الشيخ محمد حسن زراقط(*)
لا تكاد تخلو عبادة من العبادات الإسلامية من بُعد
اجتماعيّ، حتّى في أكثرها فرديّة، كما في الصلاة والصوم. والأبعاد الاجتماعيّة
بدورها متنوّعة متعدّدة الزوايا. وما يعنينا منها، في هذا المقال، هو الهمّ
الاقتصاديّ في العبادات الإسلاميّة حيث يمكن القول: إنّ الشريعة الإسلاميّة أولت
الجانب الاقتصاديّ من الحياة الاجتماعيّة اهتماماً كبيراً، حتّى أدّى هذا ببعض
فقهاء المسلمين إلى عدّ المحافظة على المال مقصداً وغاية ممّا تبتغيه الشريعة في
أحكامها وتشريعاتها.
وأمثلة التشريعات التي تهدف إلى تحقيق هذه الغاية كثيرةٌ في الشريعة، يمكن الاكتفاء
بالإشارة إلى بعضها للانتقال إلى البعد الماليّ في العبادات. وتتوزّع التشريعات
المرتبطة بالمال على الأحكام الشرعيّة الخمسة، ونكتفي باثنين منها هما الوجوب
والتحريم:
•أمثلة التحريمات الاقتصاديّة
1- تحريم السرقة وتشريع عقوبات على ارتكابها:
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا﴾
(المائدة: 38). وفي هذا السياق، أيضاً، يقع قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن
لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ﴾ (الممتحنة: 12).
2- تحريم الرشوة ومشابهاتها: وقد حرّم الله الرشوة في القضاء، ونهى عنها في
كتابه الكريم، حيث يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ
أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ﴾ (البقرة: 188).
والنقطة الأكثر أهميّة في هذه الآية هي تأسيس قاعدة كبرى تفيد حرمة أكل أموال الناس
بطرق غير مشروعة، وجعل الرشوة مصداقاً من مصاديق هذه القاعدة.
3- تحريم القمار: من المحرّمات الماليّة في الإسلام التسلّط على أموال الآخرين
بواسطة المقامرة وهو ما يُسمّى في المصطلح الإسلاميّ بالميسر، وقد فُسِّر بأنّه أخذ
المال بيسر ودون تعبٍ، بل بالمراهنة وغيرها من الوسائل التي تدخل في دائرة المقامرة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ﴾ (المائدة: 90).
4- تحريم الربا: جاء تحريم الإسلام للربا بشكلَيه القرضيّ والمعامليّ:
﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة:
257).
وهذا غيض من فيض التشريعات التحريمية التي تهدف إلى تقييد التصرّفات المالية، وعدم
إطلاق يد الإنسان في التصرّف في ما يقع تحت يده من أموال، سواء أكانت له أم لغيره.
•أمثلة التشريعات الوجوبيّة
ما تقدّم مجرّد إشارات سريعة إلى البعد السلبيّ في التشريع الإسلاميّ الذي يهدف إلى
حماية أموال الآخرين وصَونها. ولم يكتفِ الإسلام بحماية الأموال لأصحابها بشكل
مباشرٍ فقط، فإنّ هذا التشريع لا يستفيد منه إلا صاحب المال، وأمّا المُعدَم فيبقى
محروماً من الآثار المباشرة لهذا التحريم. ولأجل هذا نجد أنّه تعالى ضمّ إلى
التحريم الوجوب، وإلى الحماية والمنع الإقدام. كما ضمّن بعض التشريعات الوجوبيّة
التي لا يبدو فيها بعدٌ ماليٌّ تشريعاتٍ تربويّةً تصبّ في خدمة هدف الحماية، كما
سوف يأتي أثناء الحديث عن الصلاة.
•تصنيف العبادات في الشريعة
وفي هذا المجال ثمّة تصنيف للعبادات إلى ثلاثة أصنافٍ هي: العبادات الماليّة،
والعبادات البدنيّة الماليّة، والعبادات البدنيّة.
1- العبادات الماليّة
شرّع الإسلام عدداً كبيراً من التشريعات ذات الطابع الماليّ وأمثلتها كثيرةٌ لا
داعي إلى استعراضها جميعاً مع أدلّتها، ومن أهمّ العبادات الماليّة في الإسلام:
أ- الخمس: بأنواعه وموارده المتعدّدة، ويُستخدم كموردٍ للتكافل الاجتماعيّ وسدّ
حاجات المجتمع الإسلاميّ، ويُصرف على الأفراد كما يُصرف في المصالح العامّة.
ب- الزكاة: أيضاً من التشريعات الماليّة المباشرة التي وضعتها الشريعة على
أعيانٍ محدّدة زراعية وغيرها، وتصرف أيضاً على نحو ما يُصرف الخمس مع شيءٍ من
الاختلاف في بعض التفاصيل.
ج- الكفّارات: وبابها في الشريعة الإسلاميّة واسعٌ، وهي نوعٌ من العقوبة
الماليّة على مخالفة بعض الأحكام الشرعية كما في نقض اليمين وغير ذلك.
2- العبادات البدنية المالية
من الأمثلة التي تُذكر عن العبادات التي تَجمع الكلفة البدنيّة والكلفة المالية «الحجّ»؛
حيث إنّه تكليفٌ بالسفر إلى بيت الله الحرام، ومن الطبيعيّ أنّ فيه تعباً جسديّاً
كما فيه كلفةٌ ماليّة يتطلّبها السفر غالباً. وممّا يضفي على الحجّ بعداً ماليّاً
أنّ بين مناسك الحجّ ما يعرف بالأضحية التي تنفق لحومها بحسب التشريع الإسلاميّ على
الفقراء: ﴿فإذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ (الحج: 36).
3- العبادات البدنيّة
وتذكر الصلاة والصوم عادةً كمثالَين لهذا الصنف من العبادات. ولكن بالتحليل يُكتشف
أنّ هذين النموذجَين للعبادة لا يخلوان من بعدٍ اقتصاديٍّ، يمكن اكتشافه بقليلٍ أو
كثيرٍ من التحليل:
-أولاً: الصوم: لا شكّ في كون الهمّ التربويّ الفرديّ هدفاً وغايةً من غايات
الصوم، غير أنّ الشريعة الإسلاميّة لم تترك هذه العبادة الفرديّة بمنأىً عن
الاهتمام الاقتصاديّ ولم تجرّدها من البعد الماليّ.
أ- الكفّارات:
أوجب الإسلام الصوم وجعل على من يفطر عمداً «كفّارة» هي إطعام ستّين مسكيناً؛ وفي
هذا ربطٌ واضح بين هذه العبادة البدنيّة وبين البعد الاقتصاديّ.
ب- الفدية: تجب الفدية المرتبطة بالصوم في
حالتين على الأقلّ هما: حالة استبدال الصوم لمن يعجز عنه بإطعام الفقراء بدلاً من
الصوم: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ﴾ (البقرة: 184). وقد فسِّر قوله تعالى:
﴿يطيقونه﴾ بمن يحتاج إلى طاقةٍ كبيرة ليؤدّي ما عليه من صوم. ففي هذه
الحالة يسقط وجوب الصوم وتجب الفديّة. والحالة الثانية للفدية المرتبطة بالصوم هي
حالة تأخير القضاء لمن لم يستطع الصوم لسفر أو مرض أو غير ذلك، فإذا وجب القضاء على
المكلّف ولم يقضِ وجب عليه أن يدفع في مقابل كلّ يوم أخّر قضاءه إطعام مسكينٍ.
ج- زكاة الفطرة: من التشريعات الماليّة المرتبطة بالصوم الصدقة، التي
يجب على الإنسان دفعها في الفطر، فيختم صومه بزكاة تُصرف في مصالح الفقراء وحوائجهم.
د- الدعوة إلى الإطعام في شهر رمضان: ومن
التشريعات المالية ولو الاستحبابية المرتبطة بالصوم هي تجسيد روحيّة الصوم التي
أشرنا إليها أعلاه وهي الإحساس بمعاناة الفقراء، في التضامن معهم بإطعامهم واتّقاء
النار بهذا الإطعام، ولو كان شقّ تمرةٍ، كما ورد في الحديث الشريف المنسوب إلى رسول
الله صلىالله عليه وآله وسلم.
إذاً، الصوم عبادة بدنيّة، ولكنّها رُبِطت في الشريعة الإسلامية بالمال والاقتصاد
الاجتماعيّ.
-ثانياً: الصلاة: الصلاة أيضاً عبادة تُصنّف في دائرة العبادات البدنيّة. وقد
يبدو لأوّل وهلة أنّ البعد الماليّ فيها غائبٌ أو غير واضح؛ ولكنّ التحليل الدقيق
وإمعان النظر في التشريعات المرتبطة بالصلاة يكشفان عن بعدٍ ماليٍّ بأشكال مختلفة،
وهذا ما نعرضه في ما يأتي:
أ- ممّا يلفت النظر في الصلاة أنّ الله عزّ وجلّ كثيراً ما أمر بإقامة الصلاة في
القرآن الكريم، وقرن هذا الأمر بالدعوة إلى إيتاء الزكاة، فكثيراً ما تكرّر قوله
تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ
الزَّكَاةَ﴾ (البقرة: 43). وكأنّ الله عزّ وجلّ يريد أن يبيّن لنا أنّ
إقامة الصلاة التي هي عملٌ فرديٌّ تفقد قيمتها إنْ لم تُقرن بالاهتمام الاجتماعيّ
الذي يتجلّى في إيتاء الزكاة.
ب- تحريـم الغصب فيها: ومن الأبعاد التربويّة المالية في الصلاة أنّها عملٌ له شروط
لا تتمّ إلّا إذا توفّرت، وتحتاج إلى مقدّمات، أهمّها الطهارة والستر والمكان. وفي
هذه جميعاً نجد أنّ الشريعة حكمت بتوقّف صحّة الصلاة على إباحة الماء الذي يتوضّأ
الإنسان به، وإباحة اللباس الذي يستُر نفسه به، وإباحة المكان الذي يصلّي فيه. وفي
بطلان الصلاة بخرق هذه الشروط تربية للمكلّف على تجنّب الغصب خارج الصلاة. وهذا
يشبه ما يُقال عن أنّ تحريم الصلاة مع السكر يربّي على تجنّب شرب الخمر خارج الصلاة
أيضاً.
•الهدف: تربية الإنسان
إذاً، البعد الاجتماعيّ - الاقتصاديّ في الإسلام عميقٌ جدّاً، ويتبيّن هذا من
الاهتمام التشريعي بالمال بشكلٍ مباشرٍ، كما يتّضح من خلال النظر والتأمّل في
التشريعات الأخرى كتشريع بعض العبادات التي تبدو فرديّة بدنيّة، ولكنّها ذات بعد
اقتصاديٍّ يمكن اكتشافه بيسر ودون تكلّف. وهذه التشريعات تهدف إلى تحقيق المصالح
الاجتماعيّة والتخفيف من حدّة التفاوت الاقتصاديّ بين الأغنياء والفقراء. ولكن
المهمّ أيضاً هو أنّ هذه التشريعات ليست اقتصاديّة محضة يُراد منها إشباع بطنٍ هنا
أو هناك، بل إنّ من الأهداف التي لم تغفلها الشريعة في تشريعاتها المالية كسر حدّة
الشَّرَه والرغبة في جمع المال من كلّ حدبٍ وصوبٍ، وتربية الإنسان على وقاية نفسه
من الشحّ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
(الحشر: 9).
(*) أستاذ في الحوزة العلميّة.