د. سحر مصطفى(*)
"... فقد عَظُم جُرمي وقلّ حيائي..."، نصدح بها في دعاء الحزين مع الإمام زين العابدين عليه السلام. فما سرّ هذا الربط بين الجرم وقلّة الحياء؟ وهل الحياء قيمة مهمّة في حفظ المجتمعات، أم أصبح قيمة معيقة للتقدّم؟
أسئلة كثيرة تطالعنا عندما نتناول موضوع الحياء في السياق الاجتماعيّ، وتحديداً في ظلّ التغيّرات المتسارعة التي تعيشها المجتمعات بفعل القفزات التكنولوجيّة الهائلة، وخصوصاً في عالم الاتّصال والتواصل.
* ضرب قيمة الحياء
الحياء قيمة عالية الأهميّة تساهم في ضبط الأداء الاجتماعيّ، وتساعد في تشكيل رادع داخليّ عند الأفراد، ثمّ المجتمع. وهي تتمظهر في سلوكات مختلفة، منها الاحتشام في اللباس، وأسلوب التواصل مع الآخرين، والابتعاد عن الأفعال الخاطئة. والحياء مهمّ ليس لتجنّب الانحرافات فحسب، بل لتحسين الأداء؛ فحين نستحي من أن نُتّهم بالتقصير، سنعمل حكماً على تطوير إمكاناتنا لتقديم معدّلات أفضل في الأداء.
وعلى الرغم من هذه الأهميّة لقيمة الحياء والسلوكات التي ترتبط بها، نجد أنّها تعرّضت لمحاولات ضرب وتهشيم، تارةً تحت عنوان محاربة العيب الاجتماعيّ بوصفه معيقاً للتطوّر والتقدّم والتنمية، وطوراً في الخلط بين الحياء والخجل، وبشكل خاصّ الأشكال المرضيّة من الخجل. هذه المحاربة لقيمة الحياء انعكست سلباً على الأفراد والمجتمع، وأوجدت الكثير من الانحرافات السلوكيّة والخروج عن المألوف تحت عنوان التحرّر. ونذكر بعض أساليب ضرب قيمة الحياء التي يتحمّل المجتمع مسؤوليّتها:
1- برامج مبتذلة: وليس أدلّ على ما نقول ممّا نشهده اليوم، في ساحات الإعلام في أشكاله ووسائله المختلفة، من تدنّ في شكل الموادّ المقدّمة ومضمونها، والتي تخدش الحياء العامّ، وتدمّر قيمته، تحت عناوين مختلفة، منها: التسلية، والتحدّي، والحريّة، والجرأة؛ فنجد برامج النكات البذيئة، والمسلسلات التي تروّج للممارسات المنحرفة، وتلك التي تقدّم من لا يملك أيّ ذرّة حياء في ميادين مختلفة، تحت عنوان تجارب جريئة.
2- استغلال مواقع التواصل: هذا فضلاً عما تطالعنا به صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ؛ فنجد مثلاً حملات تخاض عبر هذه الوسائل لتحدّ الضوابط الأخلاقيّة العامّة، تحت شعارات الحريّة والتغيير. وفي هذا المجال، تُطرح مغالطات حول العلاقة بين العلم والمعرفة والحياء، من خلال الترويج أنّ طرح الموضوعات العلميّة والاجتماعيّة، يستلزم الخروج عن ضوابط الحياء. وهذه المغالطة تستحقّ التوقّف عندها وإيضاحها؛ إذ يوجد فرق شاسع بين الشرح العلميّ لما يمكن أن نعتبره موضوعات حسّاسة، وبين التهتّك وخدش الحياء. ومن المهمّ الالتفات عند مقاربة مسائل كهذه إلى الزمان والمكان والكيفيّة والجمهور المستهدف، حتّى يكون الطرح علميّاً آمناً، ولا يتحوّل إلى وسيلة للتهتّك وضرب الحياء.
3- إعلانات تخدش الحياء: لا ننسى الإعلانات التي لا تتوانَى في استخدام جسد المرأة بشكل غير لائق وخادش للحياء، لترويج منتجاتها؛ فتطالعنا لوحات الإعلانات الضخمة المنتشرة في الطرقات كافّة، وكذلك عبر شاشات التلفزة، أو في صفحات المحلّات والصحف، والتي لا تُظهر المرأة إلّا كسلعة تجاريّة بهدف الكسب الماديّ، على حساب ضرب الضوابط والقيم الأخرى.
أمّا نتيجة ذلك كلّه، فتراجع احترام الكبير، والفحش في اللباس والكلام، وتدنٍّ في مستوى لغة التواصل، واستسهال استخدام الألفاظ النابية، وصولاً إلى انحرافات أخطر وأعمق.
* سُبل تفعيل قيمة الحياء
في مواجهة التداعيات السلبية لتراجع قيمة الحياء في المجتمع، لا بدّ من اعتماد استراتيجيّة لإعادة تفعيل هذه القيمة. وهذا الأمر يحتاج إلى تضافر جهود الفاعلين الاجتماعيّين كافّة، من أهل، وعلماء دين، ونخب ثقافيّة، وتعاون المؤسّسات الاجتماعيّة، من مدارس، وجامعات، وإعلام.
ويمكننا ذكر بعض الأمور التي يمكنها المساعدة في مجال تعزيز الحياء:
1- في الأسرة: لا يخفى على أحد دور الأسرة المحوريّ في زرع القيم الأساسيّة في نفوس الأبناء، والتنشئة الاجتماعيّة. لذلك لا يمكننا الحديث عن تعزيز الحياء في المجتمع، في ظلّ أُسَر لا تعرف أهميّة هذه القيمة، أو تجهل كيفيّة غرسها في نفوس الأبناء. وفي هذا المجال، يمكننا ذكر بعض الأمور المساعدة:
أ- وعي الأهل لأهميّة هذه القيمة.
ب- ربط التديّن بالحياء، بحيث يصبح تجنّب ارتكاب الذنب حياء من الله تعالى، وخوفاً على صورتهم أمام الباري عزّ وجلّ. وثمّة في هذا المجال الكثير من الروايات من سيرة أهل البيت عليهم السلام يساعد استحضارها في أسلوب قصصيّ مشوّق على هذا الأمر، فضلاً عن مضامين العديد من الأدعية. ومن المهمّ في هذا السياق الالتفات إلى المراحل العمريّة المختلفة وطريقة تقديم الأفكار وتقريبها للأولاد.
ج- الحرص على عدم التهتّك في اللباس أمام الأولاد، حتّى لو لم يكونوا في مرحلة التكليف.
د- تعزيز القيم المرتبطة بالحياء، كالاحترام والعفّة.
هـ- ضرورة أن يكون الأهل قدوة في هذا المجال، حيث يراعون في سلوكاتهم الحياء.
و- تشكيل حسّ نقديّ عند الأبناء، لما يقدّم عبر الإعلام بأشكاله كافّة، واستنكار كلّ ما من شأنه هتك الحياء، ومناقشة المضمون معهم.
ز- تعزيز التواصل مع الأبناء، والعطف عليهم وإظهار الاهتمام والمحبّة، فيتشكّل لدى الأبناء حياء حبّ.
2- على صعيد المؤسّسات التربويّة: تلعب المدرسة ومن ثمّ الجامعة دوراً مهمّاً في تعزيز القيم وتشكيل السلوك عند المتربّين. ويشمل الموضوع المناهج التربويّة، والأنشطة، وسلوكات المربّين، وأنظمة المدرسة وبيئتها. ومن المهمّ أن يختار الأهل المدرسة التي تراعي الحياء في مناهجها وأنشطتها، وتحترم ضوابط الاختلاط، واللباس...
3- دور الإعلام: إنّ أخطر دور قد تمارسه أيّ مؤسّسة في ضرب الحياء العامّ، وتجاوز الخطوط الحمراء في هذا الموضوع، هي مؤسّسة الإعلام. وفي الوقت نفسه، يمكنها أن تكون منبراً مهمّاً للحثّ على خلق بيئة ملائمة لتنامي الحياء.
ويمكن ذكر بعض النقاط المهمّة في دور الإعلام:
أ- الحرص على إزالة أيّ مظاهر تخدش الحياء العامّ شكلاً ومضموناً من البرامج المقدّمة، بدءاً من مظهر الإعلاميّين وسلوكهم، وصولاً لسيناريو البرامج، والإعلانات التي يتمّ عرضها.
ب- تكثيف المواد الإعلاميّة التي تظهر أهميّة الحياء ومحوريّته في حفظ المجتمع وصيانته من الانحراف.
ج- الالتفات إلى عدم الانجرار تحت عنوان الجرأة في طرح الأمور إلى ضرب الحياء، فهذا الموضوع يحتاج إلى حذر وانتباه.
4- الجمعيّات الأهليّة: لا يكفي أن تلعب الجمعيّات الأهليّة دوراً في معالجة المشاكل الاجتماعيّة، بل من الأهميّة بمكان أن تعمل أيضاً في الشقّ الوقائيّ لتعزيز كلّ ما من شأنه أن يقي المجتمع من الوقوع في الانحرافات، كما في محاربة كلّ انحراف في بداياته. من هنا، يمكن لهذه الجهات أن تقوم بالعديد من الإجراءات التي يمكن من خلالها محاربة المظاهر التي تخدش الحياء العامّ، وتقوم في المقابل بتعزيز هذه القيمة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكنها:
أ- القيام بحملات لرفض انتشار اللوحات الإعلانيّة المخالفة لقيمة الحياء.
ب- نشر الوعي حول أهميّة الحياء، والتثقيف حول الفرق بين الخجل المرضيّ وضعف الشخصيّة والحياء، من خلال الورش والأنشطة الفنيّة المختلفة.
ج- تزويد المربّين بمهارات لتعزيز الحياء عند الناشئة.
5- النخب الثقافيّة وعلماء الدين:
أ- رصد الحملات المشبوهة التي تهدف إلى ضرب الحياء العامّ، والتصدّي لها.
ب- التوعية والتثقيف.
ج- تشكيل لجان متخصّصة لقراءة المناهج التعليميّة ومتابعة المواد الإعلاميّة، وتقديم الملاحظات حول ما يمكنه أن يزعزع قيمة الحياء.
د- الحضور الفاعل على منصّات التواصل الاجتماعيّ.
* حصن المجتمعات
إنّ المجتمعات تحيا بالحياء وتتحصّن به، ويجب بأيّ حال من الأحوال عدم الاستهانة بهذه القيمة وضربها. ولا نبالغ إذا ما قلنا إنّه يجب الاستنفار لمواجهة محاولات تكسير هذا الخُلُق والسلوكات المرتبطة به. ونختم مع الإمام السجّاد عليه السلام بالدعاء أن يكون حالنا كما جاء في دعاء التوبة: "فَأَقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَمِّلاً لَكَ مُسْتَحْيِياً مِنْكَ".
(*) مسؤولة الدراسات في مركز أمان للإرشاد السلوكيّ والاجتماعيّ، أستاذة في الجامعة اللبنانيّة.