الشيخ يوسف سرور
تعتري علاقات المؤمنين فيما بينهم في كثير من الأحيان حالات من الجفاء والبعد. وقد يتطور هذا الأمر ليتحوّل إلى تباغض وكراهية . ومع تراكم العوامل أو دخول بعض الخلافات النوعية قد تنقلب العلاقة بينهم إلى عداوة واحتراب في أحيان أخرى. كيف ينظر الإسلام الحنيف إلى هذه الحالة المَرَضيّة؟ كيف ينبّه إلى خطورة ذلك على نفس المكلّف في الدنيا وفي الآخرة وعلى الحالة الاجتماعية للمؤمنين؟ ما هي أهم أسباب العداء الذي ينشأ بين المؤمنين؟ وهل لحقيقة الإيمان دخالة في طروء مثل هذا الداء الفتّاك بينهم؟!
* العداوة وحقيقة الإيمان
لقد كثرت الأحاديث المؤكّدة على أنّ المؤمنين متحابّون في الله، متناصحون، متراصّون، متناصرون، يقضي بعضهم حاجات بعضهم الآخر، متواصلون، متراحمون، يصْدُق أحدهم الآخر في القول والعمل، متعاهدون، أوفياء لبعضهم بعضاً، متعاونون على البرّ والتقوى،.. بمعنى آخر متكاملون فيما بينهم يسدّ أحدهم نقائص أخيه، بل "المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة"، كما ورد في حديث الإمام الصادق عليه السلام(1). لأن حقيقة الإيمان هي معنى ارتباط الأرواح حقيقة، ولأنّ التجسّد الواقعي لمعنى الإيمان في نفس أدعيائه هو الذي يؤكّد صحة الاتصال بالله سبحانه وتعالى. وعنه عليه السلام: "وأرواحهما أي المؤمنَيْن هي روح واحدة، وإنّ روح المؤمن لأشدّ اتصالاً بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها"(2). فإذا احتكم َدعِيّا الإيمان في العلاقة بينهما إلى العداوة انتفت حقيقة الإيمان من أحدهما أو من كليهما. فكما لا يبقى ضوء الشمس موجوداً إذا انفصل عنها، كذلك فإنّ حقيقة الإيمان تنتفي عندما يتعادى الأخَوَان، لأن ذلك موجب للبعد عن الله تعالى، لغضبه وسخطه، إمّا لكليهما إذا كانا ظالمين، أو لأحدهما على الأقلّ إذا كان هو المتسبّب بهذه الحالة أو كان مصرّاً عليها أو مقصّراً في منعها.
* العداوة من محبطات الأعمال
كما أنّ للعداوة آثاراً في الدنيا، من تفريق القلوب، وإذكاء الشحن في النفوس المؤمنة، وتعكير صفو العلاقات، وتكريس حالة الجفاء بين مَنْ عليهم التراحم والتواصل الدائمين، فهي أيضاً مما يجعل الحساب على المرء عسيراً يوم تشتدّ به الحاجة إلى عفو الله وصفحه، ويستبدُّ به القلق والخوف على مصيره الأبدي ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ*إِلاَ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 89)، إذ إنّ العداوة مما يحبط أجر العمل، ويردّه على صاحبه خائباً. فقد ورد في الحديث عن أبي حمزة الثمالي، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام: "إذا قال المؤمن لأخيه أفّ، خرج من ولايته، وإذا قال: أنت لي عدو، فقد كفر أحدهما، لأنّه لا يقبل الله عزّ وجلّ عملاً من أحد يعجل في تثريب على مؤمن بفضيحته، ولا يقبل من مؤمن عملاً وهو يضمر في قلبه على مؤمن سوءاً.
ولو كُشف الغطاء عن الناس فنظروا إلى ما وصل ما بين الله وبين المؤمن وخضعت للمؤمنين رقابهم وتسهّلت لهم أمورهم ولانت لهم طاعتهم"(3). فالحديث واضح بأنّ الله تعالى لا يتقبل عمل عامل مؤمنٍ وهو يضمر السوء والعداوة في قلبه لمؤمن. وهذا من مظاهر الرحمة الإلهية، حيث إنه بغضّ النظر عن تعارض العداوة مع حقيقة الإيمان لو شرّع الله العداوة بين المؤمنين ولم ينبّه إلى عواقب وخطورة هذا الأمر، لانعدمت دوافع التواصل والتراحم، ولانقلبت المقاييس في العلاقات بين الناس كما هو حاصل في هذا الزمن مع كل أسف ولصار التكالب على الدنيا ومظاهرها وتقديم المصالح الفردية على التكامل والتواصل معياراً للعلاقة بين الناس، كما هو حاصل في بلاد الغرب، وعند المتأثرين بثقافة الغرب في مجتمعاتنا، وهو مما يبعث الأسى في قلوب الحريصين وأهل الله.
* بعض أسباب العداوة بين المؤمنين
تكثر الأسباب التي يمكن ملاحظتها من خلال التجارب الاجتماعية والشخصية، ومن خلال تصفّح الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة. ولكن، أصل ومنشأ كلّ عداوة تنشأ بين المؤمنين هو حبّ الدنيا، طالما أنّ العداوة خطيئة ومعصية توجب سخط الله وإحباط الأعمال، حيث إنّ حبّ الدنيا رأس كلِّ خطيئة ومفتاح كلّ سيئة، وسبب إحباط كلّ حسنة كما ورد عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله(4). ولكن يمكن الإشارة إلى بعض الأسباب ومنها:
الحسد: الذي هو آفة لا ينجو من شرّها إلا القليل، وهو أن يرى المرء نعمة لدى أخيه فيتمنى أن تزول عنه. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إيّاكم والحسد، فإنّ قابيل بن آدم حمله الحسد على قتل أخيه هابيل، والحاسد جاحد، لأنه لم يرضَ بقضاء الله" (5). وإذا كانت عاقبة الحسد قتل الأخ الرحم، فإنّ الحديث عما دونه يصبح من نافل القول. الجفاء وطول الانقطاع: وذلك بغير سبب عقلائي، أو عذرٍ اجتماعي.
وقد ورد أنّ الجفاء يورث العداوة، فعن الإمام علي عليه السلام: "ما أقبح القطيعة بعد الصلة، والجفاء بعد الإخاء، والعداوة بعد المودّة" (6).
عدم تحمُّل إساءات الإخوة: ولا سيما تلك غير المقصودة، وكثرة المشاحنة بينهم على كلّ أمر خلافي يقع، وكثرة المعاتبة على كل صغيرة وكبيرة، لا سيما بالطريقة التي تثير الحساسية والغضب. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "احتمل أخاك على ما فيه، ولا تكثر العتاب، فإنه يورث الضغينة. واستعتب مَنْ رجوت عتباه" (7).
العجب والتكبر: وذلك بأن يرى عمله أحسن من أعمال الآخرين وأنه أتاه بالاستقلال عن الله، فيرى نفسه أفضل من الآخرين، فيزدريهم ويحتقرهم، ويعطي لنفسه من الحق ما لا يعطيه للآخرين، فيعاقبه الله على ذلك، في الآخرة بالعذاب الأليم، وفي الدنيا بنفورهم منه وانفضاضهم عنه، حتى يشعر بالوحدة والغربة، فيستوحش. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "أوحش الوحشة العُجُب"(8). وعنه عليه السلام: "لا حسب كالتواضع، ولا وحدة أوحش من العُجُب"(9).
قلة الاكتراث لمشاعر الآخرين وحقوقهم والاستهانة بهم: فإنّ ذلك من مورّثات العداوة ومن أعظم أسبابها. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "علّة المعاداة قلّة المبالاة" (10). وهذا يشمل تضييع الحقوق المالية والمادية، وحقوق الرحم والقرابة والجيران والصداقة والأخوة، وكافة الحقوق المعنوية، في التعامل مع الآخرين. أضف إلى ذلك الكثير من الأسباب الخطيرة المذكورة في الآيات الكريمة والروايات الشريفة، مما لا يتسع المقام له من قبيل الخيانة، الحنث بالوعد، الغيبة، النميمة، البهتان وكافة أنواع المظالم. أخيراً، فإنّ العداوة تطاول أول من تطاول، الذي يتسبب بها، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ زرع العدوان حصد الخسران" (11). وعنه عليه السلام: "من زرع العداوة حصد ما بذر" (12).
(1) الكافي، الكليني، ج 2، ص 166.
(2) م. ن.
(3) كتاب "المؤمن"، الحسين بن سعيد الأهوازي، ص 72.
(4) بحار الأنوار، المجلسي، ج 72، ص 182.
(5) إرشاد القلوب، الديلمي، ج 1، ص 255.
(6) بحار الأنوار، ج 77، ص 210.
(7) م. ن، ج 72، ص 212.
(8) غرر الحكم، ج 2، ص 372.
(9) الكافي، ج 2، ص 60.
(10) عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص 341.
(11) بحار الأنوار، ج 40، ص 164.
(12) الكافي، ج 2، ص 302.