سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
ليلة الخامس عشر من شعبان هي ليلة عظيمة ومباركة عند الله سبحانه وتعالى، ولها كرامتها وبركتها وقيمتها وفضلها. والله سبحانه وتعالى يعطي لبعض الأزمنة قيمة وكرامة خاصّة. وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في فضل ليلة النصف من شعبان أنّه قال: "سئل الباقر عليه السلام عن فضل ليلة النصف من شعبان فقال: هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر، وفيها يمنح الله تعالى العباد فضله، ويغفر لهم بمنّه، فاجتهدوا في القربة إلى الله تعالى فيها، فإنّها ليلة آلى الله عزّ وجلّ على نفسه أن لا يردّ فيها سائلاً ما لم يسأل الله معصية"(1). وهي ليلة من ليالي قضاء الحوائج. وما أحوجنا في هذه المرحلة وفي هذا الوقت أمام هذه الأخطار والتحدّيات، التي تواجه البشريّة كلّها اليوم، إلى أن نسأل الله سبحانه وتعالى، وندعوه، ونطلب منه، ونلوذ به، ونلجأ إليه. في هذه الليلة، يفتح الله سبحانه وتعالى الأبواب؛ ولذلك يجب أن يُستفاد منها أقصى الاستفادة في السؤال والطلب والدعاء.
•الدعاء فيها مستجاب
عن الإمام الرضا عليه السلام في ليلة النصف من شعبان أنّه قال: "هي ليلةٌ يعتق الله فيها الرقاب من النار، ويغفر فيها الذنوب الكبار -إلى أن يقول- فإنّ أبي عليه السلام -يعني موسى بن جعفر- كان يقول: الدعاء فيها مستجاب"(2).
إذاً، نحن أمام ليلة يجب أن نستفيد منها في التوجّه إلى الله سبحانه وتعالى لقضاء حوائج الدنيا والآخرة؛ بالدعاء، والاستغفار، والمناجاة، والعبادة، والصلاة، وتلاوة القرآن. برنامج هذه الأعمال العباديّة موجود في الكتب المعروفة، ولكن من أكثر الأعمال وأهمّها، التي أكّدت عليها الروايات وذكرت لها ثواباً عظيماً وأجراً كبيراً، هي زيارة الإمام الحسين عليه السلام.
•الوعد الإلهيّ
نحن نعتقد أنّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هو الإمام الحجّة ابن الحسن العسكريّ المهديّ، من ذريّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه ولد في ذلك الزمان من التاريخ، وهذه الولادة هي إيذان بأنّ البشريّة دخلت مرحلة الاتّجاه إلى تحقّق الوعد الإلهيّ، على طول التاريخ منذ بداية الأنبياء عليهم السلام والرسل والكتب السماويّة. الله سبحانه وتعالى وعدنا أنّ هذه الأرض، في نهاية المطاف، سيرثها الصالحون والصدّيقون والمباركون، وسيُقام فيها العدل، وتتحقّق فيها العدالة والسلام والأمن والاستقرار والسلامة والعافية، وستنفتح فيها الكثير من أبواب الخير للبشريّة. هذا وعدٌ إلهيّ، على الرغم ممّا ستمتلئ به على مدى آلاف السنين من ظلم، وفساد، وسفك للدماء، وعلوّ، وعتوّ، واستكبار، واستضعاف، وحروب، وفتن، وصراعات. هذا يعني أنّه سيأتي زمانٌ على البشريّة تتخلّص فيه من هؤلاء الطغاة، والجبابرة، والفراعنة، والنماردة القدامى والجدد، والمتوحشين ماليّاً واقتصاديّاً وأخلاقيّاً وبطشاً وقمعاً. البشريّة حكماً ستتّجه إلى اليوم الذي يتحقّق فيه هذا النوع من المجتمع البشريّ الذي تلخّصه بعض الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يتحدّث عن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، فيقول مثلاً: "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً"(3). سيتحقّق الوعد الإلهيّ وسيأتي من يملؤها عدلاً، وقسطاً، وأمناً، وسلاماً، وإنسانيّةً، وإيماناً، وأخلاقاً، وحبّاً، وسلماً. وهذا الوعد الإلهيّ سيتحقّق على يد مجموعة كبيرة من الناس اللائقين وقادة كبار من أوليائه العظام.
•الذين يرثون الأرض
توجد الكثير من الشواهد القرآنيّة حول هذه الفكرة، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ﴾ -الزبور كتاب داوود عليه السلام أو أنّه مزامير داوود نفسه- ﴿مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105). يقول بعض المفسّرين إنّ الذكر هو كتب الأنبياء السابقين عليهم السلام، وآخرون يقولون إنّه كتاب موسى عليه السلام. في المحصّلة، الآية تقول لنا إنّ الله سبحانه وتعالى كتب في كتب الأنبياء السابقين هذا الوعد، وأكّد هذا الوعد في القرآن، الكتاب الخالد إلى أبد الآبدين. تصوّروا أنّ الصالحين الأنقياء الطاهرين المخلصين، الذين لا يظلمون، ولا يقتلون ظلماً، ولا ينهبون، ولا يسرقون، ولا يُفسدون، هؤلاء هم أهل العلم، والمعرفة، والجديّة، والعمل الدؤوب، والمسؤوليّة، الذين سيحكمون الأرض ويرثونها.
•إجماع الديانات السماويّة
بالعودة إلى كتاب العهد القديم والجديد الموجود الآن والمتبنّى عند اليهود والمسيحيّين، في المزمور رقم 37 مثلاً من مزامير داوود في الفقرة تسعة يقول: "لأنّ عاملي الشرّ يُقطعون والذين ينتظرون الربّ هم يرثون الأرض"، عبارة (يرثون الأرض) موجودة في هذا الكتاب أيضاً. وفي الفقرة 11: "أمّا الودعاء -ودعاء يعني وادع أو وديع؛ أي الناس الطيّبون الوديعون- فيرثون الأرض ويتلذّذون في كثرة السلامة"؛ أي أنّ السلام والسلامة سيعمّان البشريّة والأرض، والناس يتلذّذون من كثرة السلام. في الفقرة 22: "لأنّ المباركين منه -يعني مِنَ الله- يرثون الأرض والملعونين منه يُقطعون"، الفراعنــة والنماردة، والطغاة، والمستبــدّون، والمتجبّرون، والمتوحّشون لا مكان لهم في مستقبل البشريّة. في فقرة 29: "الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد". إذاً، الوعد الإلهيّ بوراثة الأرض للصالحين ثابت في الكتب السماويّة، ومتّفق عليه، ولكن هناك اختلاف بين الأديان السماويّة على قائد مشروع وراثة الصالحين للأرض؛ فاليهود مثلاً، يعيشون على أمل مجيء المسيح عليه السلام وليس عودته؛ لأنّ بعضهم يعتبر أنّه لم يأتِ بعد.
•من ينتظر اليهودُ؟
ثمة اتّفاق بيننا وبينهم على كلمة المسيح عليه السلام، ولكنّ المسيح عليه السلام الذي يتطلّع إليه اليهود، ويتوقّعون مجيئه، ويعتبرونه ملك العالم الذي سيرث الأرض، ليس المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام وإنّما مسيح آخر؛ لأنّهم كما حصل في التاريخ، أنكروه، ورفضوه، وحاربوه، وافتروا على أمّه القدّيسة الصدّيقة العظيمة السيّدة مريم عليها السلام بُهتاناً كبيراً وعظيماً، على الرغم ممّا أظهره من معجزاتٍ عظيمة وكريمة وقويّة. أمّا المسيحيّون، فيعتقدون أنّ السيّد المسيح عليه السلام الذي كان في ذلك الزمان سيعود إلى العالم، وسيحقّق هذا الوعد الإلهيّ. والمسلمون يعتقدون أنّ الوعد الإلهيّ، سيتحقّق على يد رجلٍ من نسل رسول الله، رسول الإسلام الأعظم محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وإن كان ثمّة اختلاف في الدائرة الإسلامية حول شخصيّة هذا المهديّ؛ منهم من يقول إنّه وُلِدَ، وهو موجود وغائب وسيظهر في زمانٍ ما كما نقول نحن، ومنهم من يقول إنّه سيولد في الزمن الذي يشاء الله سبحانه وتعالى لهذا الوعد الإلهيّ العظيم أن يتحقّق، وعندما يبلغ مثلاً من العمر ثلاثين أو أربعين سنة، سوف يقوم بهذه الحركة العالميّة.
والرجل الثاني الذي يؤمن المسلمون أنّه سيعود إلى هذه الدنيا، وسيحقّق مع الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هذا الوعد الإلهيّ، وهذه الوراثة للصالحين على الأرض، هو السيّد المسيح عليه السلام، وهو موجود وسيعود إلى هذه الأرض. وعندما نقول إنّ الإمام عليه السلام وُلد، فهذا يعني أنّ ولادته هي إيذان ببدء العدّ العكسيّ لتحقيق هذا المشروع وانطباقه ومجيئه، ولكن ثمّة فاصل زمنيّ لا نعلم إلى أيّ مدى يمتدّ وتتحضّر له الأرض.
•قلق اليهود
إنّ أتباع الديانات كلّها يتطلّعون، ويترقّبون، وينظرون إلى ذلك الوقت وينتظرونه، وهذا موجود في الكتب، وراسخ في التربية الدينيّة، ويُذكر في الخطابات والمؤتمرات ومواقع التواصل الاجتماعيّ. وعندما تحصل أحداث معيّنة، يرتفع منسوب الانتظار؛ الكثير من حاخامات اليهود مثلاً، ارتفع عندهم منسوب الانتظار لمن يتوقّعونه، ولكنّ اعتقادهم خاطئ؛ لأنّ من سيأتي ليس من يأملون! وسيتكرّر ما حصل معهم في مدينة يثرب وفي المدينة المنوّرة، إذ يُقال إنّ بني النضير وبني قريظة الذين جاؤوا وسكنوا في المدينة وفي شبه الجزيرة العربيّة، كانت كتبهم الدينيّة تقول لهم إنّ نبيّ آخر الزمان سيخرج من هذه الأرض ومن هذه المدينة، وتبيّن مواصفاته، فانتظروه مئات السنين، وتوارثوا هذه الثقافة جيلاً بعد جيل، وعندما وجدوا أنّ النبيّ ليس منهم، وإنّما هو محمّد بن عبد الله الهاشميّ القرشيّ العربيّ التهاميّ المكيّ المدنيّ، كما نقول في المواصفات، كانوا أوّل مَن أعلن عليه الحرب والعداء!
ثمّة حالة قلق لدى اليهود، حتّى في ثقافتهم الدينيّة، على مصير دولة "إسرائيل"، الكيان الغاصب لفلسطين المحتلّة. وأنا سمعت كلاماً مسجّلاً لوزير الحرب الإسرائيليّ، يتحدّث فيه بقلقٍ عن مستقبل دولة "إسرائيل"، ويقول: أُقيمت لنا دولتان في التاريخ؛ دولة في زمن داود وسليمان عليهما السلام، ودولة ما قبل الميلاد بنحو 150 أو 160 سنة، وكلا الدولتان لم تصل إلى عمر الثمانين عاماً. فدولة "إسرائيل" الحاليّة باتت تقترب من عمر الثمانين؛ ولذلك هم خائفون وقلقون، خصوصاً أنّ كلا التجربتين السابقتين سقطتا بسبب الاختلافات، والصراعات الداخليّة، والاجتياح الخارجيّ. ولذلك أيضاً، عندما يشعرون بالخطر، يرتفع منسوب الانتظار!
(*) من كلمة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في ذكرى ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في تاريخ 7/4/2020م.
1.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 95، ص 409.
2.فضائل الأشهر الثلاثة، الصدوق، ص 45.
3.بحار الأنوار، (م. س.)، ج 51، ص 47.