الشيخ محمد الحْمُود
كثيرة هي القيم الأخلاقيّة الّتي افتقدناها في عصرنا هذا، عصر العولمة والتحَرُّر، ومنها تلك القيمة التي تحوّلت في أذهان الكثيرين من الناس، وخصوصاً في مجتمعاتنا الإسلاميّة، إلى قيمة بالية، لا تتلاءم مع عصرهم، بل وتتنافى مع الحضارة والانفتاح، وتخالف الحريّة الشخصيّة والتقدّم الإنسانيّ، حتّى كادت تُمحى من قاموس علم الأخلاق، بل ومن داخل النفوس لتصبح مجرّد لفظٍ فارغ المضمون، إنّها قيمة الحياء.
* من أسباب انعدام الحياء
إنّ تدهور الحياء عند الكثير من الناس لا يحدث بين ليلة وضحاها، فهو ككرة الثلج تبدأ صغيرة ثمّ تتدحرج بسرعة وتكبر وتكبر حتّى تصبح كتلة صلبة قادرة على أن تحطّم كلّ ما يصادفها من قيم وعادات وأخلاق. ولهذا الأمر أسباب كثيرة، منها:
1- غفلة الإنسان عن الله تعالى، وعدم الشعور بحضوره ورؤيته لأعماله، وعدم تقديره له، كما قال الله تعالى: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ (الزمر: 67).
2- حبّ الإنسان للدنيا والغرق في لذّاتها، والانبهار بزخارفها ومغرياتها.
3- كثرة ارتكابه للمعاصي التي سبّبت موت قلبه وانسلاخه من الحياء بالكلّيّة، فلم يعد يتأثّر بفعل القبيح، بل لربّما يتبجّح به، ويخبر الناس عنه.
4- الاختلاط الّذي لا يراعي الضوابط الشرعيّة، وما يتخلّله من النظر المحرّم، والمزاح الذي يحوي ألفاظاً سوقيّة بذيئة أو تلميحات أو إشارات إلى أشياء يستقبح ذكرها، فضلاً عن آثاره السلبية على الأفراد والأُسرة والمجتمع.
5- مواقع التواصل الاجتماعيّ، وما لها من دور كبير في انعدام الحياء؛ إذ أباح بعضها جميع أنواع المحرّمات.
6- وكذلك بعض الوسائل الإعلاميّة التي تبثّ البرامج غير المحتشمة والمخلّة بالأدب والأخلاق والقيم، سواء أكانت على شاشة التلفاز أم عبر الشبكات العنكبوتيّة، تلك التي اخترقت الخطوط الحمراء للمنظومة القيميّة للمجتمع عن طريق كسر الحواجز في نفوس أبناء المجتمع بدعوى نشر الحوار وحريّة التعبير.
* مظاهر انعدام الحياء
لهذه الأسباب وغيرها، بتنا نجد الكثير من مظاهر انعدام الحياء في مجتمعاتنا، من أبرزها:
1- انتشار الفساد الأخلاقيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والإداريّ الذي قد نال من مظاهر الحياة وجوانبها كلّها من دون استثناء.
2- تجرُّؤ الكثير من الناس على الله تعالى، وتجاهرهم بالمعاصي طغياناً واستخفافاً، وتباهيهم بإقامة العلاقات غير الشرعيّة، وانتشار العلاقات الشاذّة بين الذكور أنفسهم، وكذلك بين الإناث.
3- آفة تعاطي الخمر والمخدّرات وترويجها والاتّجار بها.
4- استخفاف بعض الشباب والفتيات بالأوامر والنواهي الإلهيّة، من قبيل ارتدائهم الملابس الممزّقة والضّيّقة والقصيرة.
5- ازدياد ظاهرة حالات خلع الحجاب أمام وسائل التواصل للترويج لثقافة السفور بدل الحشمة.
كما وسرى عدم الاحتشام في اللباس إلى بعض المحجّبات اللواتي بتن يرتدين لباساً هو أقربُ إلى السفور منه إلى اللباس الشرعيّ، واختزلن الاحتشام المفروض عليهنّ بمجرّد تغطية الشعر، وأضحى الحجاب عندهنّ قطعة قماش توضع على الرأس فقط، حجاباً فارغاً من المضمون.
6- انتشار ظاهرة تشبُّه الرجال بالنساء في اللباس والسلوكات وبالعكس.
7- التفوُّه بالألفاظ البذيئة والفاحشة علناً في الشوارع والأماكن العامّة وبصوت عالٍ، ودون خجل.
8- تناقل الطرائف بين بعض الشباب والفتيات عبر شبكات التواصل الاجتماعيّ، الذي بات أمراً يتجاوز الحياء والأخلاق، فضلاً عن نشر الصور الخاصّة وبوضعيّات غير لائقة، والفيديوهات التي تنقل حياتهم اليوميّة، وكأنّهم في بثّ مباشر لساعات وساعات، بحيث يجعلون تفاصيل حياتهم الشخصيّة معروضة أمام الجميع بلا ساتر، وأسرارهم مباحة أمام الملأ، رغبة في زيادة التفاعل -تعليقاً أو مشاركةً أو إعجاباً- حولها.
9- الاستهتار بالقيم والعادات والتقاليد الحسنة.
10- تراجع الغيرة والحميّة.
11- ذوبان الهويّة الإسلاميّة، وتحوّل المنكر إلى معروف. ولا شكّ في أنّ أسوأ مرحلة يصل إليها المنكَر هي أن يغدو أمراً عاديّاً وطبيعيّاً ولا يستفزّ المشاعر. وهذا ما نبّه منه النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وحذّر منه كما روي عنه: "كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَتْ نِسَاؤُكُمْ، وَفَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَلَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَقِيلَ لَهُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ! كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ! قَالَ: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ! كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً"(1).
* تداعيات من قلّة الحياء أو انعدامه
1- في القرآن الكريم: حذّرنا الله سبحانه وتعالى من نتيجة هذه الأعمال، وأمرنا أن نسير في الأرض للنظر في ما حلّ بالأمم السّابقة من الدمار والعقوبات كي نعتبر ونتّعظ حتّى لا يصيبنا مثل ما أصابهم، وذلك بقوله: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (الأنعام: 11)، وقوله: و﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الأنعام: 13).
2- في الأحاديث الشريفة: لقد أخبرنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن هذا الواقع المرير قبل مئات السنين بقوله: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَرْتَفِعُ فِيهِ الْفَاحِشَةُ، وتَضِيعُ فِيهِ الأمَانَة، وَتُنْهَتَكُ فِيهِ الْمَحَارِمُ، وَيُعْلَنُ فِيهِ الزِّنَا، وَيُسْتَحَلُّ فِيهِ أَمْوَالُ الْيَتَامَى، وَيُؤْكَلُ فِيهِ الرِّبَا، وَيُطَفَّفُ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ، وَيُسْتَحَلُّ الْخَمْرُ بِالنَّبِيذِ، وَالرَّشْوَةُ بِالْهَدِيَّةِ، وَالْخِيَانَةُ بِالأَمَانَةِ، وَيَشْتَبِهُ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ وَالنِّسَاءُ بِالرِّجَال،ِ وَيُسْتَخَفُّ بِحُدُودِ الصَّلاةِ، وَيُحَجُّ فِيهِ لِغَيْرِ اللهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِك..."(2).
وفي حديث آخر، يقول عليه السلام: "فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ظهر الفساد، فلا منكِر مغيّر، ولا زاجِر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تُجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟ هيهات! لا يُخدع الله عن جنّته"(3).
وكذلك ورد التحذير من العقوبات الإلهيّة على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال: "لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا"(4)، وعلى لسان أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ حِينَئِذٍ مِنْ أَخْذِ اللَهِ عَلَى غَفْلَةٍ، فَإِنَّ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مَوْتاً ذَرِيعاً يَخْتَطِفُ النَّاسَ اخْتِطَافاً، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصْبِحُ سَالِماً، وَيُمْسِي دَفِيناً، وَيُمْسِي حَيّاً، وَيُصْبِحُ مَيِّتاً..."(5). وأضاف أنّها توجب الخذلان والعذاب الأليم وحلول النّقم: "مُجَاهَرَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْمَعَاصِي تُعَجِّلُ النِّقَمَ"(6)، وتعجيل النقمة معناه أن يُعجِّل الله عزَّ وجلَّ في هلاك الإنسان، أو في ذهاب ماله، أو في خسارة أعزّ ما يملك، كالصحّة والأولاد.
* فلنستيقظ من غفلتنا
إنّ الزمن الذي يُفتقد فيه الحياء يسوده التحلّل الأخلاقيّ، وتبدّل القيم السامية بأخرى فاسدة ومبتذلة، وصارت مبارزة الله بالمعصية بطولة وشجاعة ومنقبة، والتسيّب الأخلاقيّ تحَرُّراً! لذا، لا بدّ لنا من العودة إلى قيمنا الأصيلة والتّمسّك بها، وممارستها بفخر واعتزاز، وذلك يستدعي أن نستيقظ من غفلتنا، ونزيل الغشاوة التي تغلّف قلوبنا، ونعزّز التقوى في نفوسنا كي نحصّنها من الانزلاق والسقوط في بحر المحرّمات، وأن نتأمّل في عظمة الله تعالى، ونستشعر أنَّه أقرب إلينا من حبل الوريد، وأنَّنا في محضره، كما قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "إذا ما تيقّن الإنسان وآمن أنَّ كلّ العوالم الظاهرة والباطنة هي في محضر الله تعالى، وأنَّه سبحانه حاضر وناظر في كلّ مكان، يستحيل أن يصدر عنه ذنب أو معصية"(7)، وأن نعلم أنَّه تعالى يقهر العباد بقدرته، وأنَّه مطّلع علينا ومراقبنا كما قال في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1)، وأن ندرك أنَّ كلّ أعمالنا وحتَّى أفكارنا ونوايانا محفوظة في صحيفة أعمالنا إلى يوم القيامة لتكون ماثلة أمامنا، وسوف يحاسبنا الله عليها، ويومذاك يقول بعض الناس كما أخبرنا بذلك الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ (الكهف: 49). ساعتئذٍ فقط تعود العفّة والحياء قيمة لها مكانتها المتألّقة في مجتمعنا.
1- الكافي، الكليني، ج5، ص59.
2- بحار الأنوار، المجلسي، ج93، ص 303.
3- نهج البلاغة، ج2، ص 12.
4- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحرّ العامليّ، ج16، ص273.
5- بحار الأنوار، (م. س.)، ج93، ص303.
6- غرر الحكم، حديث 9811.
7- الإمام الخمينيّ قدس سره، الجهاد الأكبر، موقع دار الولاية للثقافة والإعلام.