مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

حصون الإسلام‏: الشيخ مرتضى الأنصاري‏


محمد القدسي‏


العالم العلاّمة، والكامل الفهامة، شمس فلك المعالي والفقه والدين. الألمعي اللوذعي، وحيد دهره ونابغة عصره، قدوة المجتهدين المدققين، وشيخ العلماء الشيخ مرتضى الأنصاري.
كان الشيخ الأنصاري قدس سره نادرة الدهر، ونابغة العصر ومثالاً للعلم والعمل، ونبراساً يقتدى به في الاجتهاد ومرآة جلية للورع والتقوى وصورة صادقة للأخلاق المحمدية السامية، ومدرسة نموذجية للتربية الفاضلة، وقد استضاء بنور علمه كل عالم، ولاذ بكنفه كل فاضل.

* ولادته:
ولد طاب ثراه في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام عام 1214 في مدينة (دزفول) الإيرانية من أبوين كريمين أصيلين في الرفعة والشرف عريقين في الفضل والأدب.
والده هو الشيخ محمد أمين الأنصاري من أجلّ العلماء العاملين المروِّجين للدين، ووالدته هي بنت العلاّمة الجليل الشيخ يعقوب الأنصاري. وكانت امرأة عابدة تقية مواظبة على القيام بجميع العبادات من الفرائض والنوافل مكبَّة على صلاة الليل ولم تفتها من نافلتها ركعة واحدة حتى أخريات حياتها. ويروى أنها ما أرضعت ولدها الشيخ قدس سره إلا وهي متطهرة.

* نشأته العلميَّة:
نشأ الشيخ الأعظم رضوان الله عليه في أحضان أسرة كريمة جمعت بين العلم والعمل والفضل والأدب؛ نشأة دينية علمية، وقد اعتُني به منذ نعومة أظفاره عناية دقيقة، وعُلم على الورع والخلق والفاضل.
قرأ القرآن وختمه على يد الحفَّاظ المشهورين في (دزفول) ثم تعلم القراءة والكتابة ثم وجَّه همته لتحصيل علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وعروض بالإضافة إلى العلوم العقلية من المنطق والكلام فأتقنها وأصبح ذا ملكة قوية فيها. ثم شرع في دراسة الفقه والأصول ولما يكمل العقد الثاني من عمره الشريف، فحضر بحث بعض الأفاضل من علماء بلده، فاستفاد منهم حتى نال مرتبة سامية يشار إليه بالبنان، وهذا يدل على نبوغه المبكر. وكان جلُّ استفاداته في هذين العلمين على عمه الجليل الفقيه الشيخ حسين الأنصاري.
وكان الشيخ الأعظم قدس سره يروم البلوغ إلى ذرى هذين العلمين، وإلى أسمى مراتبهما فعزم على السفر والتغرب عن الوطن والأهل.

* أسفار الشيخ الأنصاري:
سافر سفره الأول إلى العراق وإلى مدينة كربلاء بالتحديد التي كانت إحدى المدن العلمية الشهيرة، تضاهي النجف الأشرف في تقدمها العلمي. وكانت آنذاك مكتظة بالفطاحل والنوابغ كالأستاذ الوحيد البهبهاني والشيخ يوسف البحراني وصاحب الرياض والسيد المجاهد وشريف العلماء وغيرهم من الأساطين.
وهناك حضر الشيخ الأنصاري بحث السيد المجاهد الذي كان في صلاة الجمعة حرمة ووجوباً في عصر الغيبة. فدار النقاش وكان رأي السيد المجاهد حرمتها. فانبرى الشيخ الأنصاري رضي الله عنه وهو ابن ثمانية عشر عاماً ليقدم أدلة وافية على وجوبها في زمن الغيبة، ما أدهش السيد وجميع الحاضرين، ثم قدّم الشيخ أدلة على حرمتها ولكن أمتن من أدلة السيد نفسه. وبقي الشيخ في كربلاء مدَّة أربعة أعوام، نهل منها من معين زعيمي الحوزة العلمية آنذاك السيد المجاهد والأستاذ شريف العلماء. وظهرت في هذه المدة مقدرته العلمية الفائقة ومواهبه الفذة.
وبعد حادثة ميرآخور عاد إلى وطنه لمدة سنتين ثم رجع إلى كربلاء فأقام فيها سنة لازم فيها أستاذه شريف العلماء ثم رحل إلى النجف الأشرف، فحضر فيها درس فقيه الشيعة الشيخ موسى كاشف الغطاء، فوجده بحراً زاخراً متلاطماً في الفقه عالماً بمبانيه فاستفاد منه سنة كاملة. ثم رجع إلى وطنه. ثم عزم على السفر إلى إيران ليطلع على الحركة العلميَّة فيها، فنزل في بروجورد ثم في أصفهان حيث أقام عند مرجعها (حجة الإسلام الرشتي) شهراً كاملاً يتباحثان فيه أموراً علمية، ثم توجّه إلى مدينة كاشان وأقام فيها أربعة أعوام ينهل فيها من نمير علم (المولى النراقي) الذي كان بحراً زاخراً وعرفانياً كبيراً. ولشدة أنس هذا الأستاذ الكبير بتلميذه الأنصاري عزَّ عليه مفارقته، وفي إجازته له ما يدل على مكانة شيخنا قدس سره حيث يقول المولى النراقي:

(... وكان ممن جدَّ في الطلب وفاز بالحظ الأوفر الأسنى وحظي بالنصيب المتكاثر الأهنى مع ذهن ثاقب وفهم صائب وتحقيق دقيق ودرك غائر رشيق ومع الورع والتُّقى والتمسك بتلك العروة الوثقي، البارع النبيل والمهذب الأصيل والفاضل الكامل والعالم العامل حاوي المكارم والمناقب، والفائز بأسنى المواهب الألمعي المؤيد والسالك من طريق الكمال الأسدِّ. ذو الفضل والنهى والعلم والحجى الشيخ مرتضى ابن الشيخ محمد أمين الأنصاري التستري) بعد ذلك رجع الشيخ إلى وطنه حيث استقبله الناس استقبالاً حاراً خارج المدينة. واشتغل بالبحث والتدريس، فالتفّ حوله حشد من الأفاضل لينهلوا من منهله العذب.

وبعد هذه الرحلات عزم الشيخ على الإقامة في النجف الأشرف حيث أخذ والدته الحنونة معه، وحضر هناك بحث الشيخ علي كاشف الغطاء، حتى توفي الشيخ كاشف الغطاء قدس سره ثم لازم (الشيخ صاحب الجواهر) وعند احتضاره أرسل الشيخ قدس سره في طلب شيخنا الأنصاري وقال لأهل الحل والعقد والعلماء هذا مرجعكم من بعدي وأخذ بيد الشيخ الأنصاري ووضعها على صدره.

ولكن الشيخ الأنصاري أعرض عن قبول هذا المقام الشامخ وهو يقول «لست أهلاً للزعامة الدينية» رغم كونه أعلم الموجودين آنذاك واشتهاره بالأعلمية والزهد والتقى، وبعد اصرار من العلماء والفحول أصبح الشيخ زعيماً دينياً ألقت الزعامة مقاليدها إليه. فقلدته الطائفة الإمامية من شرق البلاد إلى غربها. وترد عليه الحقوق الشرعية فيوزعها على مستحقيها كما وانحصرت به زعامة التدريس حيث يحضر أكثر من ألف تلميذ من فطاحل العلماء مجلس بحثه. فكان يحقق لهم غوامض مسائل الفقه والأصول. وكان مع ذلك مكبَّاً على التأليف والتصنيف ويجيب على الاستفتاءات، ويراجع العلماء ويعود المرتضى. وإنه بحقٍّ من أعاجيب الدهر وعباقرة عصره حيث جمع بين الأضداد.

* زهد الشيخ الأنصاري:
بلغ زهد شيخنا الأعظم قدس سره مبلغاً كبيراً. حيث كان لا يهتم بالدنيا وزخارفها أبداً. ويروى أنه قسم لعياله مبلغاً كباقي الفقراء، بحيث لا يكفي حاجات هذه العائلة. فطلبت من أحد العلماء أن يتوسط عند الشيخ لزيادة مقرَّر عائلته. وعندما تحدث الوسيط إلى الشيخ لم يُجبه وذهب إلى منزله وقال لعائلته اجمعي لي الأوساخ فلما جمعتها قال لها اشربي منها فقالت إن النفس تشمئز منها فكيف أشربها فقال الشيخ إن الأموال المكدسة عند كهذه فهي أوساخ لأنها حقوق الفقراء لا يسوغ لي أن أتصرف فيها أكثر مما قررت لكم أنتم والفقراء في هذا الفي‏ء على حدِّ سواء لا ميزة لكم عليهم تلامذة الشيخ وهم كثيرون نذكر بعضهم:
1 - السيد المجدد الشيرازي.
2 - الشيخ جعفر التستري.
3 - المحقق المدقق الشيخ حبيب الله الرشتي.
4 - الشيخ محمد حسن الماقاني.
5 - الشيخ المحقق المدقق المولى محمد كاظم الخراساني. وغيرهم كثيرون.

* آثاره العلمية:
لشيخنا الأنصاري مؤلفات كثيرة ومصفات ثمنية وأهمها: المكاسب والرسائل. ففي أول عصارة الفقه وفي الثاني عصارة الأصول وخلاصة الأقوال فيه. ومنها أيضاً: رسالة في التقية، رسالة في العدالة وفي الرضاع وفي المصاهرة.

* وفاة الشيخ الأعظم:
رحل الشيخ قدس سره عام 1281 بعد خمسة عشر عاماً من زعامة طائفة الإمامية في المرجعية والتدريس. فلفَّ الحزن والبكاء والعويل بين سكان مدينة العلم وأذيع نبأ وفاته في الأصقاع الشيعية كلها. وأقيمت الفواتح في البلاد.
وبحقِّ إن شيخنا الأعظم كان آية من آيات الله الباهرة، ومعجزة بشرية في عالم التفكير والإنتاجات الفكرية البديعة. حيث أتى من بنات فكره بالشي‏ء الكثير الذي لم تكن له سابقة في عالم الوجود. فأبدعها بفكرته الصائبة وعمق نطرته الراسخة بما بهر العقول وعجز عنه الفحول من أساطين الفكر في عالمي الفقه والأصول.
فجزاه الله خير جزاء المحسنين وحشره مع محمد وآل محمد، وطيّب الله مضجعه كلما استفاد من علمه مستفيد، وأسكنه الفردوس الأعلى.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع