وسيم الحاج
قرأنا في العدد الماضي عن نشأة "أبو تراب"، وعلاقته بالشيخ "أبو علي"، وجهوده وإخوته المجاهدين في حماية منطقة السيّدة زينب عليها السلام.
منذ اندلاع الحرب ضدّ التكفيريّين في سوريا، وهجماتهم تتوالى على منطقة السيّدة زينب عليها السلام؛ تلك المنطقة التي نشأ فيها "أبو تراب" وترعرع، ناذراً نفسه وروحه للدفاع عنها، مهما كلّف الثمن.
كتب التكفيريّون الكثير من عبارات التهديد والوعيد على حائط المقام، ظنّاً منهم أنّ ذلك سيثبط من عزيمة الأهالي والشباب ويرعبهم، بيد أنّهم تمسّكوا أكثر بالمقام والسيّدة عليها السلام، خصوصاً وأنّ "أبو تراب" كان يذكّرهم دائماً: "نحن مَن نلوذ بها، هي مَن تحمينا لا نحن".
* كرم السيّدة عليها السلام
وُضعت الخطّة الجديدة للمواجهة؛ ثلاث حلقات استشهاديّة للدفاع، وقد تطلّب ذلك جرأة واستبسالاً لا مثيل لهما من المجاهدين الأبطال. وعلى الرغم من قُرب المسلّحين الشديد من المنطقة، وأعدادهم الهائلة، أمام الثلّة القليلة المدافعة، إلّا أنّهم لم يستطيعوا الاقتراب؛ لأنّ توكّل المجاهدين هناك لم يكن على أنفسهم أو على عتادهم، وإنّما على الله عزّ وجلّ أوّلاً، والتعلّق والارتباط بالسيّدة زينب عليها السلام وحمايتها ثانياً.
جهّز المسلّحون ثلاث سيّارات مفخّخة كان من المخطّط أن تهاجم المقام، فتحدث أضراراً جسيمة، ولكنّ السحر انقلب على الساحر، فأتى أوّل غيث كرم السيّدة عليها السلام، فأثناء تحضير التكفيريّين للهجوم، سُمع صوتٌ مدوٍّ، وتبيّن أنّ سيّارة مفخّخة انفجرت بالمسلّحين، ما أفشل هجومهم، فتراجعوا منكّسي الرؤوس.
* "لبّيكِ يا زينب!"
ما حصل زاد عزيمة الإخوة وإرادتهم. وقد صعد يومها "أبو تراب" إلى قبّة السيّدة عليها السلام وبيده راية العبّاس عليه السلام، على مرأى من عين القنّاص، غير آبهٍ به، وبدأ يتلو قَسَم الولاء للسيّدة عليها السلام:
"قسماً بالله الجبّار
بصرخةٍ علويّة
وضلوعٍ فاطميّة
وقبضةٍ حسينيّة
وكفوفٍ عباسيّة
ودمعةٍ مهدويّة
وبزينب حفيدة المختار
وبابنة عليّ الكرّار
وبابنة الزهراء ابنة الأطهار
نحن قوّة حيدريّة حسينيّة
لن تنهار... لبّيكِ يا زينب!".
وعَلَت أصوات حرّاس الحرم بالتلبية للسيّدة عليها السلام، ممتدّة من صحراء كربلاء، إلى أرض الشام، وكان صدى صوت "أبو تراب" يدوّي في آذان التكفيريّين، الذين كانوا على مقربةٍ منه، وكان بإمكانهم قتله أو قنصه في أيّة لحظة، إلّا أنّ الهيبة الحيدريّة التي تجلّت في وقفته تلك ورخامة صوته، أرعبتهم وأربكتهم. في تلك اللّحظات، أيقن الجميع أنّ السيّدة زينب عليها السلام "هي مَن تحمينا. حتماً هي".
* قرار الحسم
استمرّت هجمات المسلّحين حتّى عاشوراء 1435هـ(2013م)، حين أتّى القرار بحسم المعركة في موضوع منطقة السيّدة زينب عليها السلام. جنباً إلى جنب، بقي "أبو تراب" ومن معه، فتجهّز الجميع للحظات الحسم.
وفي تلك الأيّام، رأى الشيخ "أبو علي" في "أبو تراب" حالة استثنائيّة، لم يكن قائداً عسكريّاً فحسب، وإنّما كان يقاتل بروحيّة عالية، وكأنّه يحامي عن بيته وروحه! لم يدرِ حينها الشيخ أنّ "أبو تراب" هو نفسه ذاك الطفل الذي كان يسارع إليه بالسجدة قبل كلّ صلاة، لكنّ شيئاً ما كان يدفعه دائماً إلى التبسُّم في وجهه، ومحبّة غريبة كانت تحرّكه تُجاهه.
كان "أبو تراب" القائد الميدانيّ لعمليّات تحرير منطقة السيّدة زينب عليها السلام. وبعد سنةٍ من الدفاع، بدأت مرحلة الهجوم. وخلال تلك الفترة، لم يحضر في بال "أبو تراب" إلّا رضى السيّدة عليها السلام، ففي كلّ ليلة مناجاة في الحرم يتوجّه إلى الله متضرّعاً: "كيف أقابل العبّاس -يا الله- إن تعرّضت السيّدة عليها السلام لأذى؟ بأيّ وجه أرى الحسين عليه السلام؟ بأيّ عين أواجه أمير المؤمنين عليه السلام إن لم أؤدِّ الواجب؟".
* "ارحمي غربتي"
بهذه الروحيّة خيضت عمليّات عاشوراء، وبتوفيق إلهيّ وتسديد علويّ. ولمّا شارفت العمليّات على الانتهاء، وتحرّرت معظم نقاط المنطقة، سرت نشوة النصر في قلوب الشباب، إلّا أنّ عقل "أبو تراب" كان في مكان آخر. وكالعادة، لاذ بالحبيبة عليها السلام، وهي التي تدري بكلّ أشجانه وهمومه. وليلة الثامن من محرّم، توجّه كعادته طالباً من خادم المقام أن يفتح له الضريح. راح يناجي الله قربها، ويعاتبها. للمرّة الأولى سمح لنفسه أن تعاتب الحبيبة ولسان حاله يقول: "أدري يا سيّدتي أنّي مقصّر. أدري أنّي صاحب الدواهي العظمى. أدري أنّي لستُ بمقام يحقّ لي فيه السؤال منكم سيّدتي، ولكنّ قلبي قد تاقَ للوصال. أيُعقل أن تنتهي المعركة ولم أنل ذاك الشرف يا عقيلة؟ أيعقل أن تسير القافلة إليكم وأبقى عالقاً في حطام هذه الدنيا؟ بالله عليكِ يا غريبة ارحمي غربتي، وتكرّمي عليّ بوصال جميل، ضاقت عليّ هذه الأرض وشوقي كبير. نحن قوّة مشتاقة يا مولاتي".
* أُعطي الإذن بالعروج
وبعد ليلة مناجاة طويلة، أتى فجر الثامن من محرّم، فيقصّ "أبو تراب" على أحد المقرّبين قصّته يوم رأى السيّدة عليها السلام ولم تُبتر قدماه، وأسرّ له: "سأستشهد في هذا اليوم؛ لذلك أخبِر الشيخ أبو علي بقصّتي، وليقرأ عزاء الحسين عليه السلام على جسدي قرب الضريح، وليخبر الناس القصّة بعد شهادتي من على منبره". ترك قلبه في ذاك الضريح وراح يجهّز مع الشباب عمليّات ذلك اليوم؛ لمواجهة آخر نقاط التهديد، وبعدها يأمن المقام والمنطقة.
في تلك النقطة وعلى أبواب منطقة "يلدا"، يتعرّض المجاهدون لهجوم كثيف، أصيب على إثره "أبو تراب" وصديقه الشهيد أبو صادق بلاغي، فيستشهد أبو صادق ويبقى "أبو تراب" غائباً عن الوعي. نُقل إلى المشفى العسكريّ ليبيت ليلتين، حتّى حان يوم العاشر، يوم استشهد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وراح يرزح الليل على قلب زينب، وحيدة غريبة، تتنقّل بين الشهداء، متجلببة بالحزن، تتعثّر بعباءتها التي نالت من أطرافها النار، وبين قتلى العشق، جسد فيه خمس طلقات وحروق، ينتظر الإذن بالعروج. "مولاتي، أحان الوقت؟ روحي تأبى الخروج إلّا بعد الإذن".
وأُعطي إذن اللّحاق لأبي تراب ليلة الحادي عشر من محرّم، وحلّقت روح الطفل الصغير التي أنست بالطيران بين حمائم الصحن الشريف، إلى حيث أحبّ. يومها، حضرت السيّدة زينب عليها السلام، وظلّلت جسد "أبو تراب" المشظّى بعباءتها، كيف لا، وهو طفلها الذي لم يفارقها وجداناً قطّ؟!
* لحظة الحقيقة
حضر الإخوة جميعاً، وكان الشيخ "أبو علي" بينهم متأثّراً من وقع الخبر. حمل نعش "أبو تراب" إلى المقام، رفاقه وصنوف من الملائكة، ووُضع قرب الضريح. يتقدّم الشيخ "أبو علي" لينفّذ الوصيّة التي أخبره بها الصديق القريب. ينعى الحسين عليه السلام فوق رأس الشهيد باكياً، تخنقه عبرته. وبعد قليل، يدخل "أبو علي"، والد الشهيد، من باب المقام بوجهه الضاحك المستبشر، وهو يقول: "بيّض الله وجهك كما بيّضت وجهي، يا حبيبي يا علي".
وسط دهشة كبيرة من الشيخ "أبو علي"، يتقدّم والد الشهيد إليه. يحرك الشيخ وجهه بين جاره "أبو علي" تارةً، وبين "أبو تراب" المسجّى أمامه تارةً أخرى، لتردّه صدمة الذاكرة إلى عليّ، ذاك الطفل الصغير، ويقاطع دموعه التي تقاطرت على خدّه صوت الوالد قائلاً: "شفت يا شيخ، شفت علي اللّي ربّتو السيّدة"؟! يحضنه الشيخ متمتماً: "طمّنّي عنك يا حاجّ"، ليجيب الأخير قائلاً: "الحمد لله يا مولانا، صاروا شهيدين". يقترب الرجلان من جسد الشهيد، أحدهما مخاطباً السيّدة: "إن شاء الله وفّينا يا ابنة علي؟"، والآخر معاتباً الطفل الذي لم يكن يعلم أنّه الشهيد "أبو تراب"!
* لوحٌ محفوظٌ باسمه
مع بزوغ أولى خيوط الفجر، كان الشباب يشيّعون "أبو تراب"، فيما كان هناك من يقف في زاوية المشهد، غير مبصرٍ سوى عرس ملائكيّ، ريح خفيفة وورود متساقطة من السماء، تتهادى مع حركة الريح، والسماء قد فتحت أبوابها لاستقبال عليّ، وعلى يمينهم لوح محفوظ مكتوب عليه: مسلم، حبيب، عابس، جون، وفلان وفلان، وفي آخر اللائحة، أسماء أخرى لحقت بهم كان آخر ما ظهر منها الشهيد الزينبيّ، العاشق، علي شبيب محمود، (أبو تراب الرويس).
"ضاقت عليّ هذه الأرض وشوقي كبير. نحن قوّة مشتاقة يا مولاتي"
(*) استشهد دفاعاً عن المقدّسات، بتاريخ 15/11/2013م.