من آداب قراءة القرآن حضور القلب، ومن الآداب المهمّة لها: التفكّر. والمقصود بالتفكّر أن يتجسّس من الآيات الشريفة المقصد والمقصود.
* من الظلمات إلى النور
إنّ مقصد القرآن كما تقوله الصحيفة النورانيّة نفسها هو الهداية إلى سبل السلام، والخروج من جميع مراتب الظلمات إلى عالم النور، والهداية إلى طريق مستقيم، فلا بدّ أن يحصّل الإنسان، بالتفكّر في الآيات الشريفة، مراتب السلامة؛ من المرتبة الدانية والراجعة، إلى القوى الملكيّة، إلى منتهى النهاية فيها، وهي حقيقة القلب السليم على ما ورد تفسيره عن أهل البيت عليهم السلام؛ وهو أن يلاقي الحقّ وليس فيه غيره. وتكون سلامة القوى الملكيّة والملكوتيّة ضالّة قارئ القرآن، فإنّها موجودة في هذا الكتاب السماويّ، ولا بدّ أن يستخرجها بالتفكّر.
وإذا صارت القوى الإنسانيّة سالمة من التصرّف الشيطانيّ، وتحصّل طرق السلامة، وعمل الإنسان بها، ففي كلّ مرتبة من السلامة تحصل له، ينجو من ظلمة، ويتجلَّى فيه النور الساطع الإلهيّ قهراً، حتّى إذا خلص من جميع أنواع الظلمات، التي أوّلها ظلمات عالم الطبيعة بجميع شؤونها وآخرها ظلمة التوجّه إلى الكثرة بتمام شؤونها، يتجلّى النور المطلق في قلبه، ويهديه إلى طريق الإنسانيّة المستقيم، وهو، في هذا المقام، طريق الربّ: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (هود: 56).
* الدعوة إلى التفكّر
وقد كثرت الدعوة إلى التفكّر وتمجيده وتحسينه في القرآن الشريف، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 44). وفي هذه الآية مدح عظيم للتفكّر؛ لأنّ غاية إنزال الكتاب العظيم السماويّ والصحيفة العظيمة النورانيّة (الهداية) قد جعلت احتمال التفكّر -وهذا من شدّة الاعتناء به- موجباً لهذه الكرامة العظيمة، قال تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 176).
والآيات والروايات من هذا القبيل أو ما يقرب منه كثيرة؛ فقد نُقل عن الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لمّا نزلت الآية الشريفة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾ (آل عمران: 190)، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها"(1).
* التفكّر وتلمّس البصيرة
والعمدة في هذا الباب أن يفهم الإنسان ما هو التفكّر الممدوح، وإلّا لا شكّ في أنّ التفكّر ممدوح في القرآن والحديث؛ فأحسن التعبير فيه ما عبّر به الخواجة عبد الله الأنصاريّ بقوله: "اعلم، أنّ التفكّر تلمّس البصيرة لاستدراك البُغية"(2)؛ فالتفكّر هو تجسّس البصيرة، وهي بصر القلب للوصول إلى المقصود، والمقصود هو السعادة المطلقة التي تحصل بالكمال العلميّ أو العمليّ. فلا بدّ للإنسان أن يتحصّل على المقصود والنتيجة الإنسانيّة، وهي السعادة في الآيات الشريفة للكتاب الإلهيّ، وفي قصصه وحكاياته. وحيث إنّ السعادة هي الوصول إلى السلامة المطلقة وعالم النور والطريق المستقيم، فلا بدّ للإنسان أن يطلب من القرآن المجيد سبل السلامة ومعدن النور المطلق، والطريق المستقيمة، كما أشير إليها في الآية الشريفة السابقة. فإذا وجد القارئ المقصد وتبصّر في تحصيله، وانفتح له طريق الاستفادة من القرآن الشريف، وفتحت له أبواب رحمة الحقّ، فإنّه لا يصرف عمره القصير العزيز، ورأس مال تحصيل سعادته، على أمور ليست مقصودة لرسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويكفّ عن فضول البحث وفضول الكلام. وإذا أشخص الإنسان بصيرته مدّةً إلى هذا المقصود وصرف نظره عن سائر الأمور، تتبصّر عين قلبه، وينقلب بصره حديداً، ويكون التفكّر في القرآن أمراً عاديّاً، وتنفتح أمامه طرق الاستفادة، وتُفتح له أبوابٌ ليست مفتوحة له إلى الآن.
* شفاء الأمراض الروحانيّة
ويستفيد القارئ المتفكّر مطالب ومعارف من القرآن ما كان يستفيدها إلى الآن بوجه، فحين ذاك يفهم كون القرآن شفاءً للأمراض القلبيّة، ويدرك مفاد الآية الشريفة: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾ (الإسراء: 82)، ومعنى قول أمير المؤمنين عليه السلام: "وتعلّموا القرآن، فإنّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره، فإنّه شفاء الصدور"(3). ولا يطلب من القرآن شفاء الأمراض الجسمانيّة فقط، بل يجعل عمدة المقصد شفاء الأمراض الروحانيّة، الذي هو مقصد القرآن، بل القرآن ما نزل لشفاء الأمراض الجسمانيّة، وإن كان يحصل به، كما أنّ الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا للشفاء الجسمانيّ، وإن كانوا يشفون، فهم أطبّاء النفوس والشافون للقلوب والأرواح.
(*) الباب الرابع- في آداب قراءة القرآن الشريف المطلقة- الفصل الخامس- بتصرّف.
1- المحجّة البيضاء، الفيض الكاشانيّ، ج8، ص194.
2- منازل السائرين، عبد الله الأنصاريّ، ص41.
3- نهج البلاغة، الخطبة (110).