السيـّـد علي عبّـــاس الموسـويّ
﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ (الأحزاب:
23). هكذا يصف الله تعالى في كتابه المجيد المخلصين من المجاهدين، إن كانوا
شهداءَ أو منتظرين. "الصدق" تلك القيمة السهلة الصعبة، لمَ اختارها تعالى لتكون
وصفاً لخاصّة أوليائه، الذين عُقد النصر على جباههم؟
وإذا كان عامل الصدق قوّة لهم، فأيّ صدقٍ هذا الذي سيتنزّل النصر به؟ ولمَ عُدَّ
سبباً له؟
* الصدق شعبةٌ من الجهاد
إنَّ أهمّ ما يتميَّز به أهل الجهاد صِدْقهم في المواطن، فلا تتبدّل النيّات مهما
اشتدّت الفتن ومهما كثر الأعداء. فيما يرقى الصدق، في حدّ ذاته، ليكون قيمةً بمعزل
عن الفوائد المترتّبة عليه، سواء كُتب للصادقين النصر أو كُتبت لهم الشهادة، فإنّ
لهم الفضل بأنّهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ أي أدّوا فرضهم الواجب عليهم، كما
يُبيّن ذلك أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه عن شعب الجهاد: "والْجِهَادُ عَلَى
أَرْبَعِ شُعَبٍ: (......) والصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ، (......) ومَنْ صَدَقَ فِي
الْمَوَاطِنِ قَضَى الَّذِي عَلَيْه"(1).
لكن بالنظر إلى غاية فريضة الجهاد وهي النصر، نجد عوامل متعدّدة تؤدّي دورها في
تحقّقه، وعلى المجاهدين في سبيل الله توفيرها تمهيداً للنصر.
* الصادق: في قوله وفعله
الصدق هو مطابقة الواقع. ولا يختصّ بتناقل الأخبار، بل يشمل الصدق في النوايا
والأفعال أيضاً، كصدق الوعد وأداء الواجبات والحقوق؛ ولذا يقول العلّامة الطباطبائيّ:
"الصدق بحسب الأصل مطابقة القول والخبر للخارج (...) [ثمّ] توسّع معنى الصدق، فعدّ
الإنسان صادقاً إذا طابق خبره الخارج، وصادقاً إذا عمل بما اعتقده، وصادقاً إذا أتى
بما يريده ويعزم عليه على الجدّ"(2).
* الصدق يقودنا إلى النصر
ثمّة عناصر واردة في مرويّات أهل البيت عليهم السلام حول الصدق كسببٍ لتنزّل النصر،
حيث يتحقّق بها الصدق التامّ، وهي أربعة، ولكلّ منها سهمه في صنع النصر، إذا اجتمعت
أنتجت نصراً إلهيّاً مظفّراً، وكُتب التوفيق للمنتصرين وباتوا نموذجاً صالحاً يقتدي
به الآخرون:
1- النيّة الصادقة
ترتبط النيّة بعامل داخليّ في النفس الإنسانيّة، فلكلّ امرئ ما نوى. وصدق النيّة
كبابٍ للنصر يتحقّق عندما يكون العمل خالصاً لله عزّ وجلّ، فلا يشوبه شيء من
تعلّقات الدنيا، بل يكون الإقدام على الجهاد لوجه الله تعالى فقط. وقد ورد عن أمير
المؤمنين مخاطباً أصحابه: "انْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ، ولْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ
فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ"(3).
ومضافاً إلى الإخلاص لله عزّ وجلّ، لا بدّ من الصدق في العمل الجهاديّ نفسه، وذلك
بأن يُعطي العامل للعمل حقّه، فيتمّه متقناً إيّاه، أمّا إن قصّر مع كونه معتمداً
في مهمّته التي يؤدّيها، فلا يكون صادقاً في نيّته.
2- القضيّة الصادقة
عندما تطلق صفة الصدق على غاية العمل وهدفه، فالمراد أن يكون حقّاً مطابقاً للواقع،
فمن يقاتل لأجل الباطل لا يكون صادقاً في قضيّته. وقد تكون نيّته صادقة، فهو طالب
للحقّ، ولكنّه أخطأ في تشخيصه وتحديده. وهذا ما واجهه أمير المؤمنين عليه السلام من
بعض قومه، فأرشدهم إلى أنّ المطلوب معرفة مواطن الحقّ؛ لئلا يقف بعض الصادقين في
نواياهم مواقفَ الباطل جهلاً. يقول الإمام عليه السلام لأصحابه في صفّين: "وقَدْ
فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، ولَا يَحْمِلُ
هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ، والْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ
الْحَقِّ، فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِه وقِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْه"(4).
ولذا، يحذّر الإمام عليه السلام من خطأ شائع، وهو معرفة الحقّ بالرجال، فالمنهج
الصحيح معرفة الرجال بالحقّ، وقيل: إنّ الحارث بن حوط أتاه فقال: أتراني أظن أصحاب
الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال عليه السلام: "يا حارث، إنّك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك،
فحرت. إنّك لم تعرف الحقّ فتعرف مَن أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف مَن أتاه"(5).
3- القيادة الصادقة
إنَّ العهد في العمل الجهاديّ متبادل، فكما أنّ البيعة تصدر عن الأنصار والأتباع،
كذلك ثمّة عهود يقطعها القائد. وهذه العهود تشمل الثبات حتّى تحقيق الهدف المنشود،
دون تخاذل أو تهاون. وصدق القيادة يتحقّق بعدم تهاونها وعدم تراجعها عن الانتصار
للحقّ مع امتلاكها العلم والمعرفة.
وعند تعداد الإمام عليه السلام لصفات القائد الجهاديّ في وصيّته لمالك الأشتر، يقول:
"فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّه ولِرَسُولِه ولإِمَامِكَ،
وأَنْقَاهُمْ جَيْباً وأَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ
ويَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، ويَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، ويَنْبُو عَلَى
الأَقْوِيَاءِ، ومِمَّنْ لَا يُثِيرُه الْعُنْفُ ولَا يَقْعُدُ بِه الضَّعْفُ"(6).
4- الطاعة الصادقة
وأمّا أعظم ما يملكه المجاهد في سبيل الله، فهو أن يكون صادقاً في طاعته والتزامه
بعهده الذي أعطاه، فلا يتأخّر ولا يتخلّف، ولأنّ المجاهد من أصحاب العزم والهمم،
الذين لا يبالون بما يقول الناس، ولأنّ ثقته بقائده لا تُنال، ولا يمكن أن يصدر عنه
عصيان أو مخالفة. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وجَاهِدْ فِي اللَّه حَقَّ
جِهَادِه، ولَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّه لَوْمَةُ لَائِمٍ، وخُضِ الْغَمَرَاتِ
لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ"(7).
* أولئك هم الصادقون
ورد الصدق في القرآن الكريم كصفة ثابتة لأهل الجهاد، وذلك في ثلاثة مواطن:
1- قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب، 23). يذكر المفسرون
أنّ المراد بصدقهم هنا، هو ثباتهم في مواجهة الحقّ، فلا يفرّون، بل يظهرون الطاعة
التامّة لله عزّ وجلّ، وللقيادة.
2- قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحجرات،
15). فاستحقاقهم صفة الصدق؛ لأنّ الشكّ لم يتسرّب في نفوسهم، بل بذلوا
الجهاد بالمال والأنفس.
3- قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾
(الحشر، 8). وهنا أضافت الآية نصرة الله ورسوله؛ أي الصدق في طاعة الله
ورسوله، وبهذا تحقّقت لهم سمة "الصادقين".
ويتّضح ممّا تقدّم أنّ المراد من الصادقين: هم الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم في
ميادين حماية دين الله والجهاد والثبات والصمود، وبذل الأرواح والأموال. ويتجلّى
ذلك بـ:
أ- الثبات: فلا يتراجعون أبداً.
ب- التحمّل والصبر: رغم متاعب العمل الجهاديّ، يصبرون. يقول الإمام عليه السلام في
وصفهم: "وطَاِئفَةٌ عَضُّوا عَلَى أَسْيَافِهِمْ، فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا
اللَّه صَادِقِينَ"(8).
* النصر الإلهيّ
يأتي نتيجةً لاجتماع هذه الصفات، المنُّ بنزول النصر من عند الله عزّ وجلّ. فعلى
الرغم من مراحل المشقّات والمتاعب أمام المجاهدين، إلّا أنّها اختبارات لصدقهم
وثباتهم في هذه الأمور الأربعة.
ونختم بكلام أمير الكلام عليه السلام حين يصف هذه المعادلة في عهد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: "ولَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم،
(......) ولَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا والآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا، يَتَصَاوَلَانِ
تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا، أَيُّهُمَا يَسْقِي
صَاحِبَه كَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا ومَرَّةً
لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا
الْكَبْتَ، وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ"(9).
1- نهج
البلاغة، جمع: الشريف الرضيّ، الحكمة 31.
2- يراجع: تفسير الميزان، الطباطبائي، ج 9، ص 402.
3- نهج البلاغة، (م.س)، الخطبة 197.
4- (م.ن)، الخطبة 173.
5- (م.ن)، الحكمة 262.
6- (م.ن)، الكتاب 53.
7- (م.ن)، الكتاب 31.
8- (م.ن)، الخطبة 218.
9- (م.ن)، الخطبة 56.