مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

ابن الحرّ الجعفيّ: المحايد المتخبّط

الشيخ علي متيرك


"والله، إنّي لأعلم أنّ من شايعَك كان السعيدَ في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغنيَ عنك، ولم أُخلِّف لك بالكوفة ناصراً، فأُنشدكَ الله أن تحملَني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعد بالموت، ولكنّ فرسي هذه المُلحِقة، والله ما طلبتُ عليها شيئاً قطّ إلّا لحقتُه، ولا طلبني وأنا عليها أحد قطّ إلّا سبقتُه، فخذها، فهي لك"(1).

إنّها النفس الأمّارة، تبحث عن ذرائع وأعذار، والعنوان واضح وبَيّن، تقاعس وتخاذل.

"ما عسى أن أُغني عنك، نفسي لم تسمح بالموت، خذ فرسي"... عبارات شتّى، تحكي الضعف والهوان والتخاذل لأحد المحايدين المتخاذلين المتخبّطين...

إنّه عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ.

* تاريخٌ من الخذلان
هو عبيد الله بن الحرّ بن المجمع بن خزيم الجعفيّ، عربيّ صميم(2) (68هـ- 687م)، شاعرٌ معروف، من أشراف أهل الكوفة(3)، بل من أبطالها وشجعانها.

كان من محبّي عثمان(4)؛ إذ إنّه لمّا قُتِل عثمان وهاج الهيج بين أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ومعاوية، قال: أما إنّ اللهَ ليعلم أنّي أحبّ عثمان، ولأنصرنّه ميتاً؛ فخرج إلى الشام، وكان مع معاوية(5)، وشهِد معه صفّين، وأقام عنده، ثمّ بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام عاد إلى الكوفة واستقرّ بها.

ولمّا مات يزيد بن معاوية وهرب عبيد الله بن زياد، ثمّ ظهر المختار، قيل إنّه بايعه بعد امتناع، ثمّ فارقه إلى مصعب بن الزبير، وحضر معه قتال المختار وقَتْلَه. فلمّا قُتِل المختار، لم يأمنه مصعب، وظنّ به، فحبسه، فكلّم ابنُ الحرّ قوماً من وجوه قبيلة مذحج، فدخلوا على مصعب وتشفّعوا في ابن الحرّ، فشفّعهم وأطلق سراحه. وبعد تحريره، التحق بعبد الملك بن مروان، ولمّا ورد إلى الكوفة، أرسل الحرثُ بن أبي ربيعة عامل ابن الزبير على الكوفة جيشاً لقتاله، فعطفوا عليه، وكشفوا أصحابَه عنه، إذ كان معه نفر يسير، وحاولوا أسرَه فلم يقدروا، وأراد أن يعبر الفرات بسفينة فتابعوه، فرمى بنفسه في الماء ليفرّ من الأسر، فغرق، وقيل في قتله غير ذلك(6).

* "أيمنعني ذلك من عدلك؟"
كان محبّاً لعثمان، وهذا ما دفعه إلى قتال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام إلى جانب معاوية، على الرغم من علمه ومعرفته بعدالته عليه السلام ! كيف لا؟ وقد لجأ إليه إذ كانت له زوجة بالكوفة، فلمّا طالت غيبته، تزوّجت رجلاً آخر، فبلغ ذلك عبيد الله، فأقبل من الشام مخاصماً الرجل إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فقال له عليه السلام: "ظاهرتَ علينا عدوّنا، فَغُلْت"؛ فقال له: أيمنعني ذلك من عدلك؟ قال عليه السلام: "لا"، فقصّ عليه قصّته، فردّ عليه امرأته...(7).

إذاً، كان يعرف عدلَ أمير المؤمنين عليه السلام، ويعلم أنّه يُنصفه، فلجأ إليه، وهو يناصر عدوّه، ويقيم عنده! بل ويعترف أمامه أنّ عليّاً على حقّ، إذ بلغ معاوية أنّه يجتمع إليه [ابن الحرّ] جموع من أصحابه، فسأله عنهم، فقال: بطانتي وأصحابي وإخواني، أتّقي بهم إن نابني أمر أو خِفْتُ ظلامةً من أمير جائر، فقال له معاوية: لعلّ نفسك قد تطلَّعت إلى عليّ بن أبي طالب، فقال: إنّ عليّاً لعلى الحقّ، وأنت بذلك عالم...(8).

لقد كان عبيد الله يعلم أين يكمن الحقّ، لكن لا يقوى على كبح جماح نفسه، فوقع في شباكها أسيرَ أنانيّته وانعدام بصيرته، لا يثنيها عن ميلِها إلى من تحبّ، وهو عالم بعدالة عليّ وحقّه! ثمّ يعود عبيد الله إلى الكوفة بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام، ويموت معاوية، ويخرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة قاصداً الكوفة.

* حياد وهروب
كان الموقف الثاني في خذلان الحقّ، حيث اتّخذ ابن الحرّ موقف الهروب والفرار من الحسين عليه السلام، وقرر أن ينصب خيمةً خارج الكوفة؛ كي لا يلتقي بالإمام عليه السلام. فهو لم يكن ضدّه، لكنّه لم يرد أن يكون معه أيضاً، إذ التقى ابنُ الحرّ بقافلة الإمام الحسين عليه السلام في منزل بني مقاتل حيث نصب خيمته المحايدة، فبعث إليه الإمامُ عليه السلام الحجّاجَ بن مسروق للالتحاق به ونصرته، إلّا أنّ عبيد الله بن الحرّ أجاب رسول الإمام عليه السلام قائلاً: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون! والله ما خرجتُ من الكوفة إلّا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها، والله ما أريد أن أراه ولا يراني"(9).

إقرار بالهروب من الكوفة خشية لقاء الإمام! لكنّ الإمام عليه السلام كان يصرّ على إلقاء الحجّة عليه بنفسه، إذ ذهب عليه السلام إليه ومعه عدد من أصحابه، وبعد كلامٍ قال عليه السلام له: "اعلم، أنّ الله -عزَّ وجلَّ- مؤاخذك بما كسبت وأسلفت من الذنوب في الأيّام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبةٍ تغسل بها ما عليك من الذنوب، وأدعوك إلى نصرتنا أهل البيت"(10).

دعوة صريحة بيّنة، من ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الرجل المعروف بشجاعته، لكن أيضاً تتغلّب النفس ثانيةً، ففي المرّة الأولى غلبه حبّه لعثمان، فناهض الحقّ وناصر الباطل، وهو يعلم الحقّ وعلى يقينٍ منه، وهذه المرّة يجيب الإمامَ عليه السلام مبيّناً علمَه ومعرفته بمصير من شايعَه وبايعَه، متذرِّعاً بحججٍ تُنبئ عن ضعف نفسه وهوانها، فيقول: "والله، إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك، ولم أخلِّف لك بالكوفة ناصراً، فأُنشدكَ الله أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعد بالموت!".

* الأنا وحبّ الدنيا
لا يحتاج المطّلع على هذا الحوار إلى كثير من التأمّل كي يعلم مكامن الضعف في عبيد الله بن الحرّ، إنّه صراع النفس مع البقاء، ورفض الموت، حتّى وإن كان بين يدي حجّة الله، وإمام الزمان، وبدعوة صريحة منه! هذه النفس التي تنمو وتنشأ متعلّقةً بالدنيا وزخارفها، سيصيبها الوهن، وأيّ وهنٍ أشدّ من حبّ الدنيا وكراهية الموت؟

عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد كلامٍ له عن تداعي الأمم على الأمّة الإسلاميّة: "... وليقذفنّ في قلوبكم الوهن!"، قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "حبّ الدنيا وكراهية الموت"(11).

هذا الوهن، جعل نفسَ عبيد الله بن الحرّ تخذل الإمام الحسين عليه السلام، وتختار الحياة على عزّة الشهادة بين يدي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان مصداقاً لقوله -تعالى-: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ﴾ (الملك: 22).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لِحُبِّ الدُّنيا صَمَّت الأسمَاعُ عَن سَمَاعِ الحِكمَة، وَعَمِيَتِ القُلُوبُ عَن نُور البَصيرَةِ"(12).

* المتخاذِل ضالّ مُضِلّ
إزاء هذا الضعف والوهن، يحاول عبيد الله أن يُلبِس تخاذلَه ثوبَ العاجز المستكين الذي لا حول له ولا قوّة، فيعرض أمراً على الإمام عليه السلام قائلاً: "أنا أواسيك بكلّ ما أقدر عليه، وهذه فرسي مُلجِمة(13)، والله ما طلبتُ عليها شيئاً إلّا أذقتُه حياضَ(14) الموت، ولا طُلِبتُ وأنا عليها فلُحِقْتُ، وخذ سيفي هذا، فوالله ما ضربتُ به إلّا قطعت".

فيجيبه الإمام عليه السلام بتوصيف دقيقٍ لتخاذله قائلاً: "يا ابن الحرّ، ما جئناك لفرسك وسيفك، إنّما أتيناك لنسألك النصرة، فإن كنت قد بخلتَ علينا بنفسك، فلا حاجة لنا في شيء من مالك ﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾"(15).

نعم، هذا التخاذل وهذا الوهن هما عين الضلالة، فأنت ضالّ ومضلّ ولا تستحقّ أن تكون من أنصارنا، والإمام عليه السلام بجوابه هذا يشير إلى أنّ البقاء من دون نصير ومعين خير من معونة المُضِلّ واتّخاذه عضُداً.

* العاقبة
فَيَا لَكِ حَسْرَةً مَا دُمْتُ حَيّاً

تَرَدَّدُ بَيْنَ صَدْرِي وَالتَرَاقِي

حُسَيْنٌ حِينَ يَطْلُبُ بَذْلَ نُصْرِي

عَلَى أَهْلِ الضَّلالَةِ وَالنِّفَاقِ

وَلَوْ أَنِّي أُوَاسِيهِ بِنَفْسِي

لَنِلْتُ كَرَامَةً يَوْمَ التَّلاقي(16)

أبياتٌ من شعر عبيد الله بن الحرّ، خير شاهدٍ على العاقبة في الدنيا، وأيّ دليل أدلّ من إقرار المرء على نفسه؟!

ممّا لا شكّ فيه، أنّ شخصيّة شجاعة كعبيد الله بن الحرّ، خذلتِ الحقّ وهي عالمة به، متيقّنة منه، ولم تستقِم في أيّام المِحَن والشدائد، ستكون الحسرةُ مآلَها والندامةُ عقالَها، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الحسرة والندامة والويل كلّه لمن لم ينتفع بما أبصره"(17)، وهكذا كانت حاله، فقد أمضى بقيّة عمره متحسِّراً متأسِّفاً.

أمّا آخرته، فلعلّ في نصيحة الإمام الحسين عليه السلام إشارة واضحة إليها، عَميَ قلب ابن الحرِّ عنها وصمّ سمعه، إذ قال له: "إّني قد سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: من سمع داعيةَ أهل بيتي، ولم ينصرهم على حقّهم، إلّا أكبّه الله على وجهه في النار"(18).


1- الأخبار الطوال، ابن قتيبة، ص251.
2- فوائد رجاليّة، مهدي بحر العلوم، ج1، ص324.
3- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج45، ص354.
4- الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج4، ص287.
5- تاريخ الطبري، الطبريّ، ج4، ص586.
6- راجع: الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج4، ص289-294.
7- (م. ن.)، ج4، ص287.
8- أنساب الأشراف، البلاذريّ، ج7، ص29.
9- تاريخ الطبريّ، (م. س.)، ج4، ص307.
10- الفتوح، ابن أعثم الكوفيّ، ج5، ص74.
11- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج1، ص110.
12- عيون الحكم والمواعظ، الليثيّ الواسطيّ، ص404.
ملجِمة: أي أُلبست اللجام. واللجام ما يُجعل في فم الفرس من الحديد.
13- حياض: خزّان.
14- الفتوح، (م. س.)، ج5، ص74.
15- ذوب النضار، ابن نمّا الحلّي، ص73.
16- الكافي، الكلينيّ، ج2، ص429.
17- الفتوح، (م. س.)، ج5، ص74.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع