مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

يُعلِّمُهُم وَيُزَكِّيهِم

الشيخ عباس رشيد


إنَّ موضوع القدوة من المواضيع المهمة جدّاً في حياة البشرية، فالقدوة الحسنة -سواء أكانت مجتمعاً أم فرداً- عنصر مهم في كلِّ مجتمع، فهي محرِّك ودافع للإنسان للارتقاء بالذات نحو الكمال، فمهما كان أفراد المجتمع صالحين، فهم في أمَسِّ الحاجة للاقتداء بالنماذج الحيَّة.
وقد أكد القرآن الكريم على أهمية القدوة، وذكر في كثير من آياته نماذج تاريخية ارتقت في مدارج الكمال حتى صارت أهلاً للاقتداء بها.


وأهم قدوة للإنسانية هم الأنبياء الكرام عليهم السلام، وإن اختيار رسولٍ لله من بين البشر، إنما لأجل أن يكون قدوة عملية للأمم. فقد قال سبحانه وتعالى بعد أن ذكَر ثمانية عشر نبيّاً: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90).
ويقول سبحانه في خصوص نبيّنا الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21).
وقد تعرّضت القدوات الحسنة -من أعداء الإنسانية- على مرّ التاريخ إلى الإساءة وحملات التشويه.
ولكن نور الأنبياء وخاتمهم النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم ولن ينطفىء. ونحن ذاكرون شيئاً من قبس نوره الذي أضاء ظلمات عصره ولا يزال يضيء عصرنا وإن تجاهله المتجاهلون والمتعصّبون وقصّر منّا المقصّرون.

* سلوكه الشخصي
أ ـ زهده صلى الله عليه وآله وسلم
لقد كان خبز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبز الشعير في أكثر أحيانه، وما أكل خبز طحين منخول حتى قبض، بل ما شبع من خبز الشعير قطّ. فعن العيص بن قاسم قال: "قلت للصادق جعفر بن محمد عليه السلام: حديث يروى عن أبيك‏ عليه السلام أنه قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز برّ قط، أهو صحيح؟ فقال: لا، ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز برّ قط، ولا شبع من خبز شعير قطّ"(1).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ذُكر اللحم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما ذقته منذ كذا"(2).
وأما لباسه: فيكفينا أن نعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كما تقول إحدى زوجاته "ما اتخذ من شي‏ء زوجين، لا قميصين ولا رداءين ولا إزارين، ولا من النعال، وكثيراً ما كان يلبس المرقّع من الثياب"(3).
وأمّا مسكنه: فيروي أمير المؤمنين عليه السلام فيقول: "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة وكانت مرفقته من أدم حشوها ليف.. وكان كثيراً ما يتوسّد وسادة له من أدم حشوها ليف، ويجلس عليها، وكانت له قطيفة فدكية يلبسها يتخشع بها، وكانت له قطيفة مصرية قصيرة الخمل، وكان له بساط من شعر يجلس عليه"(4).
وأما مدخراته: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدخر شيئاً من المال ولا من الأشياء.
قال أنس بن مالك:"كان رسول الله لا يدخر شيئاً لغد"(5).
ويكفي أن نعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما توفي ما ترك إلاّ سلاحه وبغلته ودرعاً مرهونة(6).

ب ـ منطقه صلى الله عليه وآله وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس منطقاً، وإذا أردنا أن نبحث عن مكونات حلاوة منطقه صلى الله عليه وآله وسلم وحسنه لحصلنا من ذلك على العناصر التالية:
1 ـ تنزّه لفظه: إنّ كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد ما يكون عن الفحش والبذاءة. فقد روي أنه قيل له: "يا رسول الله أُدعُ على المشركين! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إني لم أُبعث لعّاناً وإنما بعثت رحمة"(7).
وعن أنس بن مالك قال: "خدمت النبي تسع سنين فما قال لشي‏ء صنعت أسأتَ، ولا بئس ما صنعْتَ"(8).
2 ـ تبسمه أثناء التكلم: قال أبو الدرداء: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حدّث بحديث تبسّم في حديثه"(9).
3 ـ تكليمه الناس على قدر عقولهم: فكانت أساليب عرضه للأفكار وإجاباته عن الأسئلة تختلف من شخص لآخر طبقاً للقابليات الذهنية التي يتمتع بها الأفراد، وإلى هذا أشار رسول صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "إنَّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم"(10).

* سلوكه الاجتماعي
أ- نماذج من آداب معاشرته للناس
امتاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخُلُق إنساني رفيع وسلوك اجتماعي مميّز ما جعله يمتلك عقول الناس وقلوبهم ويكسب محبتهم ويجذبهم إلى طريق الله.
وكان يخاطب قومه ويقول: "يا بني عبد المطلب إنكم لن تَسَعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البِشْر"(11).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم أبعد الناس عن التّعالي على مجتمعه أو تمييز نفسه عن أفراده، فقد كان يعيش مع الناس كواحد منهم لا يختلف عنهم في شي‏ء، ويكره أن يتميّز عنهم، ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيأتي الغريب ولا يدري أيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يسأل عنه. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتفقد أحوال الناس، ويطلع على أوضاعهم، بل لقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه: فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده.
ومن مصاديق معاملته بالحسنى: ما رواه يونس الشيباني قال: "قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟ قلت: قليل. قال عليه السلام: فلا تفعلوا، فإن المداعبة من حسن الخلق، وإنك لتدخل بها السرور على أخيك، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يداعب الرجل يريد أن يسره"(12).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالةً لقلوبهم، ويكني أيضاً النساء اللاتي لهن أولاد، واللاتي لم يلدن، ويكني الصبيان فيستلين به قلوبهم.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يأتيه أحد حرّ أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته.
وعن علي عليه السلام: "ما فاوضه أحدٌ قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف، وما نازعه الحديث أحد حتى يكون هو الذي يسكت"(13). وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط له ثوبه، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته. وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يكلم أحداً بشي‏ء يكرهه، حتى لقد ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد لوم أحد أو عتابه، يعاتبه بكل حياء وخجل. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه، فإن أبى قال: تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد(14).

ب- تواضعه صلى الله عليه وآله وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدر ما يحث على التزام فضيلة التواضع في التعامل والعلاقات الاجتماعية، فإنه من ناحية عملية، كان النموذج المثالي الرائع في التواضع وبساطة العيش.
فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئاً منذ أن بعثه الله عز وجل حتى قبض، وكان يأكل أكلة العبد ويجلس جلسة العبد، قلت: ولم ذاك؟ قال: تواضعاً لله عز وجل"(15).
ومن تواضعه أنه كان يبدأ بالسلام على الناس، وينصرف إلى محدثه بكله: الصغير والكبير والمرأة والرجل. وكان آخر من يسحب يده إذا صافح،... وكان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته بنفسه، ولم يستكبر عن المساهمة في أي عمل يقوم به أصحابه وجنده، فقد ساهم في بناء المسجد في المدينة وعمل في حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وشارك أصحابه في جمع الحطب في إحدى سفراته، وعندما قال له أصحابه نحن نقوم بذلك عنك قال صلى الله عليه وآله وسلم: "قد علمت أنكم تكفوني ولكن أكره أن أتميز عنكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً عن أصحابه"(16).

ج- مدرسة الحلم والعفو
من أبرز ما اتصفت به الأخلاق النبوية الحلم عن أخطاء الآخرين والعفو عن سيئاتهم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرف الغضب إلا حين تُنتهك للحق حرمته.
قال أنس بن مالك: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنين، فما سبَّني سبَّة قط، ولا ضربني ضربة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني عليه أحد من أهله، قال: دعوه، فلو قُدِّر شي‏ء كان"(17).
وعن أنس أيضاً قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فأخذ بردائه فجبذه (جذبه) جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أثرت به حاشية الرّداء من شدة جبذته. ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضحك وأمر له بعطاء"(18).
ومن عظيم عفوه ما تجلى يوم فتح مكة، فالبرغم من القسوة والوحشية اللتين عومل بهما جسد عمه حمزة بن عبد المطلب في معركة أُحُد، لم يلجأ إلى الانتقام من وحشي قاتل حمزة، ولا من هند زوجة أبي سفيان. ووقف منهم موقفاً رحيماً بالرغم من كل العذاب والآلام، وأنواع الأذى الذي صبّته قريش عليه وعلى المسلمين قبل الهجرة وبعدها.
وعندما قال أحد أصحابه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا، بل اليوم يوم المرحمة" (19).


1.الأمالي، الصدوق، ص 398.
2.بحار الأنوار، المجلسي، ج18، ص30.
3.إمتاع الأسماع، المقريزي، ج2، ص289.
4.مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص38.
5.الغدير، الأميني، ج8، ص375.
6.بحار الأنوار، م.س، ج16، ص239.
7.الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، ج4، ص342.
8.البداية والنهاية، ابن كثير، ج6، ص26.
9.بحار الأنوار، م.س، ج16، ص298.
10.الكافي، الكليني، ج1، ص23.
11.م.ن، ج2، ص103.
12.م.ن، ص663.
13.سنن النبي، م.س، ص128.
14.م.ن، ص122.
15.الكافي، م.س، ج6، ص270.
16.إمتاع الأسماع، م.س، ج2، ص188.
17.م.ن، ج2، ص236.
18.ميزان الحكمة، الريشهري، ج4، ص3225.
19.الأنوار العلوية، جعفر النقدي، ص201.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع