ع.ن.
قال الله تعالى: ﴿وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أنّ لأهل المعرفة وأصحاب القلوب، على قدر قوة معرفتهم للمقام الربوبي المقدّس واشتياقهم إلى مناجاة الباري عزّ اسمه، مواظبة ومراقبة لأوقات الصلاة التي هي ميقات المناجاة وميعاد الملاقاة مع الحق، ولا يزالون يراقبون ذلك".
الصلاة موعد وميقات في الدنيا للمناجاة واللقاء، فيها يصبح الوقت إلهياً أخروياً، وينتقل المصلي من الزمن الدنيوي إلى ما ورائه، فتكتب له الحياة الحقيقية الدائمة.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُدخل الصلاة في الأشياء التي أحبّها من دنيانا: "أحبّ إلي من دنياكم ثلاث، النساء والطيب وقرّة عيني الصلاة"، فذلك لأنّه أراد أن يجعل الدنيا آخرة، كما يذكر الإمام الخميني قدس سره، فليست الصلاة من الدنيا في شيء، سوى أنّها مواقيت ومواعيد، تأخذ من الدنيا الزمن، وتعطيها وجهاً جدياً: (يوم تبدّل الأرض غير الأرض).
ونظراً لأنّ الدنيا دار تزاحم ورغبات، فإنّ على المصلّي أن يراقب أوقات الصلاة، ويواظب عليها، حتّى لا ينزل في أسفل سافلين، ويفقد حياته الحقيقية. فالصلاة معراج المؤمن، ومتى غفل الإنسان عنها، توقف عروجه وبدأ بالسقوط: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ .
إنّ هذه المراقبة ترجع إلى المعرفة الممتزجة بالشوق. فإذا كان الإنسان يدرك حضور الله سبحانه ويرى إحاطته للعوالم – ولو بالرؤية الاستدلالية العقلية – فإنّ عقله سيرسل إشارات المواعيد ويضرب على أوتار اللقاء. إلاّ أنّ المحرك الحقيقي للأعضاء والجوارح هو القلب. وما لم يكن في القلب شوق إلى المحبوب، فإنّ المصلّي يقوم إلى الصلاة كسولاً ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (النساء/142). وهذه صفة للمنافق الذي يصفه القرآن الكريم بمريض القلب: (في قلوبهم مرض).
ولهذا ورد الحثّ الأكيد على الصلاة في وقتها، كون ذلك يساهم في القضاء على النفاق، كما أنّ ذلك عُدّ علامة من علامات المؤمن الحق.
ففي وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام عند وفاته، قال: "أوصيك يا بني بالصلاة عند وقتها..". وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أفضل الأعمال، فقال: "الصلاة لأوّل وقتها". وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "من صلّى الصلوات المفروضات في أول وقتها فأقام حدودها رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقيّة، وهي تهتف به حفظك الله كما حفظتني استودعك الله كما استودعتني ملكاً كريماً. ومن صلاّها بعد وقتها من غير علّة فلم يقم حدودها رفعها الملك سوداء مظلمة وهي تهتف به ضيعتني ضيعك الله كما ضيّعتني ولا رعاك الله كما لم ترعني..".
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا ينال شفاعتي غداً من أخّرَ الصلاة المفروضة بعد وقتها" (البحار/ج83).
وحيث أنّ المواظبة فرع المعرفة والاشتياق، فالمراقبون لأوقات الصلاة والمواظبون عليها درجات، لاختلاف درجات عرفانهم وشوقهم.
1-"فالمجذوبون لجمال الجميل والعاشقون للحسّ الأزليّ والمشغوفون به والسكارى من كأس المحبّة والمصعوقون من قدح ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ الذين فرغوا عن الكونين، وأعرضوا عن جميع أقاليم الوجود، وتعلّقوا بعزّ قدس جمال الله، فلهم دوام الحضور، وليسوا مهجورين عن الذكر والفكر والمشاهدة والمراقبة لحظة واحدة" (أداب الصلاة).
أهل الجذبة هم الذين شربوا من كأس المحبّة، فسكروا وهاموا في سبحات وجهه الباقي: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، ولم يعد في مرأى قلوبهم سوى الحق. وهم يرون كلّ عوالم الوجود مظاهر جماله وجلاله، لهذا لا يكون لتصرّم الوقت أي معنى عندهم. إنّ حقيقة الوقت هي التغيّر والحركة المتصلة لعالم المادّة. والذين فرغوا عن الكونين (الطبيعة والنفس) لهم الإحاطة في لوحة المظاهر والتجليات، ولهذا تكون كلّ أوقاتهم صلاة.
2-"والذين هم أصحاب المعارف وسادة الفاضائل، وهم شرفاء النفس وكرماء الطينة، فلا يختارون على المناجاة مع الحقّ شيئاً، ولا يطلبون من الخلوة مع الحقّ ومن مناجاته سوى الحقّ نفسه. ويرون أنّ العزّة والشرف والفضيلة والمعرفة كلّها في تذكر الحق ومناجاته.. فهم يواظبون على أوقات الصلاة بتمام أرواحهم وقلوبهم، وينتظرون وقت المناجاة مع الحق، ويحضّرون أنفسهم ويهيئونها لميقات الحق .. فاشتياقهم إلى العبادة من هذه الجهة" (آداب الصلاة).
إن من كَرُمت نفسه، وطابت أخلاقه لا يرى العزّة والشرف والكرامة إلاّ مع الحقّ سبحانه. لهذا فهو دائم التذكّر لأوقات الصلاة، وإذا كانت العبودية عند البعض كلفة ومشقّة، فهي عنده مراودة ومعاشرة مع الكامل المطلق. فالصلاة موعد اللقاء بالمحبوب الذي يطل بجماله المطلق فيحرق كلّ جمال محدود ولا يبقي له أثر.
ومن الملاحظ في كلام الإمام الارتباط الوثيق بين طهارة الباطن وإدراك حقيقة الجمال والكمال الإلهي.
3-"والذين يؤمنون بالغيب وعالم الآخرة ويعشقون كرامات الحق جلّ جلاله، ولا يستبدلون النعم الأبدية الجنانية واللذات والبهجات الدائمة السرمدية بالحظوظ الدائرة الدنيوية واللذائذ الناقصة المؤقتة المشوبة، فهؤلاء أيضاً في وقت العبادة التي هي بذور النعم الأخروية يحضرون قلوبهم ويقومون بالأمر بإقبال واشتياق، وينتظرون أوقات الصلاة فإنّها وقت حصول النتائج واكتساب الذخائر..". (آداب الصلاة).
هذه الطائفة وإن كانت لا تشاهد جمال الجميل، إلاّ أنّها آمنت به وصدّقت بوعوده، وعلمت أنّ وراء هذه الحياة الدنيا آخرة. وإنّ الدنيا دار عمل وزراعة والآخرة دار الحصاد. والعبادة هي بذور النعم الأخروية. فهم كالفلاح يزرعون أرضهم وينظرون من بعيد إلى السحاب الآتي، عارفين بأنّ الصيف الآتي سيكون موسم حصاد وفير.
يقول الإمام قدس سره "فهؤلاء أيضاً، حيث أنّ قلوبهم خبيرة بعالم الغيب وقد آمنت بالنعم الأبدية واللذائذ الدائمة لعالم الآخرة يغتنمون أوقاتهم ولا يضيعونها..".
أمّا نحن؟!
يقول الإمام قدس سره: "أمّا حن المساكين المبتلين بالآمال والأماني، والمقيّدين بسلاسل الهوى والهوس، والمنغمرين في البحر الظلماني المسجور للطبيعة الذين ما وصلت إلى شامة أرواحنا رائحة من المحبّة والعشق. وما ذاقت ذائقة قلوبنا لذّة من العرفان والفضيلة، فلسنا من أصحاب العرفان والعينان، ولا من أرباب الإيمان والاطمئنان، نرى العبادات الإلهية تكليفاً وكلفة، والمناجاة مع قاضي الحاجات فرضاً وتكلفاً، ولا نركن إلى شيء غير الدنيا التي هي معلف للحيوانات، ولا نتعلّق سوى بدار الطبيعة التي هي معتكف للظالمين، قد عميت أبصار قلوبنا عن جمال الجميل وهجرت ذائقة أرواحنا ذوق العرفان" (آداب الصلاة).