ع. ن
ما زال الحديث يدور حول مقدمات الصلاة التي يجب على المصلي مراعاتها للوصول الى صلاة أهل المعرفة، وذه المقدمات تنقسم الى خمسة أبواب، ذكرنا منها اثنين هما باب التطهير وباب آداب اللباس، وهنا سنتعرض للباب الثالث حول الآداب القلبية لمكان المصلي.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أن للسالك إلى الله بحسب النشآت الوجودية أمكنة، ولكل منها آداب مخصوصة، ما لم يتحقق السالك بها لم يتوصل إلى صلاة أهل المعرفة) (آداب الصلاة).
للصلاة، هذه العبادة الشرعية، ظاهر وباطن. ومراعاة أحكامها الظاهرية شرط للدخول إلى باطنها الذي يعد أساساً لقبولها. وبمراعاة آدابها الباطنية أو المعنوية، يتحقق السالك بمقام المصلي أي انه يصبح مصلياً في الحقيقة وتسري في وجوده آثار الصلاة، كالنهي عن الفحشاء والمنكر وعدم الهلع والجزع والثبات وذكر الله والاستقامة وعدم الخوف إلا من الله تعالى وغيرها. هذه الصلاة هي التي يسميها الإمام صلاة أهل المعرفة، أولئك الذين تنطلق عباداتهم من عرفانهم بالله ورعايتهم للآداب المعنوية والشروط (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).
وهكذا، فإن من الشروط المعنوية والآداب القلبية للصلاة معرفة المكان ورعاية آدابه.
والمكان عند العرفاء هو محل النشآت الوجودية للإنسان، والتي منها النشأة الظاهرية الطبيعية، إلا أن له نشآت أخر بحسب مراتب الوجود. والإنسان هو الكون الجامع لمراتب الوجود.
إن معرفة النفس ومراتبها وقواها وشؤونها من أهم مهمات السلوك إلى الله تعالى. ولما لم يعرف الإنسان نفسه فلن يتحقق له سفر. هذه المعرفة التي تكون في البداية إجمالية كلية وتصبح بعد طي مراحل السلوك تفصيلية حضورية.
والأمكنة الأولى هي:
1 – أرض الطبيعة التي هي مكان النشأة الطبيعية والمرتبة الدنيوية الظاهرية.
2 – أرض الطبيعة الانسانية وهي مكان مرتبة القوى الظاهرية والباطنية.
3 – البدن البرزخي الغيبي للنفس وهو مكان النشأة الغيبية للسالك.
•
• المقام الأول:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً".
يقول الإمام قدس سره:
"فالسالك في هذه المرتبة أدبه أن يفهّم قلبه أن نزوله من النشأة الغيبية، وهبوط نفسه من المحل الأعلى الأرفع إلى أرض الطبيعة السفلى ورده من أحسن تقويم إلى أسفل سافلين لأجل سلوكه الاختياري إلى الله وعروجه إلى معراج القرب ووصوله إلى فناء الله وجناب الربوبية الذي هو غاية الخلقة ونهاية المقصد لأهل الله".
لماذا أُهبط الإنسان إلى أرض الطبيعة؟ وما هو السر في ذلك؟ لماذا أنزل إلى مكان هو أسفل سافلين، وفيه تمتزج القذارات بالطيبات؟ ويضطر أن يعايش ويزاحم كل ما فيها؟
هذا المكن الذي هو أول الأمكنة التي يجب أن يراعيها المصلي له أدب أساسي، وهو إدراك حقيقة السلوك الاختياري إلى الكمال اللامتناهي في جوار الله تعالى.
فمنذ أن أُهبط الإنسان إلى الأرض أصبح سلوكه اختيارياً، وعليه أن يعرف أن هذه الأرض لم تكن إلا لعبادة الحق سبحانه: "الدنيا ساعة فاجعلها طاعة" (نهج البلاغة). وهذه العابدة جوهرها العبودية والذل والمسكنة بين يدي الله تعالى، وبدونها لا تكون عبادة لله، بل للنفس والشيطان. وعلى هذه الأرض يعاين الإنسان نقصه وعجزه. وعندما يرى نفسه ممتزجة بمقتضيات هذا العالم، من القذارات والخبائث التي لا تفارقه ما دام فيه، يدرك حقيقة ذلك موقفه، حيث يجب عليه أن يجتنب تلك القذارات. وهذا الاجتناب الذي لا يتحقق إلا عند نفوس أبيّة، هو مبدأ السلوك الاختياري.
وبعبارة أخرى، لقد أهبط الإنسان إلى منزل أسفل سافلين لكي ينهض باختياره للسلوك. فما لم يرفض القذارات لم يسلك. وكأنه وضع في هذا الموضع ليتحرك باختياره الذي هو أصل كماله اللامتناهي.
وعندما يدرك هذه الحقيقة عليه أن يتعامل مع أرض الطبيعة على أنها مسجد للعبادة وذكر الحق تعالى. يقول الإمام (قدس):
"فإذا وجد دار الطبيعة مسجداً للعبادة، ورأى نفسه معتكفاً فيه لا يد وأن يقوم بآدابه ويصوم عن تذكر غير الحق، وإلا يخرج عن مسجد العبودية إلا بقدر الحاجة، فإذا انقضت حاجته يعود ولا يستأنس بغير الحق ولا يتعلق قلبه بغيره...".
• المقام الثاني:
حيث يكون البدن مكانا ًللقوى الظاهرة والباطنة للنفس. يقول الإمام قدس سره: "وأدب السالك في هذا المقام أن يفهّم باطن قلبه بأن أرض طبيعة نفسه هي مسجد الربوبية ومحل سجود الجنود الرحمانية، فلا ينجّسها بقاذورات تصرُّف إبليس ولا يجعل جنود الغله تحت سيطرته".
إن البدن بأعضائه وجوارحه هو مجموع جنود الإله التي ينبغي أن تكون خاضعة له. وهو مسجد القوى الملكية والملكوتية، وبدونه لا تتم عبادتها ولا تتحقق عبوديتها، فإذا كان المسجد تحت تصرف إبليس بارتكاب المعاصي والانشغال بالباطل لن تدخل تلك القوى في ساحة العبادة ويبقى الإنسان بعيداً مطروداً من الساحة الربوبية.
ولهذا، عليه أن يمنع تصرف إبليس ببدنه بالعبد عن الذنوب والمعاصي الجوارحية "لكي تشرق أرض الطبيعة (البدن) بشروق نور الرب، وتخرج ظلمة البعد عن الساحة الربوبية".
يقول الإمام قدس سره: "وتكليف السالك في هذا المقام أكبر، لن تنظيف المسجد وطهارته على عهدته أيضاً، كما أنه بنفسه أيضاً يتكفل أدب المعتكفين في هذا المسجد، (آداب الصلاة).
فإن تنظيف وتطهير الطبيعية الدنيوية ليس من مسؤولية السالك وإنما عليه في ذلك المقام الاجتناب. أما في هذا المقام فعليه التطهير ولا يجوز عليه أن يبقى قذارات المعاصي في نفسه.
• المقام الثالث
وفيه يكون البدن البرزخي الغيبي للنفس محلاً للنشأة الغيبية للسالك.
واعلم أن هذا البدن البرزخي إنما يتكون من النفس، أي أن الجسم المثالي والبدن البرزخي هو حقيقة تنشأ من أفعال الإنسان وأعماله وحالاته. وهو الذي يكون معه في عالم القبر، كما ورد في الأحاديث أن الإنسان عندما يوضع في القبر يخلّى بينه وبين عمله. فهو صورة الأعمال وتجسّمها.
يقول الإمام قدس سره: "والأدب للسالك في هذا المقام أن يذيق نفسه أن التفاوت بين هذا المقام والمقامات الأُخر كبير. وحفظ هذا المقام من مهمات السلوك، لأن القلب هو إمام المعتكفين في هذا الجناب. وبفساده يفسد الجميع".
فالذي يفسد القلب هو فساد هذا المسجد وهو عالم البدن البرزخي. لأن الواردات المثالية عندما تدخل إلى القلب فإنها تفسده. يقول الإمام قدس سره:
"وتكليف السالك في هذا المقام أكثر من المقامين السابقين لأنه قد كُلّف ببناء المسجد أيضاً. ومن الممكن لا سمح الله أني كون مسجده مسجد ضرار وكفر وتفريق بين المسلمين. وفي مثل هذا المسجد لا يجوز عبادة الحق، بل يجب تخزينه".
وفي هذا الكلام إشارة عميقةُُ الدلالة إلى خطورة تأسيس السير والسلوك والعبادات على قواعد فاسدة. فمع بقاء الخيالات الفاسدة يمكن – لا سمح الله – أن تتحول عبادة السالك وحالاته القلبية إلى صدٌّ عن سبيل الله.
• المقامات الأخرى:
يقول الإمام قدس سره: "فإذا أسس السالك المسجد الإلهي الملكوتي بيد التصرف الرحماني ويد الولاية، وطهر بنفسه هذا المسجد من جميع القذارات والتصرفات الشيطانية واعتكف فيه، فلا بد له أن يجاهد حتى يخرج نفسه من العكوف في المسجد إلى الاعتكاف بفناء صاحب المسجد".
فهذا مقام آخر وهو مقام الخروج من الأنانية.
وإذا خرج منها؟
"فإذا تطهر عن التعلق بنفسه وخرج من قيده يصبح بنفسه منزلاً للحق، بل مسجداً للربوبية. ويثني الحق على نفسه في ذلك المسجد بالتجليات الفعلية ثم الاسمية ثم الذاتية. وهذا الثناء هو صلاة الرب، يقول: سبّوح قدّوس رب الملائكة والروح".
• ختام ووصل:
يوصي الإمام في هذا الفصل بمهمة هي غاية السلوك ولب لبابه، حيث يقول: "وللسالك إلى الله في جميع مقامات السلوك مهم أخرى لا يجوز له الغفلة عنها مطلقاً. بل هذه المهمة هي غاية السلوك ولب لبابه. وهي أن لا يغفل في جميع الحالات والمقامات عن ذكر الحق، ويطل في جميع المناسك والعبادات معرفة الله، ويطلب الله في جميع المظاهر. ولا تمنعه النعمة والكرامة عن الصحبة والخلوة، فإنه نوع من الاستدراج" (آداب الصلاة).
• وصلٌ من مصباح الشريعة عن الإمام الصادق عليه السلام:
"إذا بلغت باب المسجد، فاعلم أنك قد قصدت باب ملك عظيم، لا يطأ بساطه إلا المطهرون، ولا يؤذن لمجالسته إلا الصديقون. فهب القدوم إلى بساط خدمة الملك هيبة. فإنك على خطر عظيم إن غفلت. فاعلم أنه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك، فإن عطف عليك برحمته وفضله، قَبِل منك يسير الطاعة وأجزل لك عليها ثواباً كثيراً. وإن طالبك باستحقاق الصدق والإخلاص عدلاً بك حجبك ورد طاعتك وان كثرت، وهو فعال لما يريد. واعترف بعجزك وتقصيرك وانكسارك وفقرك بين يديه. فإنك قد توجهت للعبادة والمؤانسة به، واعرض أسرارك عليه، ولتعلم انه لا يخفى عليه أسرار الخلق أجمعين وعلانيتهم. وكن كأفقر عباده بين يديه. واخل قلبك عن كل شاغل يحجبك عن ربك. فإنه لا يقبل إلا الأطهر والأخلص، وانظر من أي ديوان يخرج اسمك. فإن ذقت حلاوة مناجاته ولذيذ مخاطباته وشربت بكأس رحمته وكراماته من حسن إقباله عليك وإجابته فقد صلحت لخدمته. فادخل، فلك الإذن والأمان، وإلا فقف وقوف من انقطع عن الحيل وقصر عنه الأمل وقضى عليه الأجل. فإن علم الله عز وجل من قلبك صدق الالتجاء إليه، نظر إليك بعين الرأفة والرحمة واللطف. ووفقك لما يحب ويرضى، فإنه كريم يحب الكرامة لعبادة المضطرين إليه المحترقين على بابه لطلب مرضاته. قال تعالى: (أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكف السوء).