قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ (غافر: 51).
إنّ المعنى الشائع للنصر هو الغلبة، وقد ينساق الذهن إلى الغلبة في ساحة القتال.
لكنّ القرآن الكريم استخدم تعبير النصر بمعنى أعمّ وأوسع منه. كما قد ذكر جملةً من
شروط النصر. في هذا المقال، سنتعرّف إلى معنى النصر قرآنيّاً، وكيف صرّح القرآن بما
هو مطلوب من كلّ طالب نصر، ومتى ينصر الله عباده نصراً مؤزّراً.
* النصر: غلبة الحقّ والمبدأ
قال تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾
(الإسراء: 33). النصر هنا بمعنى تشريع حكم إلهيّ للمظلوم، يتدارك به ما
وقع عليه من وصمة الظلم والبغي(1).
وعليه، فالنصر أعمّ من الغلبة في ساحة القتال، فقد يكون بمعنى فتح الباب لغلبة
المبدأ الذي يحمله المنصور، بما يحقّق من خلاله هدفه، فالغالب في هذا المعنى هو
المبدأ والهدف.
ومن الشواهد، ما روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام عندما سأله إبراهيم بن
طلحة بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام قائلاً: من غَلَب؟ وهو مغطٍّ رأسه عليه
السلام، وهو في المحمل. فقال له عليه السلام: "إذا أردت أن تعلم من غَلَب، ودخل وقت
الصلاة، فأذّن ثمّ أقم"(2).
* النصر من الله
عبّر الكتاب العزيز بالنصر كفعلٍ منسوبٍ إلى الله تعالى، وليس إلى الإنسان، في
موارد عدّة، قال الله عزّ وجلّ:
1- ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران: 126).
2- ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ (النصر:
1).
3- ﴿وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ
إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ (العنكبوت: 10).
4- ﴿وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء﴾
(آل عمران: 13).
* كيف يتدخّل الله في تحقيق النصر؟
إذا كان النصر من عنده تعالى، فبأيّ شيء يتحقّق؟ أخبرنا القرآن الكريم أنّ الله
تعالى ينزّل النصر بشروط، هي:
1- تسديد القائد: قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ
عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا
يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ﴾ (النساء: 113).
2- تثبيت المؤمنين: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد:
7).
3- إلقاء الرعب في قلوب الأعداء: قال تعالى: ﴿سَنُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ (آل عمران: 151).
4- إبطال كيد الأعداء: قال تعالى: ﴿وَإِن
تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ (آل عمران: 120).
5- تسديد الإصابة: قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ
رَمَى﴾b
* لاستنزال النصر
طرح القرآن الكريم عنواناً عامّاً لمن يريد استنزال نصر الله تعالى، ألا وهو نصرة
الله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ (محمد:
7).
ومعنى نصرة الله تعالى هو: الانطلاق من الإيمان بالمبادئ الاعتقاديّة لتحقيق
التكليف الإلهيّ الشرعيّ؛ بمعنى أنّ تركيز نظر المؤمن يجب أن يكون على إنجازه
التكليفَ المطلوبَ منه، بغضّ النظر عن النتيجة. ويعبِّر الإمام الخمينيّ قدس سره عن
هذه الفكرة بقوله: "نحن مأمورون بأداء التكليف، ولسنا مأمورين بتحقيق النتائج".
* عناصر لنصرة الله
إنّ لاستنزال النصر عناصر وشروطاً لا بدّ من تحقيقها، هي:
1- الإيمان بالغيب: إنّ من معاني الإيمان بالغيب الاعتقاد بأنّ الله تعالى
هو السبب الحقيقيّ، والمؤثّر الحقيقيّ في عالم الوجود. وهذا ما أكّدته آيات عديدة،
منها: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾
(البقرة: 107). وثمرة ذلك الإيمان هي التوكّل على الله والاستعانة به في
الأمور كلّها: ﴿وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ (النساء:
81).
2- الإعداد بأقصى القدرة: قال تعالى:
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60). وأهم
أنواع الإعداد ثلاثة:
أ- الإعداد المعنويّ: يشكّل الإخلاص لله تعالى والتوجّه إليه رأس قائمة الإعداد
والجهوزيّة؛ لاستمداد نصر الله تعالى في الحرب.
ب- الإعداد التدريبيّ: ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يشرف بنفسه
على تدريب المجاهدين على القتال، وكان ينادي بين صفوفهم: "وأعدّوا لهم ما استطعتم
من قوّة، ألا إنّ القوّة الرمي، ألا إنّ القوّة الرمي، ألا إنّ القوّة الرمي"(3).
ج- الإعداد التجهيزيّ: بأن يوفّر المقاتلون أسلحة الحرب المطلوبة، فعنه صلى الله
عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى يُدخل بالسهم ثلاثة نفر الجنّة: صانعه يحتسب في
صنعته الخير، والرامي به، ومنبّله"(4).
د- أيّ إعدادٍ أهمّ؟
وإن كان الإعدادان التدريبيّ والتجهيزيّ مطلوبين، إلّا أنّهما ليسا علّةَ النصر
الحقيقيّة؛ ويبقى للإعداد المعنويّ حظّه الأكبر، حيث يذكر القرآن الكريم قصّة طالوت
وجنوده ليضيف معادلةً جديدة، بعد ابتلائهم بشربة النهر، حيث تروي النصوص أنّ 313
مقاتلاً فقط اجتازوا الامتحان الإلهيّ من أصل 600، وهؤلاء القلّة هم الذين قال الله
تعالى عنهم: ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ
قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 250).
وفي بدر، كان الكفّار 950 مقاتلاً وبينهم 200 فارس، و700 دارع، بينما كان المسلمون
313 مقاتلاً، معهم ثلاثة على فرس، وثمانية سيوف فقط. ومع ذلك، فإنّ الله تعالى
حينما رأى أنّ شروط النصر قد تحقّقت، أنزل نصره وقال:
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ (آل عمران: 123).
3- الصبر غلبة: الصبر هو التحمُّل والمقاومة مقابل الاستسلام للواقع. قال
تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنفال: 65).
4- وحدة الصفّ: أكّد القرآن الكريم وحدة الصفّ، وعدّ عمدتها: طاعة الله
ووليّه، فقد قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ
وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: 46).
وهذا الشرط، مضافاً إلى ما سبقه، مطلوب من مجتمع المجاهدين أيضاً، فكما يتوجّه
المجاهدون إلى الله تعالى في جهادهم، يتوجّه مجتمع الجهاد والمقاومة أيضاً بالدعاء
للمجاهدين لاستنزال النصر. وكما يجهّز المجاهدون أسلحتهم للقتال، فإنّ على المجتمع
أن يشاركهم هذا التجهيز، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من جهّز
غازياً بسلكٍ أو إبرةٍ غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر"(5). وفي هذا وحدة
صفّ وقوّة.
* حتميّة النصر
حينما تتحقّق شروط النصر، فإنّ الله تعالى يضمن تحقق النصر بشكل حتميّ، كما قال في
كتابه:
1- ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47).
2- ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ (محمد: 7).
3- ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ (غافر: 51).
من الجدير بالذكر أن يؤثّر مضمون هذه الآيات الكريمة في أدبيّاتنا حينما نعبّر عن
الانتصار، لسنا من انتصر، بل الله تعالى هو الذي نصرنا.
* شواهد حيّة
في مجتمعنا شاهد حيّ على ما ورد في القرآن الكريم، فقد حقّقت المقاومة ومجتمعها في
حرب تموز شروط النصرة، فكان النصر الإلهيّ. واليوم، في مواجهة المؤامرة الجديدة،
علينا أن نحرص على تحقيق تلك الشروط. إنّ المجاهدين قد سجّلوا أروع ملاحم الجهاد
والاستشهاد.
فشهيدٌ يكتب لملك الموت قائلاً له: "أقسم عليك بمن استأذنته قبل قبض روحه، رسولنا
الأكرم، أن تشعرني باقترابك، لا لأوصي بشيء (...)، بل لأسلّم على الحسين".
كما تتنوّع صور الصبر والفخر عند عوائل الشهداء أيضاً، هناك أب دفن ابنَيْن شهيدَين
مفتخراً معلناً استعداده لتقديم بقيّة أبنائه، وأمّ تناجي ولدها: "لقد دعوت لك
بالشهادة حينما زرت الإمام الرضا عليه السلام"، حامدةً ربّها على استجابة دعائها.
إنّ مقاومةً بهذا الإيمان والبسالة، وإنّ مجتمعاً بهذه الروحيّة وهذا العطاء
استحقّا أن يثق بهما سيّد المقاومة بأنّهما حقّقا شروط النصر، ليقول واثقاً من
تحقيق الوعد الإلهيّ: "كما وعدتكم بالنصر دائماً، أعدكم بالنصر مجدّداً".
1- تفسير
الميزان، الطباطبائيّ، ج 14، ص 400.
2- الأمالي، الطوسي، ص677.
3- المبسوط، الطوسيّ، ج 6، ص 289.
4- كنز العمال، المتقي الهندي، ج 4، ص 349.
5- جامع أحاديث الشيعة، البروجردي، ج 13، ص 22.