تحقيق: فاطمة شعيتو حلاوي
يترقّبون أحدث أخباره يوماً بيوم. يدقّقون بعنايةٍ في مواصفاته. يذهبون بعيداً في البحث عن ميزاته في خضمّ العروض الإعلانية البرّاقة، ويسألون عنه "المجرّب والخبير" في آن. كيف لا وهو صاحب "الكاريزما الفتّاكة" التي تستهويهم، وهو غيرُ العاقل الذي يجعلُ هواتَه غير متعقّلين أحياناً كثيرة، فيحملون على عاتقهم أوزار اقتنائه وتغييره، ليبقى هو المحمولَ المدلّل.. إنه الهاتف المحمول أو "الموبايل"، أداةُ الاتصال الحديثة التي اعتلت كرسيّ "النهم" التقني والاستهلاك الترَفي، حتى باتت، عن قصد أو دونه، رفيقَ الجَيْب ومؤنس الوحدة!
*إعجابٌ.. وربما هوَس
في خضمِّ تنافس الشركاتِ المنتجة وعروضها السخيّة، يبقى مستخدِمُ "الموبايل" الهدف الأساس الذي تُصَوّب نحوه أساليب إقناعٍ متنوّعة. وكم هم كثرٌ من يستجيبون لها دون عناءٍ يُذكر. فهل تأتي هذه الاستجابةُ تلبيةً لحاجةٍ فعلية في شراء الهاتف الخلوي أو تبديله، أم أنها مجاراةٌ لموضة العصر وإشباعٌ لرغباتٍ دفينةٍ في التباهي والتفاخرِ والتميّز؟ ومتى يستحيلُ ذلك هوساً يلامسُ حدّ مرضٍ نفسي يستلزمُ العلاج؟
توضح الدكتورة نوال حلّال، الاختصاصيّة في مجال الأمراض النفسيّة والعقليّة، أنّ الأمر قد يبدأ بمجرّد
الدكتورة نوال حلال |
الإعجاب بالهاتف المحمول، لناحية ميزاته وخياراته وحداثته، ليتحوّل هذا الإعجاب إلى رغبة في الاقتناء، وينقلبُ إشباع الرغبة مع جريان الوقت إلى هواية.
بيد أن واقع الحال، قد يخرج عن إطار الهواية ومجاراة الموضة، فيصبح الهاوي مُصاباً بالهوَس ليسلبه كلّ جديد في عالم "الموبايل" قدرته على كبح رغبته في عدم الشراء. وهنا قد تدخل الحالة دائرةً أكثر حساسية، حين يعمد الفرد للاقتراض أو ربما للسرقة، لمجرد اقتناء الهاتف المحمول الذي يشغل تفكيره إلى حدّ الإتيان بتصرّف غير مسؤول، دون مراعاة واقعه المالي المتردّي!
*قروضٌ متواصلة
في هذا الإطار، يستذكر كريم (29 سنة) كم مرّة بدّل هاتفه المحمول خلال العام المنصرم، ويجدُ صعوبة في إحصاء خسائره المالية جرّاء قروضٍ حصل عليها تباعاً لتبديل "موبايله"، كلّما نادته الموضةُ وأصداؤها الملوّنة لفعل ذلك.
ويشير كريم إلى أنه كلّما استحوذ محمولٌ جديدٌ على إعجابه، سارع إلى بيع "الموبايل" الذي بحوزته بخسارةٍ لا يأسف عليها، ويحصلُ على قرضٍ ليتمّم ثمن الآخر، وذلك لأن راتبه محدودٌ جدّاً كما يوضّح.. وهكذا دواليكَ، حتّى يرضى بمحمولٍ يراه "مثالياً". وهو لن يرضى، على الرغم من تراكم الديون المترتبة عليه، بحسب أحد أصدقائه المقرّبين.
إن أساليب الحصولِ على "الموبايل - الهدف" تتنوّع، سليمةً كانت أم ملتوية، شأنها شأن الأسباب التي تكمن خلف تنامي الهوس في شراء وتغيير الهواتف النقّالة. فماذا يقول المعنيّون بعمليات التبادل المالي والعيْني في هذا الصدد؟
*أريد الجديد والمميّز
يشير السيّد محمد، الناشط في تجارة الهواتف المحمولة، إلى أنّ زبائنه، الذين غالباً ما يبدّلون هواتفهم المحمولة خلال فترات زمنية قصيرة، تتراوح أعمارهم تقريباً ما بين 22 و35 عاماً. ويوضح أن هؤلاء الزبائن يتشاركون سمةً باتت مألوفةً بالنسبة إليه، هي عدم الاكتراث للخسارة المالية التي تنتج عادة من فعل تبديل هواتفهم بأخرى أكثر حداثة.
وعن أسباب التغيير، وفق ملاحظته، يوضح السيد محمد أنها متعدّدة، ويتقدّمها "الملل" من الجهاز الخلوي بعد مدّةٍ من اقتنائه، والبحث عن هواتف محمولة ذات خصائص وخيارات جديدة ومميّزة وتتماشى مع الموضة، لا سيّما في ظل موجة التحوّل من الهواتف المحمولة العادية إلى الهواتف الذكية، والتي تتصاعد بشكل ملحوظ.
*"عدوى" تقنية.. وثقة متأرجحة
إذاً، تستحوذ عمليةُ تغيير "الموبايل" وتحديثه على الشريحة العمرية الشابة في مجتمعات اليوم. وللمنتمين إلى هذه الشريحة مبرراتٌ يقدّمونها للدفاع عن وجهات نظرهم وأفعالهم. إذ ترى هبة (26 عاماً) أنّ شباب اليوم يلجأون إلى اقتناء هواتف خلوية حديثة مجاراةً لمتطلّبات عصرهم الذي بات امتلاكُ تقنيات التواصل فيه أمراً ملحّاً، معتبرةً أن الأمرَ لا يخلو أحياناً من إشباع "حبّ الظهور" والفوز في عملية التنافس بين الأصدقاء، لناحية شراء الموبايل الأحدث والأكثر تميّزاً في السوق.
أمّا مهدي (20 عاماً)، فيؤكد أن الأمر يتحوّل غالباً إلى "عدوى" بين الشباب، لمجرّد الحصول على "تقدير وإعجاب" الزملاء، ويعزو ذلك إلى شعورٍ بالنقص داخل الفرد يسعى لإخفائه على هذا النحو، لافتاً إلى أن شباب اليوم ميّالون بطبيعتهم أيضاً إلى مواكبة كل جديدٍ في عالم التقنيات الحديثة، ومن غير المستغرب أن تتحوّل هذه المواكبة إلى هوسٍ في بعض الأحيان. فماذا يقول الاختصاصيون في هذا السياق؟
*أفضل من غيري
توضح الدكتورة حلال أن انعدام الثقة بالنفس يحتلّ مقدّمة أسباب المبالغة في شراء وتغيير "الموبايل"، وهو حالة باطنية المنشأ تدفع صاحبها لإبراز نفسه والبحث عمّا يعزّز وجوده أمام الآخرين، فيكون السبيل أحياناً عبر اقتناء أشياء استثنائية في نظره، وتخاله يتمتم في خبايا نفسه: "أنا متميّز لأنني أملك هذا الشيء".
أمّا تقليد الآخرين، فيشكّل بحسب الدكتورة حلال، عاملاً آخر يبرّر الهوس في شراء وتبديل الهواتف المحمولة، لا سيّما في أوساط المراهقين والشباب، الذين يسعون للتنافس مع أقرانهم في هذا المجال. ويعزّز ذلك توفّر السيولة اللازمة، خاصة إذا ما كان الأهل ميسورين مادياً، والأبناء لا يقدّرون قيمة الأشياء.
وتؤكد الدكتورة حلال أن الخطورة تكمن في تحوّل هذا الهوس إلى نوع من الانحراف السلوكي، لا سيما لدى ذوي الإمكانات المادية الضعيفة، وتعزو هذا "الهوس الانحرافي" إلى فراغ يختصر الحياة لدى هؤلاء بمجرّد اقتناء هاتف محمول، وأيضاً إلى صعوبةٍ لديهم في حسن تقدير الأمور، وأحياناً غياب قدوةٍ فاعلة تؤثر في مسلكهم.
وبحسب ما تشير إليه الدكتورة حلال، فإن منشأ الهوس يرتبط أحياناً بأساس التربية، وتحديداً حين يلجأ الأهل إلى تلبية رغبات الأبناء بالمال، فينقلبُ حسنُ النيّة والتعبير عن المحبّة لدى الوالدين إلى مشاكل تقوّض سلوك الأولاد، خاصّة إذا ما شبّ هؤلاء في كنف أسرةٍ تهتم بالاستهلاك التفاخري وتكرّس فعل التبديل والتغيير.
*هوَس موسمي
في هذا المعرض، تتحدّث السيدة سناء (45 عاماً) بكلّ ثقةٍ عمّا يشبه "العُرف" في عائلتها. إذ لا يمكن أن يطلّ العام الجديد برأسه الميلادي دون تحديث الهواتف المحمولة لدى كبار العائلة، بل "من المعيب" عدم فعل ذلك!
السيدة سناء، وهي من أسرةٍ ميسورة الحال، تشير إلى مفارقة غريبة اعتادت عليها منذ سنوات. فهي تمتلك هاتفين محمولين، الأوّل بمواصفات عادية تستخدمه في إجراء مكالماتها الخاصة، والآخر بمواصفاتٍ حديثة واستثنائية تستخدمه لتلقي الاتصالات. وحالة السيدة سناء تبدو أكثر طرافةً وأقل تعقيداً من حالاتٍ مَرضية تتجاوز الهَوس الموسمي والتقني إلى الهوسِ المُستدام الذي يؤرّق ضمناً صاحبه المُخدّر بحلاوة التغيير ومتعة الشراء. ولعلّه من البديهي هنا السؤال عن العلاج، إذا ما كان تدخّل المعالج النفسي ضرورةً لا يمكن التغاضي عنها، لا سيّما أنّ فعل الشراء والتغيير قد لا يقتصر فقط على "الموبايل"، بل يتعداه إلى أشياء أخرى، كأثاث المنزل والسيارة وغير ذلك من المقتنيات.
في هذا المعرض، توضح الدكتورة حلّال أن الخطوة الأولى في العلاج تكمن دائماً في البحث عن أسباب الهوَس.
أما الخطوة الثانية، فهي إيجاد حلّ ملائم مرتبط بطبيعة هذه الأسباب ومكوّناتها. فإن كان السبب مثلاً ضعف الثقة بالنفس، يسعى الطبيب المعالج إلى تعزيز هذه الثقة. وإن كان انعدام القدوة، يتركّز تدخّل المعالج على مساعدة صاحب المشكلة في إيجاد قدوةٍ ملائمة تُعينه في إعادة قولبة علاقته بمحيطه، وتقويم الخلل الذي يعتريها.
*استشارة.. عبر الموبايل
غالباً ما تأسر أنظار الناس واهتماماتهم الصورة المثالية اللمّاعة التي يرسمها المروّج لسلعته. فتراهم ينبهرون ببريق قشورها، حتى تزوغ أبصارهم عن مكنونات جوفها. وتجرفهم الموضة ببهارجها دون أن يسألوا أحياناً كثيرة عن هويّة المحطّة الأخيرة التي يرسو عندها ركبُ هذه الموضة. فإن كان عنوان هذه المحطة "هواية"، فلا ضير من المكوث عندها على قدرِ الإعجاب والانبهار، ليس إلّا. أمّا إن كان عنوانها "هوساً"، فلا بأسَ من استخدام "الموبايل" للحصول على استشارةِ مجرّب أو موعدٍ عند الطبيب!