مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

كلّ هاتــف جبهة

د. علي كريّم 
 

لا تنفكّ أدوات المعركة في قبالة محور المقاومة، وعلى امتداد الجبهات، تأخذ أشكالاً عدّة؛ بدءاً من الأسلحة الفتّاكة والمدمِّرة، مروراً بالعقوبات والتهديدات والضغوط النفسيّة، وصولاً إلى المنصّات والصفحات ومواقع التواصل الاجتماعيّ في العالم الافتراضيّ. واللافت في الأمر، أنّ كلّ أداة من هذه الأدوات توضع لها الخطط، وتُرسم لها السيناريوهات، وتُقاد من قبل خبراء ومختصّين، بل وأجهزة مخابرات عالميّة، تحترف فنون توظيفها، خاصّة في مجال العالم الافتراضيّ(1)، الذي بات جزءاً من الأمن القوميّ لأيّ محور أو جبهة متقدِّمة.

•كلّ فرد جزء من المعركة
تعمد أجهزة العدوّ -الآنفة الذكر- في الحرب الافتراضيّة على مواقع وصفحات التواصل الاجتماعيّ إلى النظر لما في الجبهة؛ لتتعرّف على المعسكر المقابل وما فيه من عناصر ومكوّنات قد تساعدها من دون أن يعي مَن في هذه الجبهة المقابلة حقيقة استخداماته لها في مرحلة ما، وفي ظلّ ظروف قد تتذبذب فيها مستويات الوعي وتتخبّط معها القدرة على تشخيص المسؤوليّة، فتصبح أداة طيِّعة قد تخدم معسكر الأعداء، لتمارس من خلالها حرب الإشاعات والأكاذيب والتضليل والتشويه للحقائق، مع ما يرافقها من جرعات العاطفة والمؤثّرات والإيحاءات السمعيّة والبصريّة.

ولكن، في الوقت الذي بات فيه كلّ فرد جزءاً من المعركة الافتراضيّة، ويستخدم الأدوات نفسها التي يحاربنا بها الأعداء، يفرض السؤال نفسه هنا: إلى أيّ حدّ يمكن لتلك الأدوات المتوفّرة بين أيدينا، أن تكون سلاحاً يخدم محورنا في قبالة المحور المعادي؟ فهل فكّرنا يوماً في تبنّي مقولة: "كلّ هاتف جبهة"؟

•في المعسكر الصحيح
لا يخفى على أيّ باحث اليوم، بل أيّ متتبّع وراصد، أنّ الهاتف الجوّال الذكيّ بات حالة إعلاميّة قائمة بذاتها في يد مستخدمه. ومن يحمل الهاتف، بإمكانه أن يختصر الكثير من مراحل الإعداد الإعلاميّ التي كانت تحتاج في السابق إلى الكثير من الوقت والإمكانيّات والتجهيزات؛ إذ يقدّم نفسه وسيلة إعلاميّة، فيتلقّى الخبر ويعمل على ترويجه، مع بعض الإضافات والمؤثّرات؛ ليكون له السبق في المعلومة، أو النبأ، أو التعبير عن الموقف قبل الآخر. ولكن، مع الأسف، وفي كثير من الأحيان، يأتي عمله بأدنى حدود الجودة، متناسياً أنّ ما عمل على ترويجه قد يثير القلق أو الشكوك أو الضعف في صفوف محوره، دون أن يدري.

إذا تسالمنا أنّ "كلّ هاتف جبهة"، بمعزل في أيّ معسكر يؤدّي خدمته، فالأمر قد يكون سيّان بين معسكر محور المقاومة أو معسكر الأعداء؛ إذ يمكن للهاتف نفسه أن يحضر في المعسكرين، تارة حينما يدافع عن محوره، وأخرى حينما ينشر الشائعات والأكاذيب. أفلا يحتاج ذلك إلى إعداد مسبَّق ليضع كلّ منّا نفسه في المعسكر الصحيح؟

•تهديد مجتمع المقاومة
لعلّه تكفي الإشارة إلى وجود تهديدين يطالان مجتمع المقاومة مباشرة، ويجري التسويق لهما بكلّ ما أوتي معسكر الاستكبار العالميّ، بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة، من قوّة، إذ ينبري لحشد طاقاته الافتراضيّة، سواء تلك التي يديرها من الخارج أو الداخل، لأجل:

1- تشويه صورة قيادة المقاومة، واتّهامها الدائم بالقصور في القدرة على حمل مسؤوليّة مجتمعها الذي يحتضنها، ما قد يُسهم في إضعاف مجتمع المقاومة ومنعته إزاء التهديدات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والأمنيّة، وحتّى المجتمعيّة، بهدف خلق حالة من التململ والنفور داخل المجتمع نفسه.

2- تضخيم صورة الجبهة المضادّة، وإبراز قواها الخارقة وتماسكها الصلب مقابل خلق قناعة بصعوبة المواجهة أو التصدّي، وإيهام الجمهور أنّ العواقب المترتّبة على أيّ مواجهة قادمة ستكون مدمِّرة وساحقة، ولن تبقي لمحور المقاومة باقية.

•مسؤوليّات كلّ هاتف
من خلال التتبّع الشبه اليوميّ لنشاط العالم الافتراضيّ، وما يبثّه من أضاليل وفبركات، سيدرك المرء -عاجلاً أم آجلاً- حجم الاستهداف والمؤامرة التي تريد إضعاف مجتمع المقاومة، وسلخه عن قيادته، فضلاً عن الانهزام النفسيّ أمام ما لدى المحور الآخر من إمكانيّات وقدرات.

لذا، فإنّ تبنّي المقولة الآنفة الذكر "كل هاتف جبهة"، يضع كلّاً منّا أمام مسؤوليّة متقدِّمة، يحتاج فيها الفرد إلى مقوّمات مساعدة، تجعله جنديّاً في معسكر القتال، ولكن من خلال هاتفه الذكيّ. والسبيل إلى ذلك يمكن أن يكون من خلال:

1- المعرفة التكنولوجيّة والشرعيّة
إنّ حُسن الاستفادة التكنولوجيّة من مختلف التطبيقات والبرمجيّات المخصّصة لهذه الهواتف تحتاج إلى مواكبة معرفيّة علميّة متمكّنة، قد تكون تخصّصيّة في بعض أوجهها؛ إذ تُفيد معظم الدراسات أنّ 95% من مستخدمي هذه الهواتف لا يعلمون بالخصائص والامتيازات كافّة للتطبيقات الموجودة فيها، ولا يستفيدون منها بالشكل اللازم. هذا فضلاً عن التقصير في إدراك ميدان المعركة الافتراضيّة، أو بتعبير آخر؛ أرض المواجهة، والتي تسيطر عليها الولايات المتّحدة الأمريكيّة بنسبة كبيرة. مع الإشارة أيضاً إلى أنّ الاستفادة هنا يجب أن يرافقها معرفة بالحدود والضوابط الشرعيّة الحاكمة على استخدمات هذه الهواتف؛ والأمر هنا مرهون بالاطّلاع على فقه التواصل الاجتماعيّ(2)، وخاصّة المرتبط بالتعامل مع الموادّ الإعلاميّة كافّة، المنقولة والمتداولة، بشأن مجتمع المقاومة، سواء كانت لصالحه أو عليه.

2- فهم حقيقة الصراع
لا يمكن للمرء اليوم أن يغفل عن وجود معسكرَين، وكلّ منهما لديه مشروعه الذي يوظف لأجله كلّ ما يملك ضمن رؤى استراتيجيّة هادفة، ويتوسّل لأجله كلّ الأدوات المتاحة، والتي من بينها العالم الافتراضيّ على اختلاف تطبيقاته، وبمختلف الوسائل؛ فيحضر الـ(هاشتاغ) والـ(بوست) والـ(تغريدة)، وتشتعل معها حرب التعليقات، وتمتدّ شاراتها من الهواتف الذكيّة إلى وسائل الإعلام الأخرى (المرئيّة والمسموعة والمكتوبة). لذا، كانت مقولة الإمام الخامنئيّ دام ظله بهذا الصدد صدّاحة في الآفاق بقوله: "إنّ هذه الساحة هي ساحة حرب حقيقيّة"(3). وأُولى الاستهدافات هي تلك التي تطال مجتمع المقاومة، لتزعزع ثقة الجمهور بأنفسهم أوّلاً، وبمشروعـهـم الـمقــاوم ثانياً.

3- البصيرة تجاه الأحداث
في ظلّ العالم الافتراضيّ، بدا من السهل إثارة الإشاعات والأكاذيب، وممارسة أبشع أنواع التضليل الإعلاميّ. وهنا، على الفرد أن يدرك حقيقة ما يجري من حوله، وكيف له أن يُعمِل بصيرته في التحقّق والتثبّت من الأحداث ومآلاتها القادمة، لا أن يستسلم أمام كلّ ما يُبثّ أو يُشاع في استهداف مجتمع المقاومة أو تشويه صورته؛ هذا فضلاً عن التحقّق من هويّة الجهة المصدِّرة للخبر أو المعلومة، حتّى ولو كانــت تصل إلى هاتفه عبر أهمّ المواقع الإخباريّة العالميّة، بل "ينبغي تحرّي الدقّة في فهم الظاهرة، وعدم الوقوع في فخّ وفجوة تضخيم الأرقام، والإدراك أنّ بعض هذه الأرقام المتداولة عن الشبكات والمواقع غير دقيقة"(4).

4- الثقة بقرارات القيادة
أمام الكمّ الهائل من الأحداث، وتشابك المواقف، وتعقيد المجريات، كان لا بدّ من الثقة بالقيادة في نفاذ بصيرتها، وقدرتها على تشخيص المصلحة العليا بما تمتلكه من القدرة، والحنكة، والكاريزما، والإمكانيّات التنظيميّة، والرؤية الاستراتيجيّة في كلّ مرحلة، لحفظ مجتمع المقاومة إزاء التهديدات المحدقة. فلا مجال للدسائس والمؤامرات التي باتت تُصاغ بأبهى صورها لتصبح المادة الدسمة في التداول على الهواتف، والتي تجعلنا نتناسى الموقف السليم الذي ستتّخذه القيادة في التعامل مع ما يجري على الساحة.

5- من الذي يتحكّم بالآخر؟
من الأسئلة التي يجب أن يسأل نفسه كلّ من يحمل هاتفاً ذكيّاً: "من الذي يتحكّم بالآخر؟ فهل أنّ الهاتف بتشعّب تطبيقاته، وأهليّتها لتلقّي وترويج الخبر، هي التي تتحكّم بي؟ أو أنا، صاحب العقل والقدرة على التقييم والتحكيم للمادة الإعلاميّة من يتحكّم بها؟". فالملاحظ أنّ مادة الخبر، وأساليب الدعاية والترويج، مع الاستعجال في السبق الإعلاميّ وقلّة الوعي والصبر، جميعها تدفع باتّجاه الإسراع في نشر الأكاذيب وتشويه الحقائق وبثّ الشائعات. والمسألة هنا تحتاج إلى إدارة الذات في التعامل مع الهاتف الذكيّ، فـ"الأهداف الحربيّة الناعمة للمواقع الأمريكيّة والغربيّة واضحة، فهي مرتبطة بأجندة الاستكبار العالميّ، الذي له اليد الطولى في توجيهها وبرمجتها، لكنّه لا يستطيع التحكّم المطلق بالمستخدمين أنفسهم إلا بموافقة طوعيّة إراديّة من قبَلهم"(5).

6- جيش المقاومة الإلكترونيّ
إنّ التصدّي لموجات نشر الشائعات والاتّهامات وتشويه صورة المقاومة على امتداد ساحاتها، يستلزم العمل على تأسيس جيوش إلكترونيّة من الناشطين والمستخدمين لصفحات التواصل الاجتماعيّ، تحضر فيها التشكيلات من رأس الهرم إلى القاعدة، بما يضمن صدّ أيّ محاولة هجوم افتراضيّ. وهنا، لا بدّ من التفكير في تشكيلات أشبه ما تكون حاضرة في الجيوش النظاميّة، من قيادة الأركان إلى ضبّاط المحاور والقادة الميدانيّين، وصولاً إلى كلّ جنديّ في ساحة الميدان ممّن يحمل الهاتف الذكيّ، والحاضر بروحيّة (التعبئة)؛ فسلاحه بيده على الدوام، لتلقّي أوامر القيادة في الهجوم على العدوّ بما يقوّي جبهة المقاومة، ويصدّ أيّ اعتداء افتراضيّ من خلال فضح الأكاذيب وإظهار الحقائق. وهنا، يتعيّن "إنشاء ورعاية مؤسّسات وشبكات اجتماعيّة وإعلاميّة متخصّصة: وذلك من خلال تصميم وتشغيل مواقع، وتطبيقات، وصفحات، وحسابات وظيفتها التواصل مع الجمهور لتزويده بالمحتوى الهادف، وملء وتعبئة الفراغ المعلوماتيّ والإعلاميّ والثقافيّ..."(6).

•تهديد ففرصة
في الخلاصة، ومع الانتشار الواسع للهواتف الذكيّة، والمزوّدة بتطبيقات وبرمجيّات التواصل الاجتماعيّ، ومع قابليّة شرائح كبيرة من المجتمع للحضور بفعاليّة على هذه الشبكات، لا بدّ من التفكير في كيفيّة تحويل التهديد إلى فرصة؛ فإن كان الهاتف الذكيّ قد وُجِد -في بعض أوجهه- لخدمة أجندات تقودها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فعلينا توظيفه بما يخدم معركة التصدّي لتلك الأجندات المغرضة، فيكون عندها "كلّ هاتف جبهة"، ولكن علينا أن نحسن قيادة هذه الجبهة، فهلّا أعددنا أنفسنا لهذا الدور؟

1.تناقلت وكالات الأنباء خبراً مفاده أن وزارة الدفاع الأميركيّة تبحث عن علماء لبحث سبل رصد وصدّ الدعاية التي قد تبرز في مواقع التواصل الاجتماعيّ على ما أعلنت دائرة الأبحاث التكنولوجيّة والأبحاث العسكريّة في الوزارة. راجع: مركز الحرب الناعمة للدراسات: شبكات التواصل الاجتماعيّ.. منصّات للحرب الأميركيّة الناعمة، ط1، بيروت، 2016م، ص 114، نقلاً عن موقع جريدة إيلاف الإلكترونيّة بتاريخ 6/7/2011م.
2.راجع: فقه التواصل الاجتماعيّ، من سلسلة الفقه الموضوعيّ الصادرة عن جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، بيروت، 2014م.
3.راجع: موقع العهد الإخباريّ: الإمام الخامنئيّ دام ظله: العالم الافتراضيّ ساحة حرب حقيقيّة، 14/5/2016م.
4.مركز الحرب الناعمة للدراسات: شبكات التواصل الاجتماعيّ.. منصّات للحرب الأميركيّة الناعمة، (م.س)، ص183.
5.(م.ن)، ص175.
6.(م.ن)، ص172- 173.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع