يوسف الشيخ
يدخل العالم الآن في السنوات الثلاث الأخيرة من القرن العشرين ويستعد لاستقبال قرن جديد قادم وفق قيم جديدة وثقافات متطاحنة، وإذا كانت الحضارة في المصطلح تعني التراكم الكمي والقيمي لتفاعل الثقافات فإن العقود الثلاثة الأخيرة من هذا القرن شهدت محاولات يائسة لصياغة مبادئء وقيم أحادية لهذه الحضارة ومبانيها الفكرية والأخلاقية والمعرفية ولا سيما أن عدوى التطاحن السياسي والعسكري وحمى الاستقطاب الدولي كانتا سمة القرن العشرين مع بروز تكتلات مصلحية في الشرق وفي الغرب ونزوع استعلائي بين الشمال الغني، والجنوب الفقير.
فلم تكن وحدة الفكر هي الجامعة لتلك التكتلات بل كانت وحدة المنفعة الخالية من أي مشهد ثقافي موحد، ففي الشرق كانت (الإشتراكية والشيوعية) تتعارضان فكرياً إلى حد التضاد وفي الغرب كذلك انخرط الحلف الأطلسي في فسيفساء ثقافية تتراوح بين الليبرالية المطلقة والمقيدة وبين العلمانية المستنيرة ببعض قيم المسيحية..
وغرق الجنوب في هذا الصراع في فخ التبعية حتى كاد العالم أن يتحول قبيل العام 1979 (عام انتصار الثورة الإسلامية في إيران) إلى عالم ملحد ومادي بكل ما للكلمة من معنى..
لقد كانت الثورة الإسلامية في إيران بجذورها الفكرية ورسالتها الثقافية والقيمية أكبر حادثٍ حضاري في القرن العشرين فقد كانت تحدياً مرعباً لكل الفكر الوضعي الذي سعى الشرق والغرب على السواء طيلة سبعة عقود ونيف لتقديمه كدواء ناجع للفوضى السياسية العارمة التي نتجت عنها الحرب الكونية الأولى والتي أدت إلى تفكيك العالم وفرض الدولة القومية، أو الدولة الأمة وبالتالي إلى تحطيم آخر دولتين شبه دينيتين في العالم (السلطنة العلمانية - الامبراطورية الروسية) والتي نشأ على أنقاضهما عشرات الدول..
وحتى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية بلحظات كان الفكر السائد هو ضرورة فصل الدين عن السياسة بدعوى التطور وموافقة متطلبات العصر.
وإذا كانت هذه الأطروحة غير مؤثرة في العالم المسيحي لأن ما عرف عن المسيحية المتأخرة والمعاصرة أنها لم تطرح الدين كقانون للحكم بل قدمت مجموعة أفكار "أخلاقية" دون تدخل الدين في الشؤون السياسية وراجت مقولة "ما لقيصر لقيصر وما لله لله" لأن ما تعارف عليه أن مملكة المسيحيين فيما روّج له منظروها ليست على الأرض بل في السماء..
إلا أن أطروحة فصل الدين عن السياسة كانت لها آثار مدمرة في العالم الإسلامي ولا سيما أن مجموع البنى والهياكل والتصورات الإجتماعية والاقتصادية والتربوية وانطلاقاً من القرآن وسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الكرام عليهم السلام، كانت عبارة عن انعكاس عملي للمبادئء والتعاليم الإسلامية في الحياة بشتى مجالاتها، وكان فصل الدين عن السياسة يعتبر بالحد الأدنى خنقاً حقيقياً للمسلمين، فهو يدمر جوهر وركائز المجتمعات ويفرض عليها على الأقل بناء نظام نسف كل قيمها ومرتكزاتها الفكرية والثقافية وبالتالي يحطم أسس حضارتها التي انبعثت على يد المؤسس العظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي دراسة طروحات أخرى كاليهودية المتأخرة أو البوذية أو الهندوسية نرى أنها نشأت على التمايز بين نخب متدينة بهذه الديانات التي تمثل "عنصراً مختاراً من الله"! وبين عموم البشر الذين ينبغي لهم أن يعيشوا في طبقات أحط منزلة وظيفتها الأساسية في الحياة خدمة هذه النخب وبذا كانت جل نظمها الفكرية نظماً أرضية غير متجانسة مع غالبية الناس الذين كانوا يئنون تحت تفسيرات متولي هذه الديانات وصياغاتهم الشخصية العنصرية.. لقد كانت هزة انتصار الثورة الإسلامية في إيران انعكاساً لأصالة الإسلام وقيمه وتكاملت مع المنهج الذي أطلقه الإمام المقدس روح الله الموسوي الخميني قدس سره في صحوة عارمة لأسس وثوابت لم تخبُ بل بقيت عنصراً حياً كامناً في قلوب المسلمين وإن أصابته التغطية الكثيفة في هذا القرن بفعل عوامل شتى جلها خارجية..
إن مسيرة الثورة بعد انتصارها أنشأت الحلقة الأولى من نتائجها المباشرة وهي إقامة الحكومة الإسلامية العادلة المرتكزة على أسس قرآنية ثابتة عكست رسالة الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم والأوصياء عليهم السلام ودورهم ووظيفتهم الإلهية وهي التمهيد لخاتمة دورات التكامل الإنساني التي تحققت بنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلافة أوصيائه الأطهار عليهم السلام. وتأمين خيط الاستمرارية عبر ولاية الفقهاء العدول والجامعيين للشرائط وحاكميتهم وبذا كانت إحدى أهم سمات الثورة هي أصالتها وجذورها السافية من منابعها الأساسية القرآن والسيرة المطهرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام.
وثمة حلقات أخرى نبتت مع تقادم الزوان بيّن فيها ورعى المؤسس الكبير الإمام الخميني المقدس وخليفه المفدى الإمام الخامنئي وظيفة الثورة ورسالتها الثقافية الأصيلة من خلال فهم دقيق للعالم وثقافاته وآفاقه المعاصرة وعبر رصد حثيث لثغراته الفكرية والمنهجية، فلقد أدركت قيادة الثورة الإسلامية منذ البداية حقيقة وبعد صراعها مع الأفكار الوضعية فكانت صياغتها المبدئية تمهد وتحضر لما سيؤول إليه العالم مع بدايات القرن القادم، وثمة مفكرون وباحثون يؤكدون أن حساسية تعاطي الغرب (والشرق الذي لحق به مع بداية التسعينات) مع الجمهورية الإسلامية ومع أفكارها الأصيلة يعود للأثر والخطر الإسلامي الذي يداهم محاولات "الوضعيين" لصياغات أحادية للفكر والثقافة وتعليبها بعناوين شتى (الحرية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، سيطرة رأس المال، فاعلية التكنولوجيات قرية الإعلام الكونية وغيرها).
وقد برز بوضوح الصراع الكبير بين أمركيا والجمهورية الإسلامية منذ انطلاقة الثورة، باعتباره صراعاً بين (استكبار، شيطان أكبر) وبين (مستضعفي، متعارضتين ومتوازيتين (لا تلتقيان) لأن النموذج الأيديولوجي الأميركي كان يتحضر منذ الستينات لطرح نفسه (كإله أرضي) يمثل خلاصة تطور الفكر الغربي الوضعي، وعلى النقيض تماماً كانت رسالة الثورة الإسلامية هي العودة إلى خاتمة دوائر التكامل الإنساني ومنابعها الأصيلة المشرعة من الله.
ومع بداية التسعينات بدت أميركا (التي انتصرت على الاتحاد السوفياتي في صراع الأقطاب)، مطمئنة من هيمنتها الكاملة على العالم، وطرح منظروها مفهوم نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية وبدأت المؤسسات الأميركية تتعاطى مع العالم استناداً إلى تزاوج (القوة والسيطرة مع التكنولوجيا والحرية (المقيدة)، إلا أن الإمام الخامنئي المفدى كان له رأي آخر وهو أن أميركا هزمت من الداخل وسوف نشهد في السنوات الأخيرة من القرن الحالي سقوطها...
ومؤخراً أعاد الإمام الخامنئي المفدى تأكيد هذه القراءة التي تؤكد الأيام أصالتها ودقة ملاحظاتها وعمق سبرها لغور واحد من أعقد الأفكار الوضعية المعاصرة.
فقد أكد سماحة القائد في خطاب تاريخي وفائق الأهمية وخلال استقباله مسؤولي الممثليات الثقافية للجمهورية الإسلامية في الخارج جملة من الحقائق التي تعصف بالعالم كعلامات ذات دلالة على أوجه الأزمة الحضارية والثقافية التي تعصف به نتيجة محاولات أميركا صياغة أيديولوجية قائمة على الاستعلاء.
وسوف نحاول بفهمنا القاصر التركيز قدر الإمكان على نقاط الخطاب الرئيسية مع الإشارة إلى أهمية اعتباره واحداً من أدق البيانات الثقافية جواباً على أزمة الثقافة العالمية.
1 - حدد القائد هوية الشعوب قائلاً: "إن هوية أي شعب تتضح بثقافته".
2 - حدد أزمة المجتمع الأميركي قائلاً: "إن المجتمع الأميركي يعاني بشدة من أزمة الهوية الثقافية والشخصية ونظراً لتهاوي المرتكزات الأخلاقية فهو يعيش حال الضياع والانهيار من الداخل".
3 - أشار إلى ثغرات الفكر الأميركي: "... وبغية تفادي هذا التصدّع والتداعي الخطير داخلياً بادر المعنيون (الأميركان) إلى صياغة أيديولوجية مادية والسعي لتصدير أفكارها".
وتطرق إلى عوامل فشل هذه الصياغة خارجياً معتبراً أن الدواعي القومية لهذه لتبرير اعتداءات أميركا على النطاق العالمي تبدو أمراً سطحياً... لأن العالم يطمع بأيديولوجية مقنعة وفكر يشيع الاستقرار وهنا تبدو رسالة الإسلام المعنوية زاداً قيماً له طالبوه في كل مكان وهذه الحالة تعكس تفوق النظام والفكر الإسلامي.
وبين سماحة القائد سعي الغرب لدى بلاد المسلمين مؤكداً "ضرورة التعامل مع الغزو يستهدف بالدرجة الأولى المناطق التي يستشعر الخطر فيها خاصة بالنسبة للنظام الإسلامي... والغرب وهو يعتزم السيطرة على العالم يسعى بجميع السبل لإحلال معاييره وأطره بدلاً عن ثقافة هذا الشعب أو ذاك".
وحذر سماحته المسؤولين في بلاد المسلمين من عدم المبالاة بمخاطر الثقافة الغربية وحمل بعض مبادئها.
مشيراً إلى أن "الأمر سيكون معكوساً إذا ما وجدوا (الغربيون) أن كل المسؤولين في هذا البلد يرفضون مبادئ الثقافة الغربية الأمر الذي سيضعهم أمام معضلة اسمها النظام الإسلامي.
وإذ اعتبر سماحته دعوة الغرب الدائمة لإيران الإسلام، بالعودة إلى الحظيرة الدولية يعني "أن نقبل بالثقافة والأفكار الغربية" أكد القائد أن الحضور الفعّال والمسعى السليم والإعلام المتكافئء مع حاجات الشعوب هي عناصر دفع لنشر الفكر الديني على نطاق العالم.
مشدداً على ضرورة التسلح بالعلم والورع والنزاهة والصفاء الروي باعتبارها عناصر اجتذاب واستقطاب لأفئدة الشعوب نحو الإعلام الهادف والرسالة الإسلامية.
ودعا المسلمين إلى الغوص في أعماق البحر الزاخر (الكتاب والسنة ومعارف أهل البيت) لاستخراج اللآلىء الرسالية والأحاديث الزاخرة بالنور والمعاني وتقديمها إلى عالم اليوم الحالك.
لأن القيم المعنوية التي احتاجها العالم المعاصر والقادم تكمن بغزارة هذه القيم في بحر المعارف الإسلامية..
ووصف سماحته العقود المقبلة بعقود المعلومات والاتصالات وحكمية الفكر والمنطق مشيراً إلى نهاية عهود السطوة العسكرية والسياسية والنهب الاقتصادي للسيطرة على العالم.
لقد أكد الفكر الإسلامي قوة رسالته الثقافية الأصلية في صراع الأيديولوجيات وما نشهده اليوم هو تجلي هذا الفكر وتمثله واقعاً وتحدياً حضارياً متقدماً للمادية وانتصاراً لرسالات السماء في أعتى هجمة عسكرية وسياسية على عالمنا الإسلامي، والمستقبل القريب كفيل بإبراز مشهد قوة الإسلام الكونية على أعتاب القرن الحادي والعشرين وانتصاره.