"... إلهي وإنّ الراحل إليك قريب المسافة.. وإنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الآمال دونك..." (دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة).
إن كل من يدرك حقيقة وجوده في هذا العالم سيرى - لا محالة - أن أمامه رحلة لا تكون نهايتها المكوث في القبر. فالدنيا ليست عند المؤمن إلا ممراً إلى حياة أخرى، وهي مكان العمل والزراعة ليوم يحصد فيه النتائج: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضر). وعندما يدرك الإنسان هذه الحقيقة يعلم أنه في سفر سوءا قصده أم لا، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى" وقال عليه السلام: "تجهزوا - يرحمكم الله - فقد نودي فيكم بالرحيل".
وحيث أنه لا بد من غاية لهذا السفر، وبما أن الغاية ينبغي أن تكون كمالاً حقيقياً للإنسان. فإن سفر الإنسان الحقيقي يكون عبارة عن عبور مراحل النقص إلى الكمال. وإن من سلك هذا الطريق باختيار يعبر هذه المراحل صعوداً، ومن يعرض عنه ابتغاء عرض هذا الأدنى يتسافل نزولاً حتى يصبح أخسّ من التراب: ﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾.
إن دراسة أولية لهذا الأمر تبين مجموعة من العقبات التي تصل أحياناً إلى الحرف الكامل للسالك عن المقصد الحقيقي، وفي حال إهمالها فإنها تؤدي إلى معاداة هذا الطريق حتى مع وجود النية الصادقة في البداية.
فمن هذه العقبات عقبة عقائدية تتعلق بحقيقة الألوهية وخصائصها، أي أن السلوك الذي هو عبارة عن التوجه إلى الرب سبحانه يقوم على أساس المعاطاة الدائمة بين السالك والمقصود. وما لم يعرف السالك مقصوده (عزّ وجلّ( أو أنه لم يدرك حقيقة معاملته له،فإن سلوكه سيكون مشوباً وناقصاً بما يؤدي إلى التوقف أو الانحراف. فالاعتقاد بعدالته واستمرار فيضه قربه، كل هذا يعتبر شرطاً أساسياً من شروط السفر المعني، وعندما يكون الإنسان شاكاً بالعدل الإلهي أو غير مدرك لحقيقته فإنه لن يعرف طريقه عندما يواجه الكثير من عقبات هذه الحياة. وكذلك فيما لو حصر فيضه تعالى وحدّه أو قيّده بالأسباب التي يعرفها فإنه سيتعرض للحرمان. وعندما يعيش المرء شعور البعد من جانب الله تعالى عنه سيفقد قوة السلوك ويتخبط بالموانع... وإن هذه النماذج ترجع إلى معرفة الألوهية. ولهذا فإن وجود الخلل العقائدي يعتبر من أهم عقبات المسيرة المعنوية للإنسان. وعلى هذا الأساس ينبغي لكل من يجد في نفسه عزماً على السير والسلوك أن يتعرف إلى عقيدته الأصيلة بالفكر والبرهان وأن يحكم بنيانها الشاك في نفسه. نعم، ليس مطلوباً في البداية أن يمتلك اليقين التام، لأن هذا اليقين يحصل من خلال الرياضة القلبية وعبور مراحل العبادة.
ومن العقبات التي لها عواقب وخيمة: عدم وجود المرشد المربي أو عدم تحديده بدقة. فالإجماع قائم بين أهل هذا العالم على ضرورة وجود الأستاذ المرشد، والتأكيد كبير على هذه النقطة وهي أن أعظم المخاطر لا يمكن النجاة منها دون هذا الأمر. وقد روي عنهم هذا الحديث: "هلك من ليس له حكيم يرشده". وعندما يتعمق الإنسان في معرفة هذا الطريق، يجد عشرات المسائل العملية التي تحتاج إلى خبير قدير يفصل فيها.
إن من أكبر المآسي التي نعاني منها هي أن البعض قد وصلوا إلى شأن عملي أو علمي كبير إلا أنهم لا يرتبطون بالمربي، وتجد بعدها الأخطاء تترا.
وهناك عقبة كبرى تعود إلى طبيعة فهم برنامج السير والسلوك إلى الله تعالى وهذه العقبة تنطلق من شبهات واحدة قد يعجب المرء من حصولها إلا أنها واسعة الانتشار وهذه الشبهات تتعلق بمعرفة الدين وعلاقته بالسير والسلوك. ومرجع هذه الشبهات إلى مسألتين أساسيتين.
الأولى تلك التي لا تجد في الإسلام برنامجاً دقيقاً للسير والسلوك. ولهذا فهي تبحث عنه في الخارج، رغم تقيدها بالأحكام الإسلامية عموماً.
والثانية: هي التي تؤمن بأن دين الإسلام قد تضمن البرنامج السلوكي. وأن السير والسلوك هو ذك الجزء الجميل من الدين.
ولبيان تهافت وسقوط هاتين الشبهتين نرسم صورة أولية للإسلام فهذا الدين الإلهي إذا اعتبرناه مجموعة من التعاليم والمعارف يمكننا أن نقسم معارفه إلى قسمين: الأول ما يدور حول الحقائق الوجودية والتي لا دخل للذهن والاعتبار بها. أي أنها موجودة سواء عرفناه أم لا. ولا شك في أنها لم تكن باعتبار الناس واتفاقهم. فقد دلنا هذا الدين على حقائق كثيرة لم تكن لتخطر على بالنا ونحن مستغرقون ف عالم الدنيا، وكشف أمامنا عوالم الوجود بعد أن حصرناه في الطبيعة والمادة. وقد أنشأ هذا القسم من المعارف قسماً آخر يدعو الإنسان إلى العمل. وهذه الدعوة الموجودة في القسم الثاني تنطلق من الفطرة الصافية الإنسانية. وبتعبير أدق تنسجم مع فطرة الإنسان. وبعبارة أكثر دقة ليست سوى الفطرة. يقول الله تعالى:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ .
لهذا لا يمكن لأي إنسان أن يتعرف إلى الرابطة الحقيقية بين المعارف النظرية والمعارف العملية إلا إذا كان يمتلك الفطرة الصافية. ولتوضيح الأمر بمثالين نقول أن المعرفة النظرية تثبت وجود إله واحد خالق ذي جال وجمال لا حد لهما. ورغم أن هذه الحقيقة قد يتعرف إليها الكثيرون إلا أنها لا تحدث الأثر المطلوب إلا في نفوس القلة القليلة منهم. وبالتحليل العلمي، أن هذه الحقيقة تدعو النفس إلى الخضوع والهيمان والصعق والفناء. هذه الحالات المعنوية هي تجلي تلك الحقيقة في النفس كما هو المطلوب. ولكن مع افتقاد الصفاء المطلوب في الفطرة لا يتحرك كيان الإنسان، ولا يتأثر تبعاً لذلك والحقيقة الأخرى - في المثال الثاني - هي تلك الواقعة الفاجعة الكبرى في التاريخ أم المصائب والرزايا عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام. فقد قتل في ذلك اليوم أعظم إنسان في الوجود. ومن الواضح أن هذه المعرفة تدعو النفس إلى التفجع والنحيب والحزن والبكاء المرير فمن فقد صفاء الفطرة يعجب من بكاء الناس في هذا المصاب رغم علمه بما حدث.
فخلاصة الحديث أن الإسلام قد ذكر جميع الحقائق الوجودية. وعرّف النسا إلى كل ما هو موجود ويكون وجوده مؤثراً في تكامل الإنسان ودلّهم على كيفية الوصول إليه. وحتى تلك الموجودات التي لا تأثير لمعرفتها في كمال الإنسان (كبعض النجوم أو المناطق الجغرافية..) فإن معرفتها تكون حاصل المعارف الكبرى. ويتبع ذلك بيّن الإسلام كل ما يحتاجه الإنسان للوصول إلى كماله النهائي وهو المعبّر عنه بالصراط المستقيم قال الله تعالى: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾ٍ.
وحاصل الكلام أن جميع المعارف في الإسلام هي معارف عملية. ولا يوجد فيه معرفة نظرية بحتة. وأن هذا الدين لم يترك صغيرة ولا كبيرة مما يحتاجه الإنسان للوصول إلى كماله إلا وبينها، وليس السلوك إلا مجموع التعاليم العملية التي ينبغي أن يقوم بها الملتزم. واتضح بناء عليه أن برنامج السير والسلوك ليس جزءاً من الدين، بل هو كل الدين.