آية الله جوادي آملي *
لقد أنسانا الحزن على فراق الإمام جميع المصائب، "لقد خصَّصت حتى صرْتَ مسلياً عمّن سواك"، وأجلس الجميع في عزاء ومأتم "وعمَّمْتَ حتى صار الناسُ فيكَ سواء"، فحريّ بنا أن يُعزّي بعضنا بعضاً، ويشكر بعضنا البعض.
في بحثنا هذا سنتناول قبساً من فكر الإمام، فقد شدّ إليه قلوب الملايين من المسلمين بقلبه وفكره، والتحول الذي أحدثه الإمام في روح الأمة الإسلامية نابع من التحوّل الكبير الذي أوجده في النظام الاجتماعي للإسلام، وهو تحول قائم على عنصر جذري وثورة فكرية. ونحن في هذا البحث نحاول الخوض في هذا العنصر الجذري الذي يعتبره الحجر الأساس في حركته وفي نهجه.
* العنصر الجذري في كيان الثورات
أقام إمام الأمة ثورته على قاعدة فكرية متينة، ذلك أن الثورة لا يمكن أن تقوم دون قاعدة فكرية،
﴿قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل﴾، وإذا كانت الآية تتحدث عن أهل الكتاب، فإن مضمونها يؤدي قانوناً عاماً. فالأمة الإسلامية إذا أرادت أن تعمل بالقرآن، لا بد أن تكون قائمة لله ليكون لها القدرة على الإقامة. والإنسان القائم لله يحتاج إلى قاعدة صلبة يستقر عليها، فإذا لم يكن مستقراً "على شيء" فليس هو بقائم، وإذا لم يكن قائماً لله لا يكون له القدرة على الإقامة.
وإذا كان الأئمة المعصومون عليهم السلام قد أقاموا القرآن وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة فلأنهم كانوا "على شيء"، لأنهم ارتكزوا على قاعدة فكرية صلبة لا تتزلزل. وإذا أراد شخص القيام بثورة فكرية ودينية، فلن يتسنى له ذلك ما لم يكن لديه قاعدة فكرية عميقة يرتكز عليها هو وأتباعه.
فما هي القاعدة الفكرية الحصينة التي انطلق منها إمام الأمة أوقر أصحابه معه؟
انطلق في حركته من الحوزة، لأن قاعدته الفكرية نشأت من الفقه. فقد درس مواد الفقه الأولية، وصنفها، وخلص منها إلى نتيجة كانت هي العنصر الجذري في حركته. ولا شك أن النتيجة التي توصل إليها الإمام كانت قد مرّت بمراحل عدة في تاريخ فقه علماء الإسلام السالفين وفكرهم، إلا أنها تبلورت وتكاملت على يد الإمام.
المرحلة الأولى: قوّم الإمام في البداية الجهود المضنية التي بذلها العلماء المتقدمون، ثم بنى حركته الفكرية على أساسها.
لقد كانت علاقة الفقيه بالناس على امتداد زمن طويل لا تتجاوز علاقة المحدث بالمستمع. فقد كان جمود الإخباريين ومنعهم الاجتهاد سبباً في حصر نشاط الفقيه بنقل الحديث والترجمة وبيان المعنى الصوري للحديث، حتى جاء الأصوليون المقتدرون - وخصوصاً الأستاذ الأبر المرحوم الوحيد البهبهاني رضوان الله عليه - فقضوا على هذا التحجر الفكري وبعثوا الروح في الاجتهاد، ومنذ ذلك الحين تحولت علاقة الفقيه بالناس إلى علاقة مرجع التقليد بالمقلدين، إذ ينتظر الناس الاستنباط الفكري للمراجع، ويقوم المرجع بعرض اجتهاده عليهم، ويكون حكمه نافذاً إلى حدِّ ما، وفتواه ملزمة.
المرحلة الثانية: استمر الأمر على هذا الحال أمداً طويلاً، حتى أخذت تطرح ولاية الفقيه بالتدريج في الكتب، ولكن ليس إلى الحد الذي تظهر بصورة واضحة، أو تتفتح في المكان الذي دفنت فيه لتجد موقعها الأساسي.
فولاية الفقيه أخرجت من علم الكلام لتدفن في الفقه، ومن ثم لم تجد النمو الكافي الذي يجعلها (أصلها ثابت وفرعها في السماء) لأنها لم تجد مكانها الحقيقي، بل بقيت في إطارها الفقهي.
المرحلة الثالثة: أخرج الإمام بحث ولاية الفقيه المظلوم م دائرة الفقه إلى موقعه الأصلي في علم الكلام، ثم أخد يتوسع به بالبراهين العقلية والكلامية، وقرنه بالبحوث الفقهية، فظهرت النتائج تترى.
* ولاية الفقيه بحث كلامي، لا فقهي
قبل أن نبيّن أن ولاية الفقيه مبحث كلامي، وليس مبحثاً فقهياً، يجدر بنا أن نلقي نظرة على آراء الإمامية وأهل السنة بهذا الشأن.
لماذا تعتبر الفرقة الإمامية من الأصول وهي عند السنة من الفروع؟ ولماذا نبحثها نحن في علم الكلام، ويبحثها أهل السنة في الفقه؟
نحن نقول أن الإمامة استمرار النبوة، والنبوة شأن إلهي لا دخل للإنسان فيه. وإذا كان الأمر شأناً إلهياً، فالبحث فيه يكون اعتقادياً وكلامياً. فكما يجب من الله (وليس على اله) أن يرسل رسولاً كذلك يجب منه (وليس عليه) أن يعين خليفة معصوماً للنبي.
ونقول أيضاً: ما دام الإنسان مخلوقاً من قبل الله، والله هو ربه، فلا بد أن يكون الله هو من يضع القوانين. من هنا فالإمامة شأن من شؤون الله، والعلم الذي نبحث في شؤون الله هو علم الكلام، ولمّا كانت الإمامة من شؤون الله، وليس من شؤون البشر، كان البحث فيها يتعلق بعلم الكلام.
أما الذين عيّنوا الإمام في السقيفة، واعتمدوا رأي الناس فيه، ورأوا أن الإمام انتخاب وليس تنصيباً، فقد نقلوا الإمامة من شأن إلهي إلى شأن بشري. والعلم الذي يبحث في شؤون البشر هو علم الفقه. وألفه علم شريف يتعلق بفعل المكلَّف، فكل مسألة يكون موضوعها فعل المكلف فهي مسألة فقهية، سواء كان دليلها عقلياً أو نقلياً.
فلو قيل إن العدل واجب على المكلف، فهذا القول هو مسألة فقهية، حتى لو كان الدليل فيه عقلياً. والقول إن الصلاة واجبة على المكلف، هو مسألة فقهية، حتى لو كان الدليل فيها نقلياً.
يرى بعض علماء السنة أن الإمام واجب عقلي، ويرى غيرهم أنه واجب نقلي. فالمعتزلة يقولون يجب على الناس عقلاً أن يعينوا إمامهم، ويقول الأشاعرة: يجب على الناس نقلاً أن يعينوا إمامهم. وعلماء السنة يعتبرون الإمامة مسألة فقهية وجزءاً من فروع الدين.
وإذا كنا نرى بعضاً من بحوث الإمامة قد وردت ضمن المسائل الاعتقادية، وبعضها الآخر قد ورد في الفقه، فنجد الإمامة مع بحوث الصلاة والصوم والزكاة والحج ومع النبوة أيضاً، فإنما ذلك لأن أحد جانبيها شأن من شؤون الله - يجب من الله - وجانبها الآخر شأن من شؤون الناس، إذ يجب على الناس أن يقبلوا ولاية الإمام.
وحين نرى الولاية إلى جانب الصلاة فهي متصلة بشأن الإنسان، وحين نراها إلى جانب النبوة فهي متصلة بالشأن الإلهي. وفي الأصول أيضاً نجد الإمامة إلى جانب النبوة، وإلى جانب الفروع في الوقت ذاته. وحين يقال إن الإمامة تختلف عن سائر ما عداها، فلأنها محدودة بالأصل شرقاً وبالفرع غرباً، بينما نجد الصلاة أو الصوم محدوداً من جميع جهاته بالفقه والفرع، وهذا هو الأمر البارز الذي يميز الإمامة في رأي الإمامية عنها في رأي أهل السنة.
* الصلة بين ولاية الفقيه والإمامة
ولاية الفقيه هي استمرار لإمامة المعصوم، وكل ما هو موجود من أدلة عقلية بشأن النبوة العامة والإمامة العامة، موجود أيضاً، في زمن الغيبة، بشأن ولاية الفقيه. وهذا أمر يدخل في علم الكلام. وحين تبحث الولاية في علم الكلام، فإن هذا العلم يلقي بظله على الفقه، فتصبح النظرة إلى عموم الفقه منطلقة من علم الكلام.
وما نراه في كثير من كتابات الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه وأحاديثه من تأكيد على أن النظرة الشمولية للدين تبين عدم فصل الدين عن السياسة، ناتج في الحقيقة من رؤيته الكلامية للفقه، فهو يدرس الفقه من خلال هذا المستوى الرفيع.
إن معرفة الفقه مسألة كلامية، وليست مسلة فقهية. فنحن لا نرى في الفقه مسألة تبين الغرض منه... فمعرفة الفقه، والبحث بالشؤون الإلهية، ودراسة القانون الإلهي هي أمور يختص بها علم الكلام، وليس للفقه صلة بها.
لقد أنجر إمام الأمة عدة أمور، هي أولاً: جعل ولاية الفقيه استمراراً للإمامة، ثانياً: وضع الإمامة والولاية في موضعهما الحقيقي في علم الكلام، ثالثاً: أسهم في تفتح شجرة الإمامة، رابعاً: جعلهما يلقيان بظلهما على جميع أبواب الفقه.
فلنر الآن ما خلص إليه في بحثه، لا سيما وأن الآخرين يقولون إن ولاية الفقيه قائمة، ولكن شروطها جميعاً هي شروط حصولية وليست تحصيلية.
* الشروط الحصولية والتحصيلية لولاية الفقيه
من يرى الولاية كالإمامة، يقول إن شروط أعمال الولاية على قسمين: قسم حصولي وقسم تحصيلي وهو الأهم، تحصيل هذه الشروط لتكون العلاقة بين المرجع والأمة كعلاقة الإمام بها.
وقد حدث هذا الأمر على يد إمام الأمة. بمعنى أنه إذا كان الوحيد البهبهاني قد أخرج علاقة الفقيه بالناس من علاقة المستمع بالمحدث إلى المقلِّد بمرجع التقليد، فإن الإمام قد أحدث ثورة في الفقه والثقافة، وجعل علاقة الفقيه بالناس كعلاقة الإمام المعصوم بها، وليس كعلاقة المرجع بالمقلدين أو المفتي بالمستفتي وحسب.
ولكي يصبح هذا الأمر عملياً، قال: أولاً، أنا ولي أمر المسلمين، وثانياً، جلس ولي أمر المسلمين مجلس الإمام الأصيل، وثالثاً الإمام الأصيل هو الثقل الأصغر، ورابعاً، الثقل الأصغر هو فداء للثقل الأكبر.
وقال: حينما يكون الثقل الأكبر في خطر، تتوجب الثورة مهما كانت النتيجة، بمعنى: أنني خليفة الثقل الأصغر ومعنى الأصغر هو أن يضحي لنفسه حين يكون الأكبر في خطر، ليبقى الأخير حياً.
وقام الإمام بجمع هذه الشروط الحصولية إلى الشروط التحصيلية، وجهد في ذلك حتى أدرك الناس أنهم أمة وأنه إمامهم.
ولا يمكن أن يتأتى هذا الأمر إلا بالنفي والتشريد وليس بتدريس الصرف والنحو، وإلا بالسجن والتعذيب وسماع التهم والافتراءات وتحمل المصائب.
إن هذه البنية الفقهية لم تكن لتستقر لولا اليد الكفوءة للقائد المعظم. إنها أخذت تثمر منذ (15 خرداد). إنكم ترون كيف أخذ الأدب يؤتي ثماره اليوم. ولكن لو عدنا إلى الوراء لرأيتم كيف كان أمير البيان علي بن أبي طالب عليه السلام يجمع هذه المواد الأولية، ويؤلف بينها في بنية أدبية، ثم يقول للناس هذا هو نهجكم الفكري فاتبعوه.
يقول ابن سينا: بيني وبين أرسطو ألف وثلاثمائة عام، لم يقع في يدي منها كتاب مقنع، فكل من أتى كان يكتفي بنصح الناس وحسب، فيقول لهم: طريق الفكر صعب، فكونوا على حذر، وفكروا بدقة، كمثل الذي يعظ الناس في صحراء مليئة بالشوك أن يتقوا الشوك في مسيرهم، دون أن يضع الحل بين أيديهم.
ويضيف ابن سينا: جاء أرسطو ووضع الأسس التي يعتمدها من يرد حياض الفكر، فدله على القضية الصغرى والقضية الكبرى، فحين تكون (أ) مساوية ل (ب)، و(ب) مساوية ل (ج) فمعنى هذا أن (أ) مساوية ل (ج)، هذا أساس فسِر عليه لتصل إلى غايتك. ثم يقول ابن سينا: إني لأنظر لأرسطو بعين الاحترام؛ لأنه أوضح الطريق، ولم يكتف بالنصيحة.
وإذ ننظر إلى الأمام نظرة إجلال وإكبار، فلأنه طبق الأحكام، ولم يكتف بطرحها، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر سهل، بينما تحويل علاقة الفقيه بالناس إلى علاقة إمام بأمة، أمر في غاية العسر؛ لأنه يتطلب تضحية الأرواح كي يفهم الناس أنهم أمة ووليهم الإمام. ثم إن الإمام والأمة ثقل أصغر، يجب أن يضحي في سبيل الثقل الأكبر، وهذا ما حدث. فما صدر من فتاوى ومن أحكام، وما برز من مقاومة إنما ارتكز على هذه القاعدة الفكرية.
من هنا ﴿يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل﴾، ولكن حين تكونوا
﴿على شيء﴾ فإنكم قد وجدتم قاعدتكم الفقهية والفكرية، ومن ثم أخذتم بسبيل السموّ والارتقاء.
ينقل الشيخ المفيد قدس سره عن الإمام علي عليه السلام، أنه قال بما مضمون: كنّا في سفر، فرأيت رسول الله ينظر إلى الشمس ليعرف وقت الظهر،ثم قال لي: يا علي من اهتم بمواقيت الصلاة ضمنت له الروح عند الموت، ثم قال: يا علي كنّا مرة رعاة الإبل، وصرنا اليوم رعاة الشمس"، أي إنا انتقلنا من أرض الجاهلية إلى سماء الحضارة. وكنّا أرضيين فأصبحنا سماويين، كنا نهتم بالإبل فصرنا نهتم بالشمس. وليس المراد من ذلك ظاهر الشمس وحسب، فلو قرأنا ﴿والشمس وضحاها﴾ لرأينا حديثاً عن النبوة والإمامة، فالآمر لا يقتصر على شمس الظاهر فقط، بل يتعداها إلى شمس السيرة أيضاً.
كنّا بالأمس مرغمين أن نسمي الشخصيات المزيفة (أصحاباً) واليوم نسميهم شياطيناً، أي كنّا ف يعهد الظلم الشاهنشاهي (رعاة الإبل)، وصرنا ببركة ولي أمر المسلمين (رعاة الشمس) وانتقلنا إلى السماء، ونعلم أن الانتقال إلى السماء هو شأن من يرتدي جلباب العروج.
وحين حضرت الوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دفع لعلي براحلته وسيفه ولوازم صلاته، ثم قال له (ما مضمونه): "يا علي" هذا قميصي الذي خرجت فيه إلى السماء، أدفعه إليك لتعرج به، يا علي (خذا ما آتاك الله بقوة). فأنت من أهل العروج، وأنت من أهل الأرض، ومن أهل السماء، ومن أهل العرش، وأنت في أهل الأرض منهم، وفي أهل العرش منهم. وما أعطيك إياه قد رافقني في سفري الغيبي، فـ (خذ ما آتاك الله بقوة)، فما بين يديك الآن هو القميص الذي عرج به ولي المسلمين، وقد آل إليك مقام القيادة وهو مقام "العروج".
وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن ﴿خذوا ما آتيناكم بقوة﴾: أبقوة القلوب هي أم بقوة الأبدان؟ فأجابهم: "بقوة القلوب بأن تفكروا وتفهموا وتؤمنوا، وبقوة الأبدان بأن تعدوا ما استطعتم من قوة".
وينقل عن رسول الله أنه قال: "اسمعوا وأطيعوا لمن ولاّه الله الأمر فإنه نظام الإسلام". أطيعوا من يتولى أمور المسلمين ويدير نظامهم بالأصالة أو النيابة؛ لأن الأمور لا تنتظم إلا باتباع نظام القيادة المقدس، وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن إذا أردتم الانتقال من رعي الإبل إلى رعي الشمس، فاهتموا بالنظام.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أواخر حياته يصف شخصيته بأنها ذات بعدين: بعد حقيقي، وبعد حقوقي، فأما البعد الحقيقي فهو مشمول بالآية الكريمة:
﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾، وأما البعد الحقوقي فهو الذي لا يفنى على مرّ الزمن.
وفي "نهج البلاغة" كلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنه يموت من مات منّا وليس بميت، ويبلى من بَلي منّا وليس ببالٍ".
إن كثيراً من شارحي "نهج البلاغة" حين يعجزون عن درك عمق الكلام العلوي، يلجأون إلى حمله على المجاز.
يقول ابن أبي الحديد في خطبة أمير المؤمنين المشهورة التي صدرها بآية ﴿ألهاكم التكاثر﴾ والتي يقول فيها: "أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً"، يقول: "قرأت هذه الخطبة أكثر من ألف مرة خلال خمسين سنة، وكملا قرأتها أحدثت فيّ رهبة وروعاً، وأرباب الأدب يعلمون أن لو قُرئت هذه الخطبة في بعض محافل العلم والأدب لاستحقت أن يُسجد لها".
وقد ذكرت قول ابن الحديد هذا للعلامة الطباطبائي قدس سره في مجس خاص، وقلت له إنه يقول: كما في القرآن سور العزائم، كذلك في "نهج البلاغة" خطب العزائم، وهو قول في غاية الرفعة.
فقال الأستاذ: لم يأتِ قول ابن أبي الحديد هذا جزافاً، لأن كلام الله في عزائمه تجّلى في كلام علي، فالسجود (الذي قصده ابن أبي الحديد، هو في الحقيقة سجود) لكلام الله الذي تجلى على لسان الناطق بالوحي.
وليس من الصواب أن نقف من معارف القرآن والصحيفة السجادية ونهج البلاغة عند حدود فكر ما، أو أن نحملها على المجاز، أو نفسرها بالحدّ المضاف، فلو ارتقينا في هذه المعارف لرأيناها قابلة للفهم دون مجاز، سواء إن مجازاً في الإسناد، أو مجازاً في الكلمة.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بعد وفاته: بأبي أنت وأمي، والفداء يكون عادة في زمن الحياة وليس بعد الموت، ومن هنا حمل البعض هذه العبارة على المجاز غافلين أن هذه الكلمة لا تتعلق بشخص النبي، بل بشخصيته "إنه يموت من مات منّا وليس بميت، ويبلى من بلي منّا وليس ببالٍ"، فأمير المؤمنين إنما يفتدي بأبيه وأمه هدف الرسول السامي وشخصيته الرفيعة ووحيه ورسالته وقرآنه، حتى لو كان الرسول ميتاً يغسَّل.
وفي عصرنا هذا نقول أن هدف الإمام سيبقى حتى ظهور صاحب الثورة الأصيل بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف. إن خط الإمام سيبقى حياً وماثلاً أمام الجميع، وعلى العارفين بمنزلة الإمام والمعتقدين بخطه أن يحرسوا الأساس الذي انطلقت منه حركة الإمام.
لم يحدث أن اعتزل علي عليه السلام في بيته قبل إمامته إلى أن قيل: "منّا أمير ومنكم أمير" حيث جعلت الإمامة من شؤون البشر. فقد أنزلت الإمامة من العرض إلى الأرض، ومن التنصيب إلى الانتخاب، ومن النص إلى السقيفة، وحينها دُفع عليّ إلى التزام داره، ومن أراد إخراج الفقه من ساحته سجن الفقه أولاً، فالولاية تنكر قبل الولي.
وإذا كان إمام الأمة يصر على اتباع فقه الجواهر، فلأن صاحب الجواهر يقول: "من أنكر ولاية الفقيه فكأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً".
ثم هو يورد مسألة كلامية في برهانه على ولاية الفقيه في الجزء الحادي والعشرين، فيقول: "يحتاج المجتمع إلى النظام، والنظام شيء إلهي، فلا بد أن يعين الله شخصاً لهذا النظام".
وفي هذا الكلام تظهر صبغة المباحث الكلامية، ولكن على لسان أحد الفقهاء.
وهكذا نجد أن الإمام قام في حركته الفكرية بعدة أمور:
أولاً: أرسى دعائم القاعدة الكلامية.
ثانياً: وضع أساس الفقه على هذه القاعدة.
ثالثاً: قسَّم الشروط إلى حصولية وتحصيلية.
رابعاً: حوّل علاقة المرجع بالناس إلى علاقة الإمام بالأمة.
خامساً: جعل إمامة الفقيه استمراراً لإمامة الإمام المعصوم.
سادساً: طرح الإمامة باعتبارها الثقل الأصغر، وجعل الثقل الأصغر فداء لثقل الأكبر.
وبعد حادثة الفيضية، قال: يجب أن يستمر هذا الأمر ولو بلغ ما بلغ: لأنه كان ﴿على شيء﴾، كان مرتكزاً على أساس متين من الفقه والفكر، واستمر على قوله هذا حتى آخر حياته، آخذاً بالناس من رعي الإبل إلى رعي الشمس. بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله.
قلما سمعنا أن أحد ذرية الرسول بمثل هذه العظمة، ولقد سمعتم حي زار شيخ الفقهاء والمجتهدين1 دامت بركاته إمام الأمة، وقال له: السلام عليك يا بن رسول الله. فرد عليه: أنت بقية السلف الصالح... إنهما يعدوان إلى أصل واحد.
* الإمام الوارث الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أوصى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في آخر حياته بالثقلين، فقال: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي"، وأوصى أمير المؤمنين في أواخر حياته بالثقلين أيضاً: "أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين".
ومن خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت وصيته كوصية الرسول، وكانت وصية إمام الأمة الذي هو خليفة الإمام المعصوم الوصية بعينها، فكل ما ورد في وصيته قدس سره كان شرحاً لمقدمة وردت في البداية، شرح لحديث الثقلين، حديث حول القرآن والولاية.
وإذا كان الإمام قد دعا الناس للحضور في الساحة، فلأن القرآن والعترة دعيا الناس إلى ذلك. وإذا كان قد دعا إلى الوحدة، فلأن القرآن والعترة قد دعيا إليها. وإذا كان قد حثَّ الناس على حفظ النظام، فهو إنما يبين حديث القرآن والعترة. وإذا كان قد تحدث في الناس على حفظ النظام، فهو إنما يبيّن حديث القرآن والعترة. وإذا كان قد تحدث في وصيته عن اللاشرقية واللاغربية، وعن الدفاع عن المستضعفين، وحول الفقر والغنى ومئات الأمور الأخرى فهو في الحقيقة إنما يشرح المتن، فالمقدمة بمثابة المتن والبقية شرح له.
وأما ما قاله في ختام وصيته: "بفؤاد وادع وقلب مطمئن ونفس مبتهجة... أودعكم لأرحل إلى مقري الأبدي"، فقد تعلمه من رسول الله وأمير المؤمنين عليه السلام.
فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أجله: فقال: "دنا الأجل، والمنقلب إلى الله".
والانقلاب له معنى يختلف عن معنى الرجوع، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل:
﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾، بل قال: والمنقلب إلى الله، أي سافر إلى الله... إلى سدرة المنتهى، وإلى العرض الأعلى والكائن الأوفى...
كان الرسول يحن إلى حياة الآخرة الهنيئة، وكان يطيل الأنين، فسئل: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك ما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبداً شكوراً"؟ فالإنسان جدير بالبكاء، إذ لا سلاح له إلا بالبكاء، ولكن حين الوعد الحق، يقول: اذهب إلى العرش، وهذه هي كلمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وحين آل الأمر إلى أمير المؤمنين، ودنا أجله رأى ابنته أم كلثوم تبكي، فقال: ما يبكي؟ قالت: أرى السم قد أثر فيك، قال لها: لو رأيت ما أرى ما بكيت.
وهنا يتضح لنا ما دفع الإمام إلى قوله هذا، إلا وهو إيمانه الكامل برسالته وخطه، واطمئنانه إلى الوعد الإلهي، إذ كان سمع بكل كيانه هذه الحقيقة
﴿يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي﴾.
لقد سلك درس الرسول الأكرم وأمير المؤمنين والأئمة المعصومين عليهم أفضل الصلاة والتسليم، ومع حلول ذكرى رحيله لا نملك إلا أن نقول ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام وهو يغسل جسد الرسول الطاهر: "بأبي أنت وأمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك. خصصت حتى صرت مسلياً عمّن سواك وعمَّمت حتى صار الناس فيك سواء".
1- هو آية الله العظمى الآراكي (حفظه الله).
* ولد آية الله جوادي آملي في عام 1933، وأنهى المرحلة الابتدائية ثم دخل الحوزة العلمية في آمل، فدرس خمس سنوات فيها، وفي عام 1950 انتقل إلى طهران فدرس في مدرسة مروي، وتتلمذ على أساتذة كبار، مثل: آية الله الشعراني، وآية الله قمشه أي، وآية الله محمد تقي آملي. ثم انتقل عام 1955 إلى الحوزة العلمية في قم فدرس على الآيات العظام: البروجردي، والإمام الخميني، والمحقق الداماد، والعلامة الطباطبائي. صدر له عدة مؤلفات أهمها: تقريرات الحج والصلاة والصوم والاعتكاف لآية الله الداماد، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم (6 مجلدات)، الهداية في القرآن، علي بن موسى الرضا والفلسفة الإلهية، المبدأ والمعاد، الحكمة النظرية والعلمية في نهج البلاغة، ولاية الفقيه، دروس في شرح الأسفار وغيرها. وهو يُعد الآن من أساتذة العلوم المعقولة والمنقولة المعروفين في الحوزة العلمية بقم.