نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

ظاهرة البلطجة والاستقواء

الشيخ أحمد إسماعيل


لا يوجد نظام حياة يدعو إلى الالتزام بالنظام العامّ ومنظومة القيم كما في ديننا الحنيف. وبقدر ما نحافظ على النظام، بقدر ما تكون حياتنا كريمة؛ فالانضباط يساعد على تنظيم حياة الأفراد وعلى تقدّم المجتمعات، والدين هو الذخيرة الحضاريّة لكلّ النظم، وهو رافدها وملهمها. ومن هذا المنطلق، يجب الحفاظ على المنظومة التي تحمي وتحفظ حقوق الناس، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من عظّمَ دينَ اللهِ، عظّمَ حقّ إخوانه، ومن استخفّ بدينه، استخفّ بإخوانه"(1). وبهذا الحديث ندخل إلى عمق المأساة المعاصرة.

برامج تسوّق للبلطجة
بتنا اليوم نواجه ظاهرة متعدّدة الأوجه والأشكال، وقد تعرّضت مجتمعاتنا للكثير من التحدّيات والضغوطات التي هي أشبه بالاجتياح؛ إذ اختلفت القيم وتبدّلت المبادئ، وباتت القنوات التلفزيونيّة تسوّق للبلطجة وللقتَلة والمجرمين، وتعدّدت العناوين التي تسوّق للجرائم والخيانة، حتّى اعتاد شباب اليوم على جعل أبطال تلك المسلسلات كأيقونة يفتخرون بها، بل ويتماهون معها، فحين يَقتل على سبيل المثال بطل أحد المسلسلات العشرات، ويصفّق له المشاهد ولبطولاته الوهميّة، فيخرج من ساحة المعركة ببزّته الأنيقة ترافقه موسيقى الانتصار، فهذا تطبيع للقتل في حدّ ذاته. ثمّ يتماهى مع ذلك المسلسل مسلسل آخر يحتوي تمرّداً على القانون وجعل منطقة أو بلدة معيّنة تحت ما يشبه الحكم الذاتيّ، فهذا المسلسل سيلقي بظلاله السلبيّة على شباب اليوم المخدوعين تارًة برياضيّ محترف يتاجر بالمخدّرات، وأخرى بقاتل أو متمرّد ومتفلّت من القيم. فالمهمّ عند هؤلاء هو جمع المال واستقطاب المزيد من الرجال، ليكونوا بخدمة مشاريعهم غير المشروعة. وبذلك نكون أمام مصيبة حقيقيّة، خصوصاً حين يكون الانتماء إلى الجاهليّة العشائريّة لا بمعنى العشيرة التي تنضح بالقيم وتنتمي إلى البيوتات الصالحة. وهنا، لا يمكن لنا أن نتصوّر حجم المصيبة التي تنخر المجتمع وضخامتها، ليسود بعدها القتل والنزاعات لأسباب تافهة.

أسباب الظاهرة
أمّا لماذا يلجؤون إلى فرض القوّة على الآخرين؟ فالأسباب كثيرة وهي تتنوّع بين أسباب نفسيّة، واجتماعيّة، وتظلّلها الأسباب الأخلاقيّة. وسنبدأ بذكر الأسباب الدينيّة، التي لو كانت مُعالَجةً لضَعُف تأثير الأسباب النفسيّة والاجتماعيّة:

1- الأسباب الأخلاقيّة الدينيّة:
أ- قلّة الخوف من اللّه وتناسي الآخرة: وكأنْ لا حساب ولا عقاب، قال تعالى: ﴿وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 175)؛ فحين يضعُف الإيمان فإنّ شعور الخوف من اللّه يتضاءل، للأسف، خاصّة في المجتمعات المتفاخرة التي تظنّ أنّها كأنّما خُلقت للدنيا، وتنسى الآخرة.
ب-انعدام الضمير الأخلاقيّ: غياب القدوة الأخلاقيّة، وقلّة منسوب التعامل مع الآخرين بأخلاق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام.

2- الأسباب النفسيّة:
أ- الاعتداد بالقدرة وكثرة المال والعشيرة: من جملة مفردات هذا السبب أنّ بعض القبائل حين يتباهون بأنفسهم وعدد جموعهم، يعدّون جمعهم بعدد أسلحتهم وبنادقهم. وهنا يرى فارغ القيمة نفسه رقماً كبيراً؛ لأنّ ضعفه قد سُتر بالنفوذ الماليّ، أو العشائريّ، أو قرابة ما من صاحب منصب. ويمكن للعامل الاجتماعيّ تعزيز هذا العامل النفسيّ ليصبح سلوكاً شائعاً وطبيعيّاً.
ب- الاعتداد بالنفس الأمّارة بالسوء: والانقياد إلى تسويلاتها، التي تزيّن للإنسان أنّه كبير وعظيم والكلّ منقاد له، خاصّة مع جهود ووسوسات إبليس الخبيث، فيزيد العُجب ليحسب الإنسان نفسه فوق أيّ قانون أو مبدأ أو نظام.
ج- قلّة الوعي والإدراك: هي بدورها تُغيّر العديد من المفاهيم، فيصبح الجهل هو الحاكم وإن ألبس صاحبُه جهلَه ثوب المعرفة.

3- أسباب اجتماعيّة:
أ- انعدام الرقابة وغياب القانون: حين يجتمع هذا العامل مع عامل انتشار روح الأنانيّة وعدم قبول الآخر؛ فسنكون أمام كارثة حقيقيّة بكلّ ما تعني هذه الكلمة.. والأخطر في الأمر حين يسود في المجتمع منطق: إنّ الجميع كذلك، ولست الوحيد الذي يفعل ذلك.
ب- انعدام الأمن بشكل عامّ: عندما يشعر الفرد أن لا نظام يحميه، ولا قانون يردع المخالف والمخلّ بالأمن، فهذا ما يجعله يُبرّر لنفسه أن يضع نظام حماية خاصّاً به، بدل أن يحارب هذه الظاهرة، فيساهم في تفشّيها وانتشارها، ويصبح بهذه الفكرة ممّن يساهم في صنع فراعنة القوّة والبلطجة في المجتمع.
ج- تغذية النزاعات الفرديّة: قد يوسم مجتمع ما بأنّه يغذّي الروح القبليّة والعشائريّة، والقوّة هي منطق الحكم وتحصيل الحقوق؛ لتصبح قانوناً لكلّ جاهل، وهو منطق يعود بالمجتمع إلى عباءة أبي سفيان وأبي جهل، بدل الحنين إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقيمه.

4- دور الأعداء:
ليست جميع الأسباب بريئة عفويّة، بل جزء منها مقصود نتيجة أيادٍ خبيثة تستفيد من وجود عصابات القوّة، والثوّار المقنّعين، ليكونوا جاهزين لتخريب الوضع الأمنيّ في أيّ لحظة. ويتمحور دور هذه العصابات في إشاعة التفلّت الأمنيّ، والقوة العشوائيّة، وشعور الناس بغياب الأمن، وهي أدوار يُدفع لها الأموال لتسود المجتمع المُخطّط له؛ لضرب تماسكه وقيمه وإيمانه بالعدالة.

والأسباب كثيرة. وعلى أيّ حال حين ينخفض منسوب العلاقة مع الله، ستواجهنا مشاكل عديدة، منها: زيادة الجريمة واستسهال القتل.

والحلّ؟!
لا يمكن بسطور قليلة أن تعالج مشكلة غذّتها كلّ أساليب الجاهليّة والحيل الشيطانيّة، لكن إليكم هذه النقاط بما يسع المقام:

1- القصاص والمحاسبة: إنّ الدّين يُشكّل أكبر وازع، لكن عندما لا يُخشى اللّه ولا يُحسب حساب للآخرة، يأتي دور القانون والقصاص، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 179)؛ فقصاص المفسدين في الأرض هو حياة حقيقيّة في المنطق القرآنيّ، وهو يحفظ الناس ويحميهم من الأشرار والمعتدين، وأمّا التراخي معهم فهو قمّة الاستسلام وتسليم البلدان إلى البلطجة، وبالتالي، إلى الفوضى التي تُدمّر القيم والفضيلة.

2- تحمّل المعنيّين المسؤوليّة: المطلوب حيال مشكلة كهذه أن يتحمّل الجميع مسؤوليّاتهم، فعن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته"(2)؛ فكلّ فرد منّا مسؤول ولا يجوز لنا أن نتنصّل من مسؤوليّاتنا، والدولة مسؤولة، وليس في "الغُنم دون الغُرم"، فإن لم نتحمّل مسؤوليّاتنا، سينتظرنا المزيد من المآسي والجرائم والفوضى، ونصبح كما قال الشاعر: "قومي رؤوس كلّهم"(3).

3- الدين والنموذج القويّ الصحيح: لا يقبل الدّين أن يغيب النظام ليحلّ مكانه منطق فرض العضلات والقيم المستمدّة من أساطير أفلام هوليوود، التي غزت شبابنا بقوّة، في الوقت الذي جسّد فيه المقاومون أروع صور البذل والاستبسال، وقدّموا الصورة النقيّة والأمثل في المُثل والقيم. ومع كلّ ما رأى بلطجيّو الأزقّة والأحياء من مشاهد بطوليّة لرجال اللّه في ساحات الوغى، فيتركون هؤلاء الرجال ويقتدون بمسوخ صوّرها الغرب على أنّها الأنموذج، وما هي إلّا نماذج هزيلة، وهي أشبه بقطّة أرادت أن تكون بحجم البقرة، فشربت الماء وأكثرت من تناولها حتّى ماتت وهي تحلم بأن تكون بذلك الحجم.

4- ترسيخ قيم العدالة في المجتمع: المطلوب أن نقوم بخطّة ممنهجة من أجل بناء جيل على القيم السامية لا البالية، تلفظ منطق القوّة المتفلّتة، وتزرع قيم العدالة والكفاءة وخدمة الناس والتزام النظم.

5- تعاون العشائر والقبائل لحفظ القيم: يُمكن أن نكرّس في مجتمعاتنا من كلّ عائلة أو عشيرة مَن يُنتدب عنها وتكون كلمته النافذة في وسطه لوضع حدّ للمخلّين بأمن الناس.

6- ترسيخ القدوة العمليّة: إنّ تشويه القدوة بصورة البطل الهوليوديّ، تأتي فاعليّتها نتيجة غياب القدوة النموذجيّة الصالحة؛ لذلك ينبغي ترسيخ الأخيرة في الأجيال.

فوق كلّ كبير أكبر..
نسأل اللّه أن يتحمّل الجميع مسؤوليّاتهم، فالمجتمع هو العامل الرادع لصاحب العضلات الذي لعلّه لن يقرأ هذه الأسطر، حيث جعل نفسَه مرتعاً للشيطان على طريقة: "يا أرض اشتدّي وما حدا قدّي".

لكن ثمّة محكمة العدل الإلهيّة، حيث يكون يوم الظالم أشدّ من يوم المظلوم، فعن الأمير عليه السلام: "يوم العدل على الظالم أشدُّ من يومِ الجور على المظلوم"(4)، وحينها لا ينفع الندم حتّى لو عضّ الظالم والمفسد يديه، بل لو أكل كلّ أصابعه ندامة وحسرة.


1-بحار الأنوار، المجلسي، ج74، ص287.
2-إرشاد القلوب، الديلميّ، ج1، ص184.
3-للشاعر العراقيّ علي الشرقيّ.
4-نهج البلاغة، الحكمة 337.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع