السيد هاشم صفي الدين
تشكِّل مفردة النظام ركناً أساسياً في الدعوة التي حملها
الأنبياء والرسل للبشرية. ولذا نجد أنَّ من أهمِ وظائف الأنبياء عليهم السلام بعد
إخراجهم الناس من الظلمات إلى النور، من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد الأحد،
من الاستضعاف والقهر إلى مرحلة الغلبة بوجه المستكبرين والفراعنة والطغاة تنظيم
شؤون هذه المجموعات الإيمانية جميعها والاهتمام بكلِّ ما يرتبط بحياتها في الدنيا
والآخرة.
النظام في دعوات الأنبياء
إنَّ الآخرة، والمصير الذي ينتظر الإنسان بعد هذه الحياة الدنيا، وإن كانت هي محط
اهتمام الأنبياء والرسل وكل الرسالات السماوية، إلا أنَّ ذلك لا يعني أن تُهمل هذه
الحياة الدنيا أو أن تُترك، إذ إنَّ النتيجة التي نحصل عليها في الآخرة ما هي إلا
نتاج العمل في هذه الحياة. إنّ العمل الذي يثمر في الحياة الآخرة هو العمل الذي
يوصف بأنَّه حسن وجيد وهو الذي يكون مطابقاً للسنن والتشريعات، وهذا هو الدين، وهذا
هو الإيمان، مشروع كامل متكامل للبشرية، ويريد لهذا الإنسان أن يعيش في فضاء مليء
بالقيم والمعنويات ليحقّق بذلك مصيره السعيد في آخرته. النظام، كما نراه اليوم في
عرفنا وفي اصطلاحنا العلمي، هو تحديد الأولويات وبرمجة الأمور وهو جزء حقيقي من
برنامج عمل كل نبي وكل رسول أرسله الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن لنبي أو رسول أن
يصل إلى تحقيق أهدافه دون أن ينظّم الأمور ويرتبها، ودون أن يلاحظ الأولويات.
التصدي للمسؤولية
إنّ من الواضحات أنّ شعار "النظام من الإيمان" هو من الدين، فقد ورد عن أمير
المؤمنين عليه السلام في وصيته للإمامين الحسن والحسين عليهما السلام: "أوصيكما
بتقوى الله ونظم أمركم". وهي دعوة للعمل وتحمّل المسؤولية، وإشارة مباشرة إلى
المسؤولية الشرعية التي نتحمّلها جميعاً في هذا الموضوع. وإن عدم القيام بمقتضياتها
أقل ما يقال فيه إنّه خيانة للأمانة مع امتلاك القدرة على ذلك. فالمسؤولية في
الأساس هي خدمة يجب أن يقوم بها أحد وأن يتحمّل مسؤوليتها أحد. بل إنّ حملة "النظام
من الإيمان" بكافّة تفاصيلها عمل مهم وشريف، فمن أشرف الأعمال خدمة الناس، ومن أشرف
الأعمال تنظيم أمور الناس. نعم علينا أن نحذر من الوقوع في المنّة على الناس، فنحن
نتحمل مسؤوليتنا ونقوم بواجبنا.
الضاحية عنوان كبير
الضاحية اليوم هي عنوان كبير في الوطن، وعنوان كبير في الأمة. حينما نقول إنّ
الضاحية هي عاصمة المقاومة لا نبالغ في ذلك. كانت كل الأنظار متجهة إلى الضاحية في
حرب تموز 2006، فمصير الشرق الأوسط كان قراره من الضاحية، ويعود السبب في ذلك إلى
أنّ المطلوب كان إخضاع هذه الضاحية ليسقط فيها قرار المقاومة. الدمار الذي رأيناه
لم يكن دماراً سطحياً بل دماراً مركَّزاً يحتوي الخبث الصهيوني والوحشية الأميركية.
والحمد لله، بجهاد كلِّ المخلصين والمقاومين والمجاهدين وصبر الأهالي، لملمت
الضاحية جراحها ونهضت من جديد، والحياة تعود إليها اليوم بشكلٍ طبيعي بل تسير نحو
حياة أفضل تملؤها العزّة والكرامة. الضاحية تحمّلت هذه المسؤوليّة السياسيّة
والثقافيّة والتاريخيّة، وسيكتب التاريخ في يوم من الأيام أنَّ الضاحية قد تحمّلت
أبشع وأشنع وأقسى الحروب الإسرائيلية لكنها نهضت. إنّ المعيار اليوم ليس هو مستوى
الإمكانات المادية، بل الموضوع هو قوة الإنسان وقدرة الإنسان، فالدول العربية تملك
اليوم الإمكانات والنفط، لكنّهم يفقدون دورهم في الحضارة وفي المعادلة والوجود.
والأحداث التي جرت طوال السنوات الماضية أثبتت أنّ الإنسان الذي يحيا ويعيش في هذه
الضاحية هو أصيل بالبُعد الوطني والإيماني والإنساني، هو صاحب قضية متمسك بها، لم
يتخلّ عنها ولن يتخلَ عن قضيّته. والعالم كله يقف اليوم في موقف اليائس نتيجة قوّة
غير عادية، عبّرت عنها الضاحية كما عبّر عنها كلّ المقاومين في كل المناطق. هذه
القوة يجب أن ندرك عظمتها، يجب أن نعرف كيف نفهم هذه الطاقة وكيف نستثمرها وكيف
نتعاطى معها في سبيل بناء حياة أفضل. على المستوى الإنمائي والإعماري وعلى مستوى
الاحتياجات نحن أمام واقع هو من نتائج حالة الحرب والفوضى التي عمَّت البلد في
سنوات وعقود ماضية ومن نتائج الإهمال السياسي والحرمان، وإلى ما هنالك من عناوين
كثيرة وكبيرة جداً أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه.
خصائص الضاحية
إنّ من يستمع للإعلام الأجنبي والغربي والموجّه والمعادي أحياناً والظالم في كثير
من الأحيان، سوف يجد الصورة تتحدّث عن أنَّ الضاحية شيء مخيف ولا يستطيع أحد الدخول
إليها. ونحن نعيش في الضاحية ونرى البيئة الثقافية والاجتماعية بيئة سليمة وجيدة
ومهمة، فالكثير من العائلات المحافظة والمحترمة يعيش هنا ولو بُذِلَت لها كل
الإمكانات لا تغادر الضاحية التي عاشت فيها وترعرعت فيها ولديها جيرانها وعلاقاتها
الاجتماعية والثقافية وما شاكل.
هناك إيجابيّات كثيرة على مستوى الحياة العامة والبيئة الثقافيّة والاجتماعيّة
والتربويّة. وحينما نتحدّث عن الملفّات التي يجب أن نركِّز عليها لحلِّ بعض المشاكل
التي ترتبط بالنِّظام العام أو بالشؤون والتفاصيل العامة لا يعني ذلك على الإطلاق
أنّنا نعيش في بؤرة قاسية. هناك بعض المشاكل التي لها جذور صعبة وقاسية، مثل بعض
الأماكن التي نمت بفعل التمدّد السكاني في ظرف غير طبيعي ودون تخطيط ولا بنى تحتية.
طبعاً هذه الأحياء تعاني من اكتظاظ سكاني ومشاكل على مستوى الحياة الاجتماعية، صعبة
ومعقدة، وهي تعاني من مشاكل قاسية تحتاج إلى معالجات من نوع آخر وتحتاج إلى جهد
إضافي لمعالجتها.
حملة النظام من الإيمان
ثمة العديد من النقاط المرتبطة بهذه الحملة:
أولاً: يهمني أن أؤكِّد أنّ هذه الحملة هي
الخطوة الأولى التي نخطوها في هذه الطريق. ونحن نسير فيها ضمن مخطَّط مع تحديد هدف
يجب أن نصل إليه ولو احتاج الوصول إلى هذا الهدف عدّة سنوات، لأنّ حل كافة المشاكل
وتحقيق كافة الأهداف غير ممكن في يوم ويومين وشهر وشهرين. وهذا يعني أولاً أنّنا
بحاجة إلى النَفَس الطويل، وبحاجة إلى القناعة، بل علينا الموازنة بين المصالح
والقانون. يجب أن نحافظ على القانون، والنظام يجب أن يكون محترماً، لكن مع الاهتمام
بالإنسان المظلوم والمستضعف. لا نقبل على الإطلاق أن يعيش هذا المظلوم والمستضعف
والفقير في محيط فوضوي. نحن نعطي دماءنا من أجل الفقير والمستضعف ونريده أن يكون
منظَّماً. ونحن إذ ندعو إلى الالتزام الكامل والتام بالنظام وبالقانون فلا يعني ذلك
أنّنا نريد أن نطبِّق النظام والقانون على رأس الفقير والمستضعف لمصلحة الغنيّ
والمستكبر وصاحب المصالح. نحن نريد النِّظام وهذا يحتاج لنفَس طويل والنفس الطويل
يعني وجود برنامج يُعمل على أساسه.
ثانياً: من الطبيعي أن تترافق المشاكل مع هكذا
مشروع لا سيما مع الخطوة الأولى منه. لذلك نقول بضرورة أن نضع برنامجاً. لن نحل
كافة المشاكل بشهر أو باثنين، وهناك أمور ليس لها حل، لذلك علينا أن نبحث عن الأمور
التي لها حل. وكل ذلك تحت سقف النظام. أعتقد أن حملة النظام من الإيمان نجحت نجاحاً
قوياً في خلق الصدمة الإيجابية وفي جعل الناس مستعدّين لتقبّل القرارات التي
تُتَّخذ في ظلِّ القانون والنظام، باعتبار أن الناس تجاوبوا، والانعكاس السياسي
والإعلامي عموماً في البلد كان مهماً جداً. ما قمنا به حتى الآن يشجعنا ويساعدنا
على الاستمرار في هذا المجال بجهد وتعب ومثابرة لنصل إلى نتائج أهم.
ثالثاً: ليس المطلوب معالجة كافة العناوين معاً.
حذار من الوقوع في فخّ الاستعجال. فليس بالإمكان معالجة كل شيء دفعة واحدة. علينا
العلاج خطوة بعد خطوة، وعلينا أن نركّز المعالجة.
رابعاً: التأكيد على أهمية التكاتف والتضامن
على المستوى الثقافي والاجتماعي والبيئي وكل الإمكانيّات المتاحة؛ لأنّ هذا واجب
ومسؤولية عامة، فعلى الجميع أن يتكاتفوا ويتضامنوا في مواجهة ما قد يتعرض إليه
الفرد من العائلة أو صاحب المصلحة أو...، لأنه عند الرضوخ لأي ضغط لا يعود هناك
نظام. أحياناً تصبح بعض المخالفات جزءاً من الحياة السائدة والعادات ويصبح من الصعب
التخلي عنها. إذا كانت المصلحة عامة، يجب على الجميع أن يرضخ لها ولا يستطيع أي
مجلس بلدي أن يعالج هذه الأمور إلا عندما يكون متضامناً ومتكاتفاً. إنّ من أصعب
الأمور في العمل الجماعيّ الحفاظ على الموقف الواحد، التكاتف والتضامن لإنجاح
المهامّ، خاصَّة أنَّ هذا النوع من العمل هو خلاف مصالح بعض الناس. أعتقد أن هناك
الكثير من العادات والأنماط والتقاليد تحتاج لزمن وبذل جهود مضنية، ولا يكفي صدور
قرار حتى تتبدّل وتتغيّر. وأما فيما يرتبط بالمشاكل الاجتماعيّة الكبيرة فإنّ
العلاجات تحتاج إلى دراسات وتخطيط، ويجب أن نصل بالطموح إلى معالجة المسائل الكبيرة.
إن حملة "النظام من الإيمان" خطوة أولى في هذا المشروع الكبير الذي يحتاج إلى تكافل
وتضامن لكي يتم الحفاظ على الحياة بالحد الأدنى من الكرامة على المستوى الاجتماعي.
خامساً: أمّا على مستوى المجتمع الأهلي فإنَّ
أهم مؤازرة في العمل البلدي تأتي من المجتمع الأهلي. وهذا يتوقف على إيجاد آليات
للتواصل مع الناس، كلجان الأحياء التي لا بد وأن تكون ثقافة القانون والنظام جزءاً
من برامجها. وتنطلق الحاجة إلى المجتمع الأهلي بلحاظ أنّ العمل الإنمائي والاجتماعي
كالعمل ضمن شعار "النظام من الإيمان" هو عمل يرتبط بالفرد والمجموعة، بل أحياناً
يكون المكوّن الاجتماعي هو الأساس، وهنا المجتمع الأهلي يتحمَّل مسؤوليّة كبرى على
المستوى الثقافي والوعي والأولويات. وفي الختام أقول إنّ العمل الإنمائي
والعمل الاجتماعي هو ثقافة وهذه الثقافة لا تُخترع اختراعاً. أي شعب تُخترع له
ثقافة لا يمكن أن يُكتب لها النجاح. والثقافة هي نتاج طبيعي من أفكار ومعتقدات
وانتماءات. ما نحن فيه يؤهلنا جميعاً لأن نكون في موقع ثقافي متقدم.
(*) مقتبسة من الكلمة التي ألقيت في اللقاء الخاص بالمجالس البلدية في قاعة السيد عباس الموسوي قدس سره في مجمع القائم بتاريخ، 14ـ 12ـ 2009.