الشيخ علي متيرك
"إنّ الحديث عن الإمام السجّاد عليه السلام وكتابة سيرته عملٌ صعب؛ لأنّ أساس تعرّف النّاس إلى هذا الإمام تمّ في أجواء غير مساعدة إطلاقاً. ففي ذهن أغلب كتّاب السيرة والمحلّلين أنّ هذا الإنسان العظيم قد انزوى للعبادة ولم يكن له أيّ تدخّل في السياسة"(1).
•تشخيص المسار وخطورة المواجهة
انطلاقاً من قاعدة حفظ الشيعة والتشيّع، وبقاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام والإمامة، كان لا بدّ للإمام السجّاد عليه السلام من اختيار المنهج والمسار المناسبَين لتلك المرحلة، بحيث يخدم هذه القاعدة ويحفظ التوجّه العام. ويبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله مدى خطورة هذه المرحلة من خلال تشبيهها بالمرحلة السرّيّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة المكرّمة، فيقول: "ينبغي أن نُشبّه عصر الإمام السجّاد عليه السلام هذا بمرحلة بدء الدعوة الإسلاميّة في مكّة، وهي المرحلة السرّيّة... ولهذا، فإنّ المواجهة في تلك المرحلة لن تكون صحيحة"(2).
•الأعمال الأساس للإمام السجّاد عليه السلام
بعد تشخيص المرحلة، وبيان مدى خطورتها على الإسلام والإمامة، نستطيع بيان الأعمال الأساس التي قام بها الإمام زين العابدين عليه السلام بما ينسجم مع طبيعة المرحلة ويخدم التوجّه العام، وهذه الأعمال يصنّفها الإمام الخامنئيّ دام ظله، فيقول:
"كان للإمام السّجّاد ثلاثة أعمال أساس:
الأوّل: تدوين الفكر الإسلاميّ بصورة صحيحة، وطبق ما أنزل الله، بعد مرور أزمنة من التحريف والنسيان عليه.
الثاني: إثبات أحقّيّة أهل البيت عليهم السلام في الخلافة والولاية والإمامة.
الثالث: إيجاد التشكيلات المنسجمة لأتباع أهل البيت عليهم السلام وأتباع التشيّع"(3).
•خيار المواجهة العسكريّة
ممّا لا شكّ فيه، أنّ طريقة عمل المعصوم عليه السلام بعد كربلاء، اختلفت عمّا قبلها، خصوصاً في ظلّ اتّساع الهوّة وبُعدِ عموم الناس عن الإمامة، وتخلّفهم عن طاعتهم عليهم السلام. والإمام السجّاد عليه السلام نفسه يشير إلى هذا الأمر قائلاً: "ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا"(4). وبناءً على ما تقدّم من خطورة المرحلة، أصبح من الواضح أنّ خيار المواجهة العسكريّة مع بني أميّة خيارٌ خاطئٌ، ولو حصل، لما بقي للشيعة باقية.
"يظنّ بعض النّاس أنّه لو أراد الإمام أن يقاوم نظام بني أميّة، لكان ينبغي أن يرفع راية المقاومة العسكريّة، أو أن يلتحق بالمختار، أو بعبد الله بن حنظلة، أو أن يقودهما معلناً بذلك المقاومة المسلّحة بكلّ وضوح. لكن بالنّظر إلى ظروف زمن الإمام السجّاد عليه السلام، وبالالتفات إلى هدف الأئمّة عليهم السلام، نفهم أنّ هذا النوع من التفكير هو تفكيرٌ خاطئ؛ فلو قام الأئمّة عليهم السلام، ومن جملتهم الإمام السجّاد عليه السلام، في تلك الظّروف بمثل هذه التحرّكات العلنيّة، فباليقين لما بقي للشّيعة باقية، ولما بقيت الأرضيّة أو فُسح المجال لاستمرار ونموّ مدرسة أهل البيت عليهم السلام ونظام الولاية والإمامة فيما بعد"(5).
•من أشكال المواجهة
1- بيان مفهوم الشرك:
إنّ انعدام خيار المواجهة العسكريّة من قِبل الإمام عليه السلام لا يعني على الإطلاق عدم المواجهة، بل ثمّة أشكال أخرى للمواجهة، تُسهِم في تحقيق التوجّه العامّ دون القضاء على الإمامة، وتالياً على الشيعة والتشيّع. ومن هذه الأشكال تبيان حقيقة الشرك؛ وتوضيح ذلك في كلام الإمام الخامنئيّ دام ظله، إذ يقول: "للمرحوم العلّامة المجلسيّ رحمه الله في بحار الأنوار نصٌّ رائع يقول فيه: (إنّ آيات الشرك ظاهرها في الأصنام الظاهرة، وباطنها في خلفاء الجور الّذين أشركوا مع أئمّة الحقّ ونُصّبوا مكانهم). فأئمّة الحقّ عليهم السلام هم خلفاء الله وهم ينطقون عن الله. ولأنّ خلفاء الجور قد نصّبوا أنفسهم مكانهم وادّعوا الإمامة، فقد أصبحوا أصناماً وطواغيت، فكلّ من يُطيعهم يُعدّ مشركاً بالله.
مثل ذلك، أنّه لا يُمكن لعبد الملك أن يكون حاكماً على المسلمين وخليفةً لهم، لكنّ الناس كانوا يرون أنّ الحياة الوادعة بعيداً عن التعرّض للحاكم هي الحياة المريحة لهم، لهذا سلكوا هذه الحياة واتّبعوا أئمّة الجور؛ ولهذا كانوا مشركين.
ومن هنا، نرى أنّ الأئمّة عليهم السلام إذا أرادوا أن يُبيّنوا حقيقة الشّرك، فإنّهم بذلك يقومون بما يُشبه المواجهة مع نظام الحكم، وهذا ما يظهر في كلمات الإمام السجّاد عليه السلام"(6).
2- مضامين المراسلات
يذكر الإمام الخامنئيّ دام ظلهنموذجين من المراسلات التي تتضمّن لهجةً قاسيةً من الإمام عليه السلام، هما:
1- النموذج الأوّل: هذا لسان بني هاشم: "في إحدى المرّات، يكتب عبد الملك رسالة إلى الإمام السجّاد عليه السلام يلومه فيها على زواجه من إحدى جواريه. وكان للإمام عليه السلام جارية أعتقها ثمّ تزوّجها، فشمت به عبد الملك. وكان عمل الإمام عليه السلام عملاً إنسانيّاً وإسلاميّاً صرفاً. ولكنّ دافع عبد الملك من تلك الرسالة كان التعرّض للإمام عليه السلام، وإفهامه بأنّه مطّلع على مسائله الخاصّة، موجّهاً له بذلك تهديداً ضمنيّاً، فأجابه الإمام عليه السلام برسالة بدأها بتوجيه أمر الزواج، وأنّ العظام يفعلون مثل هذا الأمر، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قام به: "فلا لؤم على امرئٍ مسلمٍ، إنّما اللّؤم لؤم الجاهليّة"(7). وهو يريد أن يُذكّره بسوابق أجداده في الجاهليّة (من كفرهم وعنادهم)...
عندما وصلت الرسالة إلى عبد الملك، كان ابنه سليمان حاضراً، وعندما قرأها سمعه، وسمع ذمّ الإمام عليه السلام وأحسّ به مثل أبيه، فالتفت إليه قائلاً: يا أمير المؤمنين، أترى كيف يتفاخر عليك عليّ بن الحسين؟! يريد بذلك أن يُحرّض والده على ردّ فعل شديد، لكنّ عبد الملك كان أعقل من ولده، فقال له: لا تقل شيئاً يا ولدي! فهذا لسان بني هاشم الّذي يفلق الصخر؛ أي إنّ استدلالهم قويّ وقاسٍ"(8).
2- النموذج الثاني: من حيث لا يحتسبون: "المراسلة الأخرى التي تمّت بين الإمام السجّاد عليه السلام وعبد الملك، حيث علم عبد الملك أنّ سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجود عند الإمام عليه السلام. وكان هذا أمراً لافتاً؛ لأنّه تذكار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وباعثٌ على التفاخر. وكذلك فإنّ وجوده يُعدّ خطراً على الخليفة؛ لأنّه يجلب أنظار الناس إليه، فكتب إليه يطلب منه تسليم السيف، ووعده بإنجاز ما يريد؛ أي إنّه مستعدٌّ أن يهبه ما يحتاج. ردّ الإمام عليه السلام طلبه، فأعاد عبد الملك مرّةً ثانية تهديده بوقف حصّة الإمام عليه السلام من بيت المال إن لم يُرسل السيف(9). فأجابه الإمام عليه السلام: (أمّا بعد، فإنّ الله ضَمِن للمتّقين المخرج من حيث يكرهون والرّزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ (الحجّ: 38)، فانظر أيّنا أولى بهذه الآية)(10).وهذه لهجة قاسية جدّاً تُجاه الخليفة؛ لأنّ تلك الرسالة إذا وقعت بيد أيّ إنسان فسوف يعلم أوّلاً: أنّ الإمام عليه السلام لا يعدّ نفسه خوّاناً. ثانياً: لا يتصوّر أحد هذا الأمر بحقّ هذا الإنسان الجليل الّذي تربّى في بيت النبوّة. وهذا يعني أنّك أنت أيّها الخليفة خوّان وكفور. وإلى هذا الحدّ كان الإمام شديداً مقابل التهديد"(11).
•المواجهات العسكريّة في عهد الإمام عليه السلام
كثُرت الثورات والمواجهات العسكريّة بعد كربلاء، إلّا أنّ الإمام عليه السلام لم يتدخّل بشكلٍ مباشرٍ وعلنيّ في هذا النوع من المواجهة ورفع الراية العسكريّة، لما سلف ذكره. لكن، لا بدّ من الوقوف على رأي الإمام الخامنئيّ دام ظله وموقفه منها، ومن تلك المواجهات:
1- ثورة المختار الثقفيّ: يظهر من كلام الإمام الخامنئيّ دام ظلهأنّ ثمّة ارتباطاً كان قائماً بين الإمام عليه السلام والمختار، لكنّ هذا الارتباط لم يكن علنيّاً، بل إنّ بعض الروايات تُظهر ذمّاً للمختار من قِبَل الإمام عليه السلام، وهذا طبيعيّ وفق رأي الإمام الخامنئيّ دام ظله، يقول: "نجد أنّ الإمام السجّاد عليه السلام في قضيّة المختار، لم يُعلن التعاون معه، وعلى الرغم ممّا جاء في بعض الروايات عن ارتباطٍ سريّ بينهما، إلاّ أنّه ومن دون شكّ، لم يكن ارتباطاً علنيّاً، حتّى قيل في بعض الروايات: إنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان يذمّ المختار. ويبدو هذا الأمر طبيعيّاً جدّاً من ناحية التقيّة؛ وذلك حتّى لا يُستشعر وجود أيّ ارتباط بينهما، مع العلم بأنّ المختار فيما لو انتصر، فإنّه بالتأكيد كان سيُعطي الحكومة لأهل البيت عليهم السلام، ولكن في حال هزيمته، ومع وجود أدنى ارتباط واضحٍ وعلنيّ، لكانت النقمة شملت -وبشكل قطعيّ- الإمام السجّاد عليه السلام وشيعة المدينة، واجتثّت جذور التشيّع أيضاً"(12).
2- واقعة الحرّة: من الحوادث المأساويّة التي شهدها الإمام عليه السلام واقعة الحرّة، وما جرى على المدينة المنوّرة من قتل ونهب وانتهاك للحرمات من قِبَل الجيش الأمويّ، وقد قُتِل في تلك المعركة خلق كثير من الناس، من بني هاشم وقريش والأنصار وغيرهم.
لقد تصرّف الإمام عليه السلام مع هذه الحادثة بحكمة بالغة؛ إذ إنّه من الواضح أنّ ثورة المدينة جاءت ردَّ فعلٍ على يزيد وبني أميّة، ولم تكن عن تخطيطٍ سليم تحت قيادة المعصوم عليه السلام. وقد رُوي أنّ الإمام ضمّ أربعمئة عائلة إلى عياله بعدها، وتكفّل بنفقتها. يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "ورد في رواية أنّه عندما دخل مسلم بن عقبة إلى المدينة في واقعة الحرّة، لم يشكّ أحد على الإطلاق في أنّ أوّل شخص سيقع ضحيّة نقمته هو عليّ بن الحسين عليه السلام، لكنّ الإمام السجّاد عليه السلام، بتدبيره الحكيم، تصرّف بحيث دفع البلاء عنه، وبذلك حافظ على استمرار المحور الأصليّ للشيعة"(13).
•نشر بساط الإمامة
"إنّ نشر بساط الإمامة الواسع وتعليم وتربية العديد من الأفراد المؤمنين والمخلصين ونشر دعوة أهل البيت عليهم السلام، كان من أعظم إنجازات الإمام عليه السلام. وهذا ما جعل بني أميّة يبغضونه ويتعرّضون له... وآذاه أعوانهم، حتّى وصل بهم الأمر، سنة 95 للهجرة في زمن الوليد بن عبد الملك، إلى تسميمه، فارتفع إلى جوار ربّه شهيداً"(14).
1.إنسان بعمر 250 سنة، الإمام الخامنئيّ دام ظله، ص 255.
2.إنسان بعمر 250 سنة، الإمام الخامنئيّ دام ظله، ص 290.
3.(م. ن.)، ص 270.
4.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 34، ص 297.
5.إنسان بعمر 250 سنة، (م. س.)، ص 264.
6.(م. ن.)، ص 292.
7.بحار الأنوار، (م. س.)، ج 46، ص 105.
8.إنسان بعمر 250 سنة، (م. س.)، ص 293.
9.في ذلك الزمان كان الناس جميعاً يأخذون حصّتهم من بيت المال، وكان الإمام يأخذ حصّته أيضاً مثل غيره. (الكاتب)
10.مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 165.
11.إنسان بعمر 250 سنة، (م. س.)، ص 293.
12.(م. ن.)، ص 264.
13.(م. ن.)، ص 265.
14.(م. ن.)، ص 307.