مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مسيرةٌ في بناء حكومة أهل البـيــت عليهم السلام(*)

السيد القائد علي الخامنئي دام ظله

 



ليس صحيحاً ما يقال عن الإمام السجّاد عليه السلام بأنه تفرّغ للعبادة، ونأى بنفسه عن التدخل في السّياسة وهموم الناس. ومن الظلم أن يقوم بعض المؤرخين بتلقيب الإمام بألقاب كـ (الإمام المريض، أو العليل) رغم أن مرضه في كربلاء لم يدم أكثر من عدة أيام! وبتدقيق النظر قد ينطوي هذا الظرف على مصلحة إلهية، تتمثل بعدم تكليف الإمام السجاد عليه السلام بالجهاد؛ ليقوم بعد ذلك بحمل أعباء الإمامة والقيادة التي استمرت بعد عاشوراء ما يقارب حوالي 34 أو 35 سنة، إذ تجلّت كمرحلة مختلفة للإمامة، وظروفها، ومفهومها لدى الناس، وحتى دورها، وكانت حافلة بالصعوبات والمشاق الجسام.  تتضح سيرة كل إنسان بالمعنى الواقعي للكلمة، عندما نعرف التوجه العام له في حياته، بعدها نقوم بملاحظة الحوادث الجزئية التي حصلت معه. فإذا عُرف التوجه العام، فإن الحوادث الجزئية تُفهم بالمعنى المناسب.

* متابعة إنجاز الهدف
كان الإمام السجّاد عليه السلام ما بين استلامه للإمامة في عاشوراء 61 هـ، واستشهاده مسموماً سنة 95 هـ، يتابع إنجاز هدف إقامة حكومة أهل البيت عليهم السلام. لذلك، من خلال هذا التوجه العام، ينبغي أن نفسّر جزئيات مراحل عمل ما قام به الإمام، والتحركات، والأساليب التي اتبعها، والتوفيقات التي حصلت معه، وكل الكلمات التي بيَّنها، والأدعية والمناجاة التي جاءت بصورة الصحيفة السجادية. كذلك المواقف التي اتخذها طوال مدة الإمامة ومنها:

1 - موقفه من عبيد الله بن زياد ويزيد الذي تميز بالبطولة والشجاعة والفداء.
2 - موقفه الذي تميز بالهدوء، من مسرف بن عقبة، هذا الذي قام بتدمير المدينة، واستباح أموالها بأمر من يزيد، في السنة الثالثة من حكمه.
3 - حركة الإمام مقابل عبد الملك بن مروان أقوى خلفاء بني أمية وأمكرهم، حيث تميز موقفه بالشدّة حيناً، والاعتدال حيناً آخر.
4 - موقف الإمام من وعّاظ السلاطين، وأعوان الظلمة... وكذا كل مواقفه عليه السلام.

ولذلك يجد المطّلع على سيرته المباركة، أنّ هذا الإنسان العظيم قد قضى كل حياته في سبيل تحقيق الهدف المقدس، وهو إقامة حكومة الله على الأرض، وتحقيق الإسلام، وقد استفاد من أنضج الوسائل وأفضلها. إن انتقال الإمامة إلى الإمام الباقر عليه السلام ومعها مهمة إقامة حكومة الله على الأرض، تظهر بصورة واضحة في الروايات. ففي رواية نجد أن الإمام السجاد عليه السلام جمع أبناءه مشيراً إلى الإمام الباقر عليه السلام، وقال: احمل هذا الصندوق، وخذ هذا السلاح، وهذه الأمانة بيدك(1). فالسلاح يرمز إلى القيادة الثورية، والكتاب يرمز إلى الفكر والعقيدة الإسلامية، وقد أودعهما الإمام السجاد عليه السلام الإمامَ الذي سيأتي بعده.

* التنظيمات السرية
إنَّ المقصود من "التّنظيمات السريّة" روابط العقيدة التي كانت تصل الناس بعضهم ببعض، وتحملهم على التّضحية والأعمال السريّة.  مثلاً: عندما جيء بأسرى كربلاء إلى الكوفة، في إحدى الليالي سقط حجر في السجن الذي كانوا فيه. وإذا بالحجر ورقة كتب عليها: لقد أرسل حاكم الكوفة رجلاً إلى يزيد في الشام، حتى يعلم ماذا يفعل بكم، فإذا سمعتم غداً ليلاً صوت تكبير، فاعلموا أنكم ستقتلون هاهنا، وإذا لم تسمعوا فاعلموا أن الوضع سيتحسن.  عندما نسمع مثل هذه القصة، ندرك جيداً وجود شخص من أعضاء هذه التنظيمات داخل الجهاز الحاكم لابن زياد، وهو مطَّلع على ما يجري. ويمكنه أن يصل إلى السجن، ويوصل صوته إليه. خلال هذه المرحلة، وقبل وقوع الحوادث الأخرى كان الشيعة يقومون بمحاولة إعادة الانسجام السابق والاستعداد.  وينقل الطبري: "فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد لها"(2). وهو يقصد الموالين المطالبين بالثأر لدماء الحسين بن علي عليه السلام، الذين ازداد عددهم يوماً بعد يوم، حتى مات يزيد بن معاوية.

* مواقف الإمام عليه السلام في مراحل القمع
لو قام الإمام السجاد عليه السلام في تلك الظروف بتحركات علنيّة وواضحة، لكان ما بقي لأتباعه من باقية، ولما بقيت الأرضية، أو فسح المجال لاستمرار ونمو مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ونظام الولاية والإمامة فيما بعد. لهذا نجد أنّ الإمام السجاد عليه السلام في قضيّة المختار لم يعلن التعاون معه، بل كما ورد في بعض الروايات أنّه عليه السلام كان يذمُّ المختار(3)، فالإمام عليه السلام لم يُظهر أي نوع من الارتباط العلني معه.  وجاء في إحدى الروايات، أنّه عندما دخل مسلم بن عقبة إلى المدينة في واقعة الحرة، لم يشكّ أحد على الإطلاق في أنّ أول شخص سيقع ضحيّة نقمته هو علي بن الحسين عليه السلام، لكن الإمام بتدبيره الحكيم، استطاع دفع هذا البلاء عنه، وحافظ على استمرار المحور الأصلي للتّشيع.  في تلك الفترة ساد حكم عبد الملك - الذي شمل أكثر مراحل الإمام لمدة تجازوت الثلاثين سنة - وكان نظامه يقوم بالإشراف التام والمراقبة الدائمة لحياة الإمام السجاد عليه السلام، ويستخدم الجواسيس والعيون الكثيرة التي كانت تنقل إليه أدقّ التفاصيل، حتى المسائل الداخلية والخاصة، عن الإمام.

* على طريق الحكومة الإسلامية
بدون شكّ، كان الهدف النّهائي للإمام السجاد عليه السلام إيجاد الحكومة الإسلامية، التي يحتاج قيامها إلى عدة أمور:

1- تدوين وتدريس ونشر المدرسة الإسلامية الحقيقية التي يحمل علَمَها الأئمة عليهم السلام. وهذا من أعظم الأدوار التي مارسها الإمام السجاد عليه السلام وهي أنّه دوّن الفكر الأصيل للإسلام: كالتّوحيد، والنّبوة، وحقيقة المقام المعنوي للإنسان، وارتباطه بالله، وأهمّ دور كان للصّحيفة السّجادية هو في هذا المجال.
2 - تعريف النّاس على حقّانية أولئك الذين ينبغي أن يتسلموا زمام الحكم، في ظل هذا الجو الذي ظهرت فيه الأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وآله، والتي تخالف حركة أهل البيت عليهم السلام.
3 - كان على الإمام عليه السلام أن يؤسّس بعض الأجهزة والتشكيلات التي تشكّل منطلقاً أصلياً للتحركات السّياسية المستقبلية، في وجه هذا الظلم، والاضطهاد السّائد وقتها.

* دور الإمام السجّاد عليه السلام
لم يكن باستطاعة الإمام السّجاد عليه السلام أن يقوم وحده، أو مع جماعة قليلة وغير منظمة, بالثورة والمواجهة. لهذا كان همّ الإمام السجاد عليه السلام أن يبدأ بتشكيل هذه التنظيمات التي كانت، برأينا، موجودة منذ أيام أمير المؤمنين عليه السلام، غير أنّها ضعفت وتلاشت إثر واقعة عاشوراء، والحرّة، وواقعة المختار.  إلى جانب هذه الأعمال توجد تحرّكات أخرى قام بها الإمام عليه السلام وأتباعه، لأجل اختراق ذلك الجوّ المرعب والقمعي؛ ففي ظل الإجراءات الأمنيّة المشدّدة التي كان يفرضها الحكم نلاحظ مواقف عديدة للإمام أو أتباعه، خاصة مع الأجهزة الحاكمة، أو التابعة لها، مثل المواقف التي حدثت بين الإمام عليه السلام وعبد الملك عدة مرات، أو الأمور التي جرت مع العلماء المنحرفين، والتابعين لعبد الملك (مثل محمد بن شهاب الزهري)، كل ذلك لأجل خرق ذلك الجو المتشدد.  

إن الإمام السجاد عليه السلام لم يكن يرى أنه سيتم تحقيق الحكومة الإسلامية في زمانه؛ لأنّ الأرضية لم تكن معدة لذلك، فقد كان الظلم والقمع والجهل أكبر من أن يزول خلال هذه السنوات الثلاثين. لقد كان الإمام السجاد عليه السلام يعمل للمستقبل وللمدى البعيد.


(*) مقتبس من كتاب (الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت عليهم السلام) للسيد القائد علي الخامنئي دام ظله.
1.يراجع: الكافي، الكليني، ج 1، ص 305.
2.تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، ج 4، ص 431.
3.سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج 4، ص 397.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع