الشيخ محمود عبد الجليل
يعدّ الإقراض واحداً من العناوين التي تسهم في بناء صرح التكافل الاجتماعيّ الذي حثّ عليه الإسلام، وذلك من خلال ما يوفِّره من مساعدة لمن يعيشون الضائقة في احتياجاتهم الماديّة، خصوصاً في الظروف الراهنة حيث كثُرت اليوم الحاجة إلى القروض بسبب تدهور الأوضاع الاقتصاديّة لدى الكثير من أفراد المجتمع. وفي الشريعة كان من جملة السنن المؤكّدة "إقراض المؤمن"، وله آداب وسنن.
•القرض والدَّين
القرض في اللّغة: "ما يَتَجازَى به الناسُ فيما بينهم ويَتَقاضَوْنَه، وجمعه: قرُوضٌ، وهو ما أَسْلَفَه من إِحسانٍ"(1). وفي الاصطلاح الفقهيّ هو: "تمليك المقرِض ماله للمقترِض على وجه ضمان المثل"(2).
ويقال لكلّ حقّ ثابتٍ لشخص في ذمّة شخص آخر قرض أو دَين، مع وجود فارق بينهما؛ فالقرض ينتج عن طريق أخذ شخص ما له قيمة ماليّة من آخر على أن يردّه إليه عند الاستطاعة، بينما الدَّين قد يحصل بسبب ذلك أو بسبب آخر كالبيع، كما لو اشترى ولم يدفع ثمن ما اشتراه، أو تزوّج وجعل المهر مؤخّراً إلى مدّة معلومة مثلاً...، ومن هنا، فالقرض أخصُّ من الدَّين.
•القرض تجارة رابحة
التجارة نوعان؛ تجارة مع الناس، وتجارة مع الله، والتجارة مع الناس قد تربح وقد تخسر، وإذا ما ربحت فمن الواضح أنّ الربح محدود، أمّا التجارة مع الله تعالى فلا حدود لها، وقد قال عزّ من قائل: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 261)، ومن تلكم التجارات مع الله تعالى القرض الحسن.
إنّ الله تعالى، وفي خمس آيات من كتابه العزيز، يأمر المؤمنين تارةً، ويصفهم تارةً أخرى، بأنّهم يقرضون الله قرضاً حسناً، ومنها قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ (الحديد: 11). ومن الطبيعيّ أنّ نسبة القرض إليه تعالى هي للتدليل على تعظيمه، وللحثّ والتّشجيع والتّرغيب في البذل والإنفاق في سبيله؛ إذ رغبة الإنسان في الإنفاق ضعيفة بشكل عامّ. وننصح القارئ بمراجعة رواية أبي الدحداح الواردة في سبب نزول هذه الآية(3) والاستفادة من الدروس والعبر والصور الراقية التي قدّمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجتمع الإسلاميّ.
•القرض خيرٌ مقدّم
وعندما يُقرِض المؤمنُ الله تعالى، إنّما يقدّم الخير لنفسه، وله الأجر الجزيل والمضاعف، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ (المزمل: 20). وما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ما من مؤمن أقرض مؤمناً يلتمس به وجه الله إلّا حسب الله له أجره بحساب الصدقة حتّى يرجع إليه ماله"(4)؛ من جهة كون القرض تقدمة للمُقرِض نفسه عبر مساعدته للآخرين، فالمنفعة الحقيقيّة هي لصاحب القرض، وليس لمن طلب القرض والمساعدة.
•فضل قضاء الحوائج
نجد في الشريعة الإسلاميّة الحثّ الشديد على الإقراض؛ لأنّه يساهم في أمور كثيرة، منها: حفظ ماء وجه المقترِض، وإصلاح الوضع الاقتصاديّ في المجتمع، وقطع دابر الفتنة والفساد بين الناس بسبب الحاجة والعِوَز، والحيلولة دون الترويج لثقافة الربا، والمساعدة على البرّ، ومواجهة الحرص والبخل، وكشف كربة المسلم وقضاء حاجته، ونشر ثقافة التعاون في المجتمع، وزيادة ارتباط المقرِض بربِّه من جهة استشعاره أنّه يقرض الله تعالى، فيضاعف له الأجر والثواب في ماله، ويحصل على البركات الدنيويّة والأخرويّة. وقد جاء عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "مَن أقرض أخاه المسلم كان له بكلّ درهم أقرضه وزن جبل أُحُد من جبال رضوى وطور سيناء حسنات، وإن رفق به في طلبه تُعدِّي به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب، ومَن شكا إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرّم الله عزَّ وجلّ عليه الجنّة يوم يجزي المحسنين"(5).
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "مكتوبٌ على باب الجنّة: الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشرة، وإنّما صار القرض أفضل من الصدقة؛ لأنّ المستقرض لا يستقرض إلّا من حاجة، وقد يطلب الصدقة مَن لا يحتاج إليها"(6). ويمكن أن يكون من الأسباب أيضاً، أنّ مال القرض يعود إلى صاحبه فيقرضه مرّة أخرى، وهكذا حتّى يتضاعف أجره، بينما الصدقة لا تعود لصاحبها، بالتالي، يقف أجرها عند حدود مَن وصلت إليه، وكذلك في كونه يعين المقترِض على العزوف عن الكسل، والسعي للعمل والكسب لقضاء ما عليه من الدَّين...
•آداب الإقراض والاقتراض
إنّ المتتبّع للآيات القرآنيّة التي تعرّضت للإقراض، يلاحظ أنّها قيّدت الإقراض بالقرض الحسن، وهذا ما ينبّه إلى ضرورة التحلِّي بجملة من الآداب بالنسبة إلى الطرفين المقرِض والمقترِض، والتي يمكن الإشارة إلى بعضها:
فمن طرف المُقرِض:
1- أن يكون القرض خالصاً لوجه الله تعالى.
2- أن يكون من المال الحلال.
3- أن تُصان كرامة المقترض من الذلّ والأذى.
4- أن يحّدد وقت السداد.
5- أن لا يشتمل على الربا.
6- أن لا تشوبه منَّة على المقترِض.
7- أن يُصرف من المال السليم الذي لا عيب فيه.
8- أن يشكر المقرِضُ اللهَ تعالى على توفيق الطاعة.
9- عدم ردّ المحتاج إلى القرض، فقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من احتاج إليه أخوه المسلم في قرض وهو يقدر عليه فلم يفعل، حرّم الله عليه ريح الجنّة"(7).
10- إنظار المعسر: فقد جاء عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من أنظر معسراً كان له في كلّ يوم صدقة بمثل ما له عليه حتّى يستوفي حقّه"(8).
11- توثيق القرض عبر الكتابة والإشهاد، عملاً بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...﴾ (البقرة: 282).
أمّا من طرف المقترض:
1- أن يؤخذ للمصاريف الضروريّة.
2- أن يعجّل في سداد القرض.
3- أن يكون ناوياً لقضاء الدَّين من دون مماطلة أو إبطاء أو إنكار، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَن استدان ديناً، فلم ينوِ قضاءه كان بمنزلة السارق..."(9).
4- الإحسان إلى المُقرِض، وأن يكون وفيّاً لمن ساعده على قضاء أموره.
•خالصاً لوجه الله
ختاماً، القرض الحسن هو كلّ قرض كان مُخلَصاً لوجه الله تعالى، خالياً من شائبة الشرك، والرياء، والسّمعة، والمنِّ والأذى، وفيه الخير والمنفعة العامّة.
1.لسان العرب، ابن منظور، ج7، ص213.
2.مصباح الفقاهة، السيد الخوئي، ج2، ص 78.
3.مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج7، ص 260.
4.الكافي، الكلينيّ، ج4، ص33.
5.وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج18، ص331.
6.مستدرك الوسائل، (م. س.)، ج12، ص363.
7.أمالي الصدوق، ص 509.
8.وسائل الشيعة، (م. س.)، ج18، ص 368.
9.الكافي، (م. س.)، ج5، ص99.