نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

القوّة في الإسلام: الضوابط والآفات

الشيخ محمّد حسن زراقط


مفهوم القوّة من المفاهيم التي أخذت حيّزاً من النقاش عند عدد من المفكّرين، وما زالت تستحقّ المزيد من التأمل والتدبّر في جوانبها؛ لحلّ التباساتها وتحديد الموقف منها. فقد مجّدها بعض الفلاسفة إلى حدّ جعْلها معياراً للتمييز الأخلاقيّ، فما كان مستنداً إلى القوّة كان حسناً، وما كان منطلقاً من الضعف كان قبيحاً. وقد أعاد هذا المفكّر عدداً من الفضائل الأخلاقيّة، كالتواضع والعفو والتسامح... إلى أخلاق الضعف، وأدان من يدعو إلى هذه الفضائل. وثمّة من يرى أنّ الوجود كلّه مبنيٌّ على الصراع بين الأقوياء والضعفاء، وستكون الغلبة في نهاية المطاف للأقوياء، أو للضعفاء إذا اتحدّوا وخلعوا عن أنفسهم جلباب الضعف، وارتدوا رداء القوّة. بينما نجد أنّ منظومة الأخلاق الإسلامية تتضمّن مثل هذه الأخلاق، فتأمر بالعفو وتحثّ على التسامح، وتدعو إلى التواضع وتدين التكبّر، إلى غير ذلك من الفضائل الأخلاقيّة التي يرى هذا المفكّر أنّ جذورها تمتدّ إلى تربة الضعف والذلّ.

ما نحاول توضيحه في هذه المقالة الموجزة، هو بيان أشكال القوّة الممدوحة في الإسلام، لننتقل بعد ذلك إلى القيود الأخلاقيّة التي قيّد اللّه بها القوّة؛ كي لا تشذّ بصاحبها عن الصراط الذي رسمه لها.

نماذج من القوّة الممدوحة
وصف اللّه نفسه في القرآن الكريم في عدد من الآيات بالقوّة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الأنفال: 52)، وجمع سبحانه بين صفتي القوّة والعزّة في آيات أخرى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ (هود: 66)، ودعا إلى التحلّي بالقوّة أمام الأعداء كما في قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: 60)، وأقرّ عدّ القوّة من الصفات الحسنة عند اختيار العامل أو زوج المستقبل: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ (القصص: 26)، ووازن بين القوّة والضعف ليلفت إلى الأفضل منهما بحسب الوجدان الإنسانيّ: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النحل: 76)، وغيرها من الآيات.

أشكال القوّة في الإسلام
لا تقتصر القوّة التي يدعو الإسلام إلى الاتّصاف والتحلّي بها على نمط محدّد، بل هي مركّب من عناصر عدّة تتآلف وتتضافر لتشكّل معاً الوصفة الإسلاميّة المطلوبة للقوّة. فالقوّة في الإسلام هي:

1- قوّة الحجّة: أحد أبرز أشكال القوّة التي يقرّها الإسلام في مواجهة الآخر المختلف، هي قوّة الحجّة والدليل. وفي هذا المجال وردت آيات كثيرة تدعو إلى مقارعة الحجّة بالحجّة والدليل بالدليل، تحت شعار: ﴿هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 111). وفي القرآن شواهد على استقواء الأنبياءR بحجّتهم في مواجهة المعاندين، ومن ذلك المحاجة التي دارت بين النبيّ إبراهيم عليه السلام ونمرود، حيث أدلى النبيّ عليه السلام بدلوه فكانت النتيجة أن: ﴿بُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ (البقرة:  258).

2- القوة الماديّة: القوّة الماديّة عنوانٌ واسع يشمل الكثير من الأمور، ومنها القوّة الجسديّة، كما ورد ذلك في قضيّة تولية طالوت المُلْكَ بناءً على ما أوتي من قوّة بدنيّة تسمح له بأن يكون ملكاً على بني إسرائيل: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ (البقرة: 247). واللافت في هذه الآية أنّ بني إسرائيل كانوا يرون السَعة في المال هي عنصر القوّة الأساس الذي يسمح لصاحبه أن يكون ملكاً، فيصوّب لهم النبيّ الرؤية ويوجّه بوصلة أفكارهم إلى العنصر الأهمّ من المال والقوّة البدنيّة؛ القوّة المستمدّة من العلم.

وفي سياق القوّة الماديّة، تقع دعوة اللّه سبحانه المسلمين إلى الاستعداد لمواجهة أعداء اللّه والاقتدار بما أعدّوا للدفاع عن أنفسهم: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (الأنفال: 60). وعلى الرغم من اهتمام الإسلام والقرآن تحديداً بالقوّة الماديّة، إلا أنّه يلفت نظر المسلمين إلى بعض تجاربهم التي لم تغنِ فيها كثرة العدد شيئاً، ولم تحل دون هزيمتهم: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً﴾ (التوبة: 25).

3- قوّة الالتزام بالدين: من المفاهيم اللافتة في القرآن الكريم تكرّر الأمر بأخذ الكتاب أو التعاليم الدينيّة "بقوّة"، قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ (مريم: 12). وأمر بني إسرائيل بالشيء نفسه: ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ﴾ (البقرة: 63). ومن الواضح أنّ المراد هنا بـ"القوّة" هو الالتزام والثبات وعدم الاستخفاف بالتعاليم الدينيّة، أو التخلّي عنها عند أول اختبار يتعرّض له الإنسان، وخصوصاً عند اختباره بما يحبّ أو يكره. روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه مرّ على قوم يتحدّون بعضهم بحمل حجر، فقال لهم: "أشدُّكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثمٍ ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحقّ"(1).

آفات القوّة
لفت القرآن إلى أنّ القوّة قد تتحوّل إلى خطرٍ على صاحبها أوّلاً، وعلى الآخرين ثانياً، سواء كانت قوّة في المال أو العدد أو العدّة، وضرب لنا في القرآن أمثلة على حالات الاستقواء هذه، كقوم عاد: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ (فصلت: 15)، وكالرجل الذي استكبر بما آتاه اللّه من مال وعديد: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ (الكهف: 34). فيما يقدّم القرآن الرمز الأبرز لاعتداد الإنسان بقوّته الماليّة؛ قارون الذي كانت ثرواته سبباً لطغيانه وتكبّره(2). كما يمكن أن تتحوّل القوّة إلى دافع من دوافع تكذيب الأنبياء والوقوف في مواجهتهم، كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الروم: 9). والآية تشير إلى أنّ القوّة كانت سبباً من أسباب ظلمهم أنفسهم بتكذيبهم الأنبياء ومعاندتهم.

قيود القوّة في الإسلام
لتجاوز هذه الآفات، يطرح القرآن مجموعة من الملاحظات أو القيود، التي تحول دون خروج القوّة عن مدارها، وجنوح صاحبها عن الصراط السويّ. وأهمّ هذه القيود أو الملاحظات هي:

1- اللّه هو مصدر القوّة: في مواجهة الاغترار بالقوّة، يلفت القرآن الكريم إلى أمرين يحدّان من استبداد القوّة بصاحبها: الأوّل أنّ فوق كلّ ذي قوّة قويّ هو اللّه تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ (فصلت: 15)، والثاني، أنّ القوّة لها مصدر، هو اللّه عزّ وجلّ، وهو القادر على سلبها ساعة يشاء. وقد تحوّل هذا المفهوم إلى شعار يتكرّر على ألسنة المسلمين، وهو قولهم في مناسبات كثيرة: "لا حول ولا قوّة إلّا بالله"؛ تنبيهاً للإنسان كي لا يغترّ بما عنده من قوّة، عندما يلتفت إلى أنّ ما عنده له مصدرٌ آخر هو اللّه تعالى.

2- الصفات المقارنة: بالعودة إلى القرآن الكريم، نجد أنّ القوّة مقيّدة بقيدين اثنين؛ أحدهما في مورد اللّه تعالى وهو قيد العزّة، ففي آيات عدّة وصف اللّه تعالى نفسه بالقويّ، وأضاف إليها صفة العزّة؛ وذلك أنّ القويّ قد تستذلّه في بعض الأحيان قوّته، فيخرج من عزّ العدل إلى ذلّ الظلم. وعملاً بقاعدة لزوم التخلّق بأخلاق اللّه تعالى، يصلح هذا القيد ليكون قيداً للقوّة البشريّة أيضاً، وقد عمل به الهداة الميامين في سيرهم بين الناس. فعندما دخل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مكّة فاتحاً، رفع شعار "يوم المرحمة" في مقابل من رفع شعار "يوم الملحمة"(3). والصفة الثانية التي وردت مقارنةً للقوّة هي صفة الأمانة، فلم ترَ بنت النبيّ شعيب عليه السلام أنّ القوّة صفة كافية لاختيار العامل عندما اقترحت على أبيها استئجار النبيّ موسى عليه السلام للعمل عنده، بل ضمّت إلى ذلك صفة أخرى هي صفة الأمانة(4).


﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾
يبقى أنّ التهمة التي توجّه إلى الإسلام أنّه استخدم القوّة للدعوة إلى نفسه، فيردّ عليها بأمور، وهي:

1- إذا كان المراد هو استخدام القوّة بمعناها العامّ والشامل، فهذا لا ضير فيه، فكلّ الأفكار والمذاهب والأديان تستفيد من شكلٍ من أشكال القوّة، وخصوصاً المعنويّة منها، كقوّة الحجّة لتثبيت وجودها في نفوس الناس. وهذا نلاحظه في الإسلام كغيره من الأديان، حيث جعل قوّة الحجّة هي السلاح الأمضى، وهو سلاح تشحذه عودة الإنسان إلى نفسه، كما ورد في موارد عدّة(5). وهذا لا ضير فيه ولا مشكلة أخلاقيّة تعتريه.

2- إذا كان المراد استعمال القوّة لرفع الموانع التي تحول دون بلوغ الدعوة مداها، فهذا أيضاً لا مانع منه في مواجهة أمثال فرعون الذي كان لا يسمح لقومه إلّا أن يروا ما يرى.

3- أمّا إذا كان المراد هو استخدام الإسلام القوّة لإلزام الناس بالإيمان، فهذا يردّه أمران؛ أحدهما: أنّ الإسلام وضع قاعدة ما زال صداها يتردّد في أسماع البشريّة كلّها، وهي قاعدة: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)، والأمر الثاني: هو أنّ اللّه تعالى اختار لنبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب عقول الناس ونفوسهم، وتجنّب اللجوء إلى القوّة الماديّة التي لا تصل إلى حدّ القهر والإلجاء، على الرغم من مطالبة المخاطبين في ذلك الزمان بمثل ذلك؛ كطلبهم أن يكون له جنّة أو يلقى إليه كنزٌ، أو يكون معه ملك(6)، واختار للرسالة نبيّاً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق على حدّ تعبيرهم(7).

فكيف لمثل هذا الدين أن يقبل بإجبار الناس على الاعتقاد به والإيمان بتعاليمه؟!


1-من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج4، ص407، حديث 5882.
2-انظر (القصص: 76).
3-للمزيد انظر: فتح الباري، ابن حجر، ج8، ص7.
4-انظر (القصص: 26).
5-كما ورد على لسان أمير المؤمنين عليه السلام، انظر: الكافي، الكليني، ج8، ص182؛ وعلى لسان الإمام الحسين عليه السلام، انظر: الإرشاد، المفيد، ج2، ص97.
6-انظر (الفرقان: 7-8).
7-انظر (الفرقان: 7).

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع