الشيخ محمد حسن زراقط
مرحلة المراهقة والشباب من أخطر المراحل التي يمرّ بها
الإنسان في حياته. وإذا كان الطفل يعاني جسديّاً، بعد خروجه من الرحم، في التكيّف
مع البيئة الخارجيّة التي تحتضنه، فإنّ مرحلة الشباب هي مرحلة ولادة معنويّة، تترك
بصماتها على حياة الإنسان القادمة بأشكال عدّة.
ولأهميّة هذه المرحلة في حياة الإنسان وانعكاساتها على حياة الشابّ وأسرته، تحوّلت
هذه المرحلة إلى موضوع للدّرس في علوم عدّة أهمّها: علما الاجتماع والنفس. وظهر إثر
هذا الاهتمام مصطلح "الفجوة العمريّة" فلا تكاد تخلو لغة من ترجمة له وبحث حوله.
وهو مصطلح معبِّر إلى درجة كبيرة عن المشكلات التي تثيرها هذه المرحلة في حياة
الأسر والمجتمعات، كما في حياة الأفراد.
* مناطق التوتّر وتجلّياتها
تتعدّد مناطق التوتّر بين الشاب وأسرته، بل ومجتمعه أحياناً، وتختلف باختلاف
الأوضاع الاجتماعيّة التي تعيشها الأسر، وتتنوّع بتنوّع الثقافات. ولكن، مع ذلك،
ثمّة مناطق توتّر بين الشاب وأسرته يمكن الإشارة إلى بعضها في ما يأتي:
أ. الاختيار العلميّ والمهنيّ.
ب. اختيار الزوج وشريك الحياة.
ت. اختيار نمط العيش.
هذه الموارد، هي الأكثر تداولاً، والأشدّ تَكرراً في حياة الشباب، والأكثر إثارة
للحساسيّات بين الأسر. وليس هذا الأمر جديداً على الحياة الإنسانيّة. ولكنّ
التحوّلات الاجتماعيّة، والثقافيّة المعاصرة، وتبدّل أنماط الحياة الاقتصاديّة
وغيرها، ضاعفت من تعقيدات هذه المرحلة وإشكاليّاتها.
وقد اهتمّ الإسلام بمرحلة الشباب، وقدّم مجموعة من الحلول التي تُسهم في معالجة
نقاط التوتّر وتخفّف منها على الأقلّ؛ أو تضع هذه الخصوصيّات التي تَسِم مرحلة
الشباب في المسيرة الصحيحة، لينتقل الشاب المعارض الناقم على الأوضاع المحيطة به
إلى رجلٍ يُسهم في صناعة مستقبله ومستقبل الأمّة كلّها. ويحسن بنا، قبل الحديث عن
هذه التدابير المشار إليها، أن نُلقي نظرة على التقييم الإسلاميّ لمرحلة الشباب،
ثمّ ننتقل، بعد ذلك، إلى بيان تلك التدابير.
* التقييم الإسلاميّ لمرحلة الشباب
الخلفيّة التي تنطلق منها التدابير العلاجيّة لتوتّرات الشباب، تستند إلى نظرة
إيجابيّة إلى هذه المرحلة وحسن ظنٍّ بالذين يمرّون فيها، على الرغم من كل
الإشكاليّات والتوتّرات الطبيعيّة التي قد يثيرونها أو تُثار في مواجهتهم. ومن أجمل
ما يكشف عن هذه النظرة الإيجابيّة التقييم القرآنيّ لهذه المرحلة، حيث يصفها القرآن
بأنّها مرحلة الوصول إلى الذروة في مسيرة التكامل الاجتماعيّ، وذلك ما يكشف عنه
قوله تعالى:
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ
إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ (الأنعام: 152)، فهذه الآية تفيد أنّ مرحلة الشباب والخروج
من اليتم، هي مرحلة الاشتداد. وسوف يأتي، بعد قليل، أنّ الشريعة الإسلاميّة تفترض
بالإنسان، الذي يصل إلى هذه المرحلة، أن يتّصف بالرشد في الحالات الطبيعيّة.
وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يوصي فيه أحد أصحابه بالتركيز على فئة
الشباب في الدعوة والتبليغ فيقول له: "عليك بالأحداث؛ فإنّهم أسرع إلى كلّ خير"(1).
وفي السياق نفسه، يوضع الحديث المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث يقول:
"مَنْ قَرَأَ القرآن وَهُوَ شَابٌّ مُؤْمِنٌ اخْتَلَطَ القرآن بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ
وَجَعَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ وَكَانَ
القرآن حَجِيزاً عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"(2). ولعلّ في هذه الإشارات، كفاية
لبيان النظرة الإسلاميّة إلى الشباب.
* التدابير التشريعيّة لتخفيف التوتّر الأسريّ
إذا كان القرآن الكريم معجزةً من معجزات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التي تدلّ
على نبوّته، فإنّ دقّة التشريعات الإسلاميّة هي معجزة أخرى، تدلّ على عُمق فهم صاحب
هذه التشريعات بالنفس الإنسانيّة وحالاتها، الأمر الذي نكتشفه من عدد من التشريعات،
التي ترتبط بالشباب وتهدف إلى حماية شخصيّتهم، ولا تسمح حتّى لأقرب الناس إليهم،
بانتهاك هذه الشخصيّة، وفَرض أهدافها وغاياتها عليهم. ومن أهم التشريعات والتوصيات
التي يمكن عرضها في هذه المقالة الموجزة، ما يأتي:
أ. من عنده صبيّ فليتصاب له:
دعا الإسلام في نظامه التربويّ، إلى الاعتراف بشخصيّة الشابّ ومراعاة عمره
وخصوصيّاته، فلا يشجّع الإسلام على فرض خيارات الكبار على الصغار، حتّى في غير
حالات الجدّ، لا العكس؛ بل يقوم المنهج الإسلاميّ في التربية على المرحليّة
والتدرّج، كما يفيد الحديث المرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن
كان عنده صبيٌّ فليتصابَ له"(3).
وقد اشتهر على الألسن حتّى صار قاعدة تربويّة إسلاميّة مشهورة، نُسبت إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الحالات، ورُويت عن الإمام الصادق عليه السلام في
بعض المصادر.
وهذه القاعدة هي قاعدة: الملاعبة سبعاً، والتأديب مثلها، والمصاحبة بعد ذلك، فإن
أفلح فهو، وإلا فلا يُرجى منه خير: "دع ابنك يلعب سبع سنين، وألزمه نفسك سبعاً،
فإن أفلح، وإلّا فإنّه مَن لا خير فيه"(4).
ب. زمانهم غير زمانكم:
على الرغم من الثبات الظاهريّ للمجتمعات في تقاليدها وعاداتها، فإنّ ثمّة اختلافاً
بين الأجيال يظهر على شكل توتّر بين مجموعة من الأعراف التي يلتزم بها الآباء، في
مرحلة، ثمّ يبدأ الميل عند الأبناء إلى تركها والتخلّي عنها، فينشأ هذا التعارض
الحادّ بين قيم عاشها الآباء، ويميلون إلى المحافظة عليها، وبين جيلٍ لا يرى لهذه
القيَم قداسة.
وإلى جانب هذه القيم المتغيّرة، توجد مجموعة من القيم الثابتة التي حَرَصت الشريعة
الإسلاميّة على عدم تبديلها أو تغييرها، وندبت المسلمين إلى المحافظة عليها. وأما
تلك المتحرّكة، التي لا تعارض الشريعة، وهي ما يُسمّى بالآداب أو العادات
والتقاليد، فلا ترى الشريعة ضرورة للحفاظ عليها.
وبالتالي، فإنّ الإسلام الذي سمح لنا ببعض الأعراف التي نرتاح لها، يدعونا في الوقت
عينه إلى عدم تقديسها، وتَرْك الخيار لأبنائنا، بانتهاج غيرها، ممّا يتناسب مع
الزمن الذي يعيشون فيه. وهذا ما يرمي إليه أمير المؤمنين عليه السلام حيث يُروى عنه
قوله: "لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"(5).
ج. حتى يبلغ أشدّه:
من الطبيعيّ، أنّ على الأبوين تربية أبنائهما ولهما الحقّ في ذلك، دون شكٍّ ولا
نقاش؛ فهو حقٌّ وواجب في آنٍ واحدٍ. ولكنّ إعطاء الحقّ للمربّي سواء أكان أباً أم
جدّاً أم وصيّاً أم غير ذلك، لا يعطيه الحقّ في محو الشخصيّة القانونية للمتربّي.
ومن هنا، نجد أنّ الشريعة سمحت لمن له ولاية على مال اليتيم(6)، بإدارة أموال هذا
اليتيم. ولكنّها قيّدت صلاحيّة التصرّف بمراعاة مصلحة المولّى عليه، يقول الله
تعالى:
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ
إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ (الأنعام: 152)، ويقول عزّ وجلّ في محلٍّ آخر:
﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا
بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ﴾ (النساء: 6).
وهذا الحكم، الوارد في الآية، وإن كان مرتبطاً باليتيم، إلا أنّ الفقهاء لم يميّزوا
بين اليتيم وغيره، ولم يعطوا الأب صلاحيّة التصرّف في أموال ابنه ما لم يراعِ
"الغبطة" بحسب تعبيرهم؛ أي ما لم يراعِ مصلحة الابن في تصرّفه.
ومن لوازم الاعتراف بالشخصيّة القانونية للشابّ الاعتراف بحقّه في اختيار زوجته أو
زوجه. ومن هنا، لا يجيز الإسلام للأب أن يجبر ابنه أو ابنته على الزوج الذي يختاره.
ومن اللوازم أيضاً، الاعتراف للشاب بحقّه في اختيار مستقبله المهنيّ أو العلميّ.
* خصوصيّة برّ الوالدين
وفي مقابل الاعتراف لمرحلة الشباب بخصوصيّاتها، واحترام هذه الخصوصيّات والتكيّف
معها، نجد أنّ الشريعة احترزت، من الجهة المقابلة، كي لا تجنح الرغبة في الاستقلال
بالشاب إلى حيث لا تريد له الشريعة أن يصل، فيتحوّل إلى نسخة مختلفة عن الأبوين
منفصلة عنهما، فنصّت الشريعة الإسلاميّة على مجموعة من التدابير الاحترازية
المقابلة، كي تحفظ التواصل بين الأجيال إلى جانب الخصوصيّات الزمنيّة المختلفة،
فدعت الولد إلى برّ أبيه وطاعته، وإلى الاستفادة من تجاربه واحترامها، كي لا يكرّر
الولد التجربة نفسها والخطأ نفسه.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص93.
2- م.ن، ج2، ص603.
3- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص483.
4- الوافي، الفيض الكاشاني، ج 23، ص1379. ونسب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
بصيغة أخرى، مثل: "داعِب ولدك سبعاً، وأدِّبه سبعاً، وعلِّمه سبعاً، ثم اترك حبله
على غاربه".
5- انظر: تصنيف نهج البلاغة، لبيب بيضون، ص644.
6- اليتيم هو من فقد أباه، ويبقى يتيماً إلى أن يصل إلى مرحلة البلوغ، فلا يقال له
يتيم.