السيّد علي مرتضى
لا يُحصَر دور الإمام السجّاد عليه السلام بواقعة الطفّ والصحيفة السجّادية فقط؛ فهو إمامٌ تُعدّ فترة إمامته من أطول فترات إمامة الأئمّة عليهم السلام، حيث قاربت 35 سنة، مارس فيها دوره الكامل على الأصعدة شتّى مستفيداً من الإمكانات كلّها على الرغم من شحّها، ومحقّقاً نجاحاً في المجالات كافّة، حتّى ضاق به خلفاء الزور ذرعاً، فقال الوليد كما نقل عن الزهريّ: "لا راحة لي وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا"(1).
والتعرّض للأدوار التي أدّاها عليه السلام يحتاج إلى صفحات، بل إلى مجلّدات؛ لذلك نركّز في هذه المقالة على دوره في التكافل الاجتماعيّ في ظلّ الظروف الصعبة التي عايشها.
•المجتمع بعد كربلاء
ألقت فاجعة كربلاء بثقلها على كاهل الأمّة الإسلاميّة قاطبة، ولا سيّما على مجتمع مدينة النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فعاش الناس الرعب والخوف من الحاكم الإسلاميّ الغاشم، واليأس والقنوط من التغيير، خشية أن يجري عليهم ما جرى على سبط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وساس الناس يزيد بن معاوية الفاسق الفاجر، وأمّر عليهم ولاةً من بني أميّة ومن جرى على أهوائهم، وازداد الضغط على أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم من الجهات كافّة، حتّى صار من يُرمى بتهمة الولاء لهم يحذف اسمه من الديوان، فلا يعطى الأموال التي تقُدّم من بيت مال المسلمين للناس آنذاك.
وكان من الضروريّ جدّاً للإمام زين العابدين عليه السلام في ظلّ الوضع الاجتماعيّ المتردّي، أن يواجه الفساد الاقتصاديّ والاجتماعيّ والدينيّ. وبسبب حاجة الناس إلى لُقمة العيش وللكفالة الاجتماعيّة والحماية الأمنيّة، فقد احتلّ موضوع التكافل الاجتماعيّ أولويّةً لدى الإمام السجّاد عليه السلام، حيث قام بخطوات بارزة جعلت الناس يطوفون حوله كما تطوف الفراشات حول الضوء.
•الإمام عليه السلام يؤسّس التكافل الاجتماعيّ
من المشاكل الاجتماعيّة الخطيرة التي يستغلّها الحكّام لإحكام سيطرتهم على الأمّة، هي مشكلة الفقر والعوز والحاجة إلى المال، فإنّ السلطات تتّبع سياسة التجويع من جهة؛ لإخضاع الناس وترغيبهم في العمل معها، وثمّ تنهج سياسة التطميع والتمويل من جهة أخرى؛ لتعويد الناس على الترف وزجّهم في الجرائم والآثام، وهم بهذه السياسة يسيطرون على عصب الحياة في البلاد، وهو المال، ويستفيدون منه في القضاء على من لا يرضى بهم، وفي جذب من يرضون به من ضعفاء النفوس أمام هذه المادّة المغرية. وقد ركّز معاوية هذه السياسة في بداية سيطرته على البلاد، ونهج على نهجه سائر الحكام الأمويّين.
إنّ التحرّك للإصلاح، والناس في بؤس وتخلّف اقتصاديّ، سوف يكلّفهم ما قد يعجزون عنه، ولو تمكّن قائدٌ ما أن يرفع من المستوى الاقتصاديّ للأمّة، ومن ثمّ مستوى الوعي لديها، فتصبح في حالة أفضل لتقبّل أطروحة الإصلاح، ويكون أوكد على صمودها أمام الضغوط التي تُفرض عليها من قِبل الظالمين والمعتدين.
ثمّ إنّ السعي في هذا المجال، والمال حاجة يوميّة لكلّ أحد، أوكد في تعميق الصلة بين القيادة والقاعدة، من حيث تحسّس القيادة لأمسّ الحاجات، وأكثرها ضرورةً وأسرعها نفعاً، فتكون دليلاً على حقّانيّة سائر الأهداف التي تعلن للخطّة الإصلاحيّة.
وقد اتبّع الإمام عليه السلام أساليب عدّة، منها:
1- تكفّله لعائلات الشهداء: ولقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يزاول عمليّة تموين الناس بدقّة فائقة، خاصّة عائلات الشهداء والمنكوبين في معارك ضدّ الحكم، يقوم بذلك في سرّيّة تامّة، حتّى خفيت -في بعض الحالات- على أقرب الناس إليه عليه السلام.
ذكر المؤرّخون "أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام كفل في واقعة الحرّة أربعمئة امرأة من عبد مناف، وظلّ ينفق عليهنّ حتّى خروج جيش مسلم [بن عقبة] من المدينة"(2).
2- صدقة الليل: حيث ارتكب مسلم بن عقبة المدعوّ بـ"مُسْرف" مجزرة كبرى في المدينة. وعن أبي حمزة الثمالي: إنّ علي بن الحسين عليه السلام كان يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في ظلمة الليل، ويقول: "إنّ الصدقة في سواد اللَّيْلِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ"(3).
3- مساعدة المساكين والمحتاجين: ولهذا العمل السرّي بُعدٌ أمنيّ، إذ يحتمل أن تمنعه الدولة والحكّام آنذاك عن هذا العمل لِمَا له من خطورة في مواجهة سياساتها، بينما الإمام عليه السلام اتّبع سياسة السرّ للحفاظ على النتيجة، وهي رفع المستوى المعيشيّ والاقتصاديّ للناس وسدّ حاجاتهم، ولهذا العمل بُعد أخلاقيّ وهو الحفاظ على ماء وجه الفقراء أمام من يتصدّق عليهم وأمام الناس.
وعن الحَجَّاج بْن أَرْطَأَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: "أَنَّ أَبَاهُ -عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ- قَاسَمَ اللَّهَ مَالَهُ مَرَّتَيْنِ"(4)؛ ومعنى ذلك أنّ هذا المال الذي دفعه إنّما دفعه إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين، بما يساهم في سدّ حاجاتهم. وعن محمّد بن إسحاق، قال: "كان ناس من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلمّا مات عليّ بن الحسين عليه السلام، فقدوا ما كان يؤتون به بالليل"(5).
•تحرير الرقيق
كانت ظاهرة بارزة في حياة الإمام السجّاد عليه السلام ليس لها مثيل، فقد كان يعمل عليه السلام على تغيير الوضع الاجتماعيّ لدى قسم من الناس من خلال تحرير العبيد، وهذا العمل أدّى إلى تغيير في طبيعة المجتمع؛ فقد أصبح العبيد أقلّيّة بعدما كانوا أكثريّة، خصوصاً بعد الترويج لثقافة تحرير الأرقّاء بين الناس.
فقد كان العبيد والإماء يتواترون على البلاد الإسلاميّة إثر الفتوحات الإسلاميّة؛ لذلك كان الإمام عليه السلام يشتري بعضهم ويعمل على تأهيلهم، وكان لا يُبقي أحدهم عنده أكثر من سنة واحدة، حيث يعتقهم بحجج متعدّدة، وبمناسبات مختلفة، وكان يترك فيهم الأثر الذي يتركه أفضل مربّ في تلامذته وأتباعه، ويعاملهم بإنسانيّة عالية، فيغرّز في نفوسهم الأخلاق الكريمة، ويحبّب إليهم الإسلام، وأهل البيت عليهم السلام ويعلّمهم أحكام الدين والمعارف الإسلاميّة، ويحصّنهم بالعلوم، فلا ينحرفون عن الإسلام الصحيح. مضافاً إلى أنّه لم يكن أحدهم إلّا بعد اطمئنانه عليه السلام إلى أنّه يستطيع أن يستغني بما تعلّمه ويعلّمه للآخرين، أو بما يمتلكه من مهنة في المجتمع، حتّى لا يموت جوعاً أو يشكّل عالة على المجتمع. فيعود إلى المجتمع حرّاً ليزاول العمل كأيّ فرد من الأمّة، مضافاً إلى تشجيعه على عتق الرقيق كسُنّة دينيّة.
كان الرقيق والإماء يحتفظون بكلّ ما يسمعونه أو يشاهدونه أو يتعلّمونه من الإمام السجّاد عليه السلام في قرارات النفوس، وينقلونه إلى الأجيال المتعاقبة بمجرّد تحريرهم وانطلاقهم إلى الحياة، وفي ذلك حفظ الإسلام، وحفظ لمكانة أهل البيت عليهم السلام التي كانت تحارَب بشكل ممنهج. ولا ريب في أنّ الإمام عليه السلام لو أراد أن يُنشئ مدرسةً لتعليم مجموعة من الناس، لواجه منعاً من الجهاز الحاكم، أو عرقلة لعمله، أو رقابة شديدة على أقلّ تقدير.
•مقابلة الإساءة بالإحسان
عن عبد الغفار بن القاسم أبي مريم الأنصاري، قال: "كان عليّ بن الحسين عليه السلام خارجاً من المسجد، فلقيه رجل فسبّه! فثارت إليه العبيد والموالي، فقال عليّ بن الحسين: "مهلاً عن الرجل"، ثمّ أقبل على الرجل، فقال له: "ما سُتر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟" فاستحيا الرجل، فألقى عليه خميصةً كانت عليه، وأمر له بألف درهم. فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنّك من أولاد الأنبياء"(6).
وهذا الموقف من العبيد والموالي يكشف عن مدى تأثّرهم بالإمام عليه السلام ومدى تفانيهم في الدفاع عنه، وانعكاس نهجه على مجتمع كبير له تأثيره في الأمّة.
•﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
كان الإمام عليه السلام يتحيّن الفرص، وينتهز حتّى الزلّة الصغيرة التي قد تصدر عن أحد الموالي ليهب له الحريّة، فكان يكافئ الإساءة بالإحسان ليكون أعذب عند الذي يُعتق، وأركز في خلده، فلا ينساه.
عن عبد الرزاق، قال: "جعلت جارية لعليّ بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه، فشقّه، فرفع عليّ بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾. فقال عليه السلام لها: (قد كظمتُ غيظي). قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾. فقال عليه السلام لها: (قد عفا الله عنك). قالت: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. قال: (اذهبي، فأنتِ حرّة)"(7).
فكأنّ هذا الحوار كان امتحاناً واختباراً، نجحت فيه هذه الجارية، بحفظها هذه الآية، واستشهادها بها، فكانت جائزتها من الإمام عليه السلام أن تُعتق!
•هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
وبهذا واجه الإمام زين العابدين عليه السلام مشكلة الرقّ، واستفاد منها في صالح المجتمع والدين. فالصدقة وكفالة المحتاجين وتحرير العبيد ومساعدة الناس وإغاثة الملهوفين، سياسات انتهجها الإمام عليه السلام في مقابل سياسة الحكومات آنذاك، وقد أثمرت نتائجها في الدنيا وفي الآخرة، بحيث جعلت من الإمام عليه السلام الشخصيّة البارزة في المجتمع الإسلاميّ، تتشوّق الناس إلى رؤيته وتنفرج بين يديه، وتجلّه وتحترمه، وأبرز مثال على ذلك موقف الناس أمام الخليفة هشام بن عبد الملك، فقد روى الْقُطْبُ الرَّاوَنْدِيُّ فِي الْخَرَائِجِ: "رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عليهما السلام حَجَّ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَاسْتَجْهَرَ النَّاسُ مِنْهُ عليه السلام وَتَشَوَّقُوا وَقَالُوا لِهِشَامٍ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ هِشَامٌ: لَا أَعْرِفُهُ لِئَلَّا يَرْغَبُ النَّاسُ فِيهِ، فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ وَكَانَ حَاضِراً: أَنَا أَعْرِفُهُ: هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ"(8)... إلى آخر القصيدة.
1.حياة الإمام زين العابدين - دراسة وتحليل، القرشي، ج 1، ص 14.
2.كشف الغمّة، الإربليّ، ج 2، ص 319.
3.تاريخ الإسلام، الذهبي، ج 2، ص 1147.
4.(م. ن.).
5.تاريخ دمشق، ابن عساكر الشافعي، ج41، ص383.
6.البداية والنهاية، ابن كثير، ج 9، ص 105، وهناك أحاديث عدّة في هذا الصدد، وفي هذا المصدر ومصادر كثيرة، فراجع.
7.الأمالي، ابن بابَوَيه القمّي، ص 201.
8.مستدرك الوسائل، النوري، ج 1 ص 394، ح 12247.