلامي بل جاء ليجعل الأمة جميعاً مسلّمة لله الواحد القهّار. انطلق من خلال حتمية قرآنية {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون} والمسار الذي نتلمَّسه من خلال قوله تبارك وتعالى {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} وهو نداء موجه إلى كل الأمم والبشر الأمة مرشحة لأن تأخذ زمام الأمر وتصبح هي الرائدة والموجهة وتصبح هي النبراس والمستنهضة لكل الشعوب والأمم إن هي وقفت في وجه الطاغوت.
* أي أمّة؟
الأمة المستضعفة {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض}، إذا هم وقفوا في وجه الطاغوت وهو ما تحدث عنه الإمام الخامنئي (أعلى الله مقامه) في معرض حديثه حول الحكومة في الإسلام الإلهية، الأمة عندما تتحرك في خط أهدافها الكبرى وبوجه الطاغوت تتلمّس كل عقائدها تدريجياً وليس الأمر العقائدي على المستوى السياسي بأقل أهمية منه في المجال العقائدي الكلامي المحدود فالإمام الخميني أوجد هذا المناخ ولذلك شعرت الأمة بكل تياراتها وتجاربها ومختلف اتجاهاتها ومذاهبها أنها معنية بهذه الحركة.
* برأيكم كيف نستطيع أن نؤسس لمد جسور بين المسلمين ترتبط وتلتف حول مشروع وحدة الأمة وأن نذلل كل الصعوبات التي يمكن أن تواجهنا خصوصاً مع وجود عدة مذاهب؟
أولاً: المناخ الحالي هو مناخ سليم جداً، والعلاقات بين المسلمين هي الآن في أفضل حال وإن لم تكن بدرجة الكمال ولكن الظروف الحالية هي ظروف جداً مساعدة، بدأت الأمة الإسلامية تشعر بأن هناك قضية مركزية، عندما بدأ الإمام بالتحرك حيث كان يريد أن يطرح هدفاً وقضية مركزية تصلح لأن تكون محوراً في حياة المسلمين وحركة المسلمين، وهي تحرير القدس، هذا الهدف كان تحرير القدس ولكن الاستكبار فتح معركة جانبية وبث السموم الإعلامية بحيث أجَّل نسبياً طرح هذا المشروع المركزي، الآن ومن جديد بدأ هذا المناخ يتحسن، انتهت الحرب العراقية الإيرانية، وبفضل الله فُتحت معركة بين المسلمين والكيان الإسرائيلي الغاصب ومن جنوب لبنان وفلسطين وبدأت هذه المعركة تستهوي أفئدة المسلمين هذا المشروع هو مشروع استقطابي هائل هو مشروع مركزي علينا أن نوجه الأمة باتجاه هذا المشروع.
وعندما نشعر الاستكبار أنه أمام مأزق جيَّش العالم في مؤتمر شرم الشيخ من أجل أني ضغط بكل ما أوتي من قوة باتجاه إجهاض المقاومة وحيث أنه لم يستطع بدأت العملية باتجاه إعلان انتهاء مشروع السلام ولكن بلجوء العدو للحرب ربما حتى لا تكون نكسة تراجع إسرائيلي معلن.
هذه المرحلة هي ليست مرحلة التراجع الإسرائيلي عن التفكير بالمعركة ولكن هي مرحل التراجع بصورة خاصة، وحتى لو كان هناك معركة فإنها تأتي في ظرف التراجع ومن أجل إنقاذ ماء الوجه، والتراجع الهائل الذي يحصل ونراه ونشهده، هو تحت تأثير المشروع الوحدوي وهو مشروع الجهاد، القرآن الكريم عندما يتحدث عن موضوع وقوف المستضعفين بوجه المستكبرين والمؤمنين في وجه الطاغوت يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا} فالطريق في هذه المرحلة وفي كل مرحلة يمر من خلال وقوف الأمة بإخلاص إلى جانب قضاياها المصيرية ومسك زمام أمرها بيدها ولا تستطيع أبداً أن تحقق أي مستوى من مستويات الوحدة الداخلية والخارجية ولا تستطيع أن تحمل الإسلام إلى العالم إذا لم تنطلق من خلال هذا الطريق، طريق الجهاد هو طريق مواجهة الاستكبار وهو طريق محفوف بالمخاطر ولكنه مليء بالآمال ومتلألئ بالحتميات، بحتميات الانتصار ومدعم بالتجربة الإسلامية التي انطلق فيها الأنبياء والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن في أيديهم شيء، فقد دخل النبي موسى عليه السلام على فرعون هو وهارون وليس بأيديهم شيء سوى العِصي وكانوا يلبسون مدارع الصوف والبساطة والفقر. هذا هو الطريق الأساسي، ويمكن أن نرفد هذا النشاط بأنشطة ثقافية وإعلامية وهو أمر ضروري في المعركة وعلى كل صعيد، وقد قلت أن الأمة الإسلامية تنخرط في هذا السبيل وأكبر دليل على ذلك أن أميركا لا تستطيع أن تأخذ المبادرة في مشروعها السياسي في المنطقة الإسلامية بينما تستطيع إيران التي تمثل مذهباً أن تأخذ الموقع الأساسي والمحوري والمركزي والعظيم في اتجاه توحيد الأمة وهو توحيد سياسي بشكل أساسي ويأخذ بيدها باتجاه المشروع المركزي، نحن في هذه المرحلة نقول أن هناك قيادة حكيمة رشيدة تعي ماذا تريد على مستوى مواجهة الاستكبار، على مستوى وحدة الأمة وعلى مستوى استرجاع المقدسات، تعي جيداً ذلك وهي تخطو بخطى ثابتة ومتتابعة وفعالة جداً، بينما الاستكبار مُربك إلى أشد حدود الإرباك، والأمة واعية إلى أشد حدود الوعي، وأنا أقول أكثر من ذلك أن الأنظمة بدأت تعيد حساباتها وبعض الأنظمة، بدأت تعيد النظر في الهوة التي يمكن أن تحصل بين الأمة وبين الأنظمة، وأنا أقول هنا أن ما يُطرح من الدعوة إلى وحدة خيار الأمة والأنظمة على أولوية الصراع مع إسرائيل وتحرير القدس فهو منطق سليم لأن الأنظمة بدأت تعي أهمية هذا الأمر، فحتى الأنظمة هي مهددة في واقعها أمام مشروع السلام وضعيفة، وإذا فشل مشروع السلام هي مضطرة أن تكون مع خيار الأمة فالظرف جداً مؤاتٍ، قد لا يكون هذا الطرح مؤاتياً في مرحلة ما سابقاً لأن المناخ ليس مساعداً ولكن الآن المناخ مساعد وهو عامل تتحرك فيه الجمهورية الإسلامية بقوة، عامل مساعد لوحدة الأمة، نحن بحاجة إلى رفد هذه الخُطى بحاجة إلى توعية أكثر بحاجة إلى تواصل، إلى تلاقي الحركات الإسلامية حتى نستطيع أن نعطي للمشروع بُعداً أوسع وجذرية أوسع وعمقاً أكثر.
* حركة تجمع العلماء المسلمين هي الحركة الوحيدة الموجودة في العالم، الإسلامي التي يلتقي فيها علماء السُنَّة والشيعة في موقع واحد ويدرسون القضايا بحجم إمكاناتهم وبحجم تجمعهم وبحجم الحساسيات المحيطة بهم فأين هو موقع التجمع في تقدم مشروع الوحدة الإسلامية في العالم وفي لبنان؟
التجمع كان في مرحلة ما يمثل تطلعات الأمة وكانت الأمة تستجيب لذلك، لا شك أن هذه التجربة مرت بمراحل ومرت بظروف قاسية بالرغم من روعتها وتأثيرها وامتداد تأثيرها خارج لبنان وهي فعلاً تجربة فريدة ليس لها مثيل في العالم كلياً ولا بوجه من الأوجه ولكن هي بحاجة إلى ظروف أفضل وإلى خطوات تجريدية تُكسب التجمع فعالية من جديد.
* هل من خطوات عملية قمم بها وأدت إلى حالة وحدة؟
طبعاً التجمع له حركة ونشاط ضمن مد جسور العلاقات والتواصل مع الحركات الإسلامية في كثير من دول العالم في إفريقيا وآسيا وأوروبا وهناك زيارات وتلاقٍ ومؤتمرات وندوات متواصلة منذ العام (1985).
* هل ما قمتم به أدى إلى بلورة الوحدة على مستوى التقريب بين المذاهب؟
ما قصدت من الفعالية والتجديد عند التجمع يتعلق بالقواعد الإسلامية وهنا أعتقد أنه لا بد من توجيه دعوة للوحدة بظرف غير هذا الظرف تكون أكثر فعالية وبصيغة غير هذه الصيغة ومن خلال منبر غير هذا المنبر دعوة إلى حركاتنا الإسلامية أن تعيد النظر بالحركة المنغلقة التي فرضتها كل حركة على نفسها وأن تتحرك خارج مسارها المستقل. بشيء من تخفيف الشروط وشيء من تخفيف الأحمال والأثقال بحيث تصبح الخطوات أكثر انطلاقاً وعجلة، هناك تبسيط لخطوات الحركات الإسلامية في هذا المجال وأعطي مثال نحن التقينا بسرعة على مستوى جنوب لبنان وفلسطين بسرعة هائلة جداً، فلسطين ذات الغالبية الإسلامية السُنيَّة وجنوب لبنان ذي الغالبية الإسلامية الشيعية وقد مهّد هذا الجهاد التاريخي في وجه العدو الإسرائيلي للتواصل الإسلامي الوحدوي الذي كان تواصلاً جذرياً وعميقاً على المستوى السياسي والجهادي والمؤثر إلى أبعد الحدود، لو أن الساحات الإسلامية تخفف من قيودها المتشددة أكثر فأكثر لأمكن للتجمع التحرك بفاعلية، ففي الماضي كان دور التجمع فاعلاً. في لبنان على سبيل المثال. عندما كانت الساحة الإسلامية تتحرك بكل فئاتها ومناطقها بأقل قيود وبأقل اعتبارات، وهو ظرف قابل لأن يتجدد وعلى أكثر من مستوى وفي أكثر من ساحة، والظروف الآن مؤاتية.
* كلمة وحدوية أخيرة توجهونها؟
باعتقادي أن مشروع الوحدة الإسلامية هو مشروع واسع وكبير وهو أوسع من الوحدة بين السُنَّة والشيعة، لأن حجم التفكك للمراحل الماضية هو الذي ترك آثاره حتى يومنا هذا، والذي طال كل القطاعات الإسلامية وأطرها وكل المستويات الثقافية والسياسية وحتى الاجتماعية، ونحن هنا نعتقد أن المشروع الذي يوحّد الأمة قد انطلق وأصبح يشكل في مواقع حركته محوراً كبيراً، وعنيت به مشروع المجاهدة وبين الكيان الصهيوني الغاصب والاستكبار، ويجب أن نرفد هذا المشروع باليقظة والوعي والترفع عن الاعتبارات الضيقة.