الشيخ حسن الهادي(*)
تشتمل سورة الحُجُرات على منظومة متكاملة من أصول الأخلاق
والمبادئ التربويّة والاجتماعيّة. وتهدف إلى وضع تشريعات ومبانٍ في الأخلاق
الاجتماعيّة التي تنظّم العلاقات الاجتماعيّة بين المسلمين أفراداً وجماعات، وبثّ
الروح في الحياة الاجتماعيّة في مجالاتها الخُلقيّة والاجتماعيّة والتربويّة، وبناء
مجتمع متماسك قويّ قادر على مواجهة التحدّيات، والسير بالبشر نحو الكمال الذي أراده
الله عزَّ وجلّ للإنسان.
*أصول الأخلاق الاجتماعيّة في سورة الحجرات
لا مجال لدراسة كلّ الأصول الأخلاقيّة والتربويّة والاجتماعيّة والنفسيّة الواردة
في سورة الحجرات في دراسة مختصرة كهذا المقال، لذا سنوجز الكلام في جانب من هذه
الأصول التربويّة والأخلاقيّة، وهي:
الأصل الأوّل: الأخوّة بين المؤمنين.
الأصل الثاني: الإصلاح بين المؤمنين.
الأصل الثالث: رعاية حرمة المؤمن.
الأصل الرابع: منهج تلقّي الأخبار.
مع الإشارة إلى أنّ هذه الأصول تشكّل مع باقي الأصول الواردة في السورة منظومة
أخلاقيّة وتربويّة من شأنها تربية المجتمع الإسلاميّ، والسير به باتّجاه قيم الخير
والفضيلة، والكمال والتقدّم.
* الأصل الأوّل: الأخوّة بين المؤمنين
الإيمان ليس علاقة طقسيّة بين المؤمن وربّه، يمارس من خلاله عباداته ويعزّز علاقته
بالله تعالى فقط، بل هو علاقة لها أبعاد تربويّة واجتماعيّة أيضاً مع سائر المؤمنين
الذين ليس بينهم إلّا رباط الأخوّة الإيمانيّة كما نفهم من صيغة الحصر "إنّما" في
سورة الحجرات، التي تحصر العلاقة بين المؤمنين بالأخوَّة، ولذا قالت الآية:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
أ- حقّ أخيك
والمستفاد من الآية الكريمة أنّ أخوَّة الإيمان من الأصول الاجتماعيّة في الدين
الإسلامي؛ التي يؤمر المؤمن بتأصيلها في حياته الاجتماعيّة بحيث لا تبقى بين
المؤمنين إلّا الأخوّة، وتترتّب عليها مجموعة من الواجبات تجاه بعضهم البعض، وهو ما
نفهمه بوضوح من الروايات الشريفة.
ففي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ
عَيْنُه ودَلِيلُه لَا يَخُونُه ولَا يَظْلِمُه ولَا يَغُشُّه ولَا يَعِدُه عِدَةً
فَيُخْلِفَه"(1).
ونجد المظهر الأكمل لهذه الأخوّة في ما روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام في
رسالة الحقوق، "وحقُّ أخيكَ، أن تعلمَ أنَّه يدكَ الّتي تبسطُها، وظهرُك الذي
تلتجئُ إليهِ، وعزُّك الذي تعتمدُ عليهِ، وقوَّتك التي تصولُ بها، فلا تتّخذْهُ
سلاحاً على معصيةِ اللهِ، ولا عُدَّةً للظلمِ لخلقِ اللهِ، ولا تدعْ نصرتَه على
نفسِه ومعونَتَه على عدوِّهِ، والحؤولَ بينَه وبينَ شياطينِه، وتأديةَ النصيحةِ
إليهِ، والإقبالَ عليهِ في اللهِ، فإنِ انقادَ لربِّهِ وأحسنَ الإجابةَ لهُ، وإلَّا
فليكُن اللهُ آثرَ عندَكَ وأكرمَ عليكَ منهُ"(2).
والرواية ترشد إلى أنّ الأخ هو الذي اتّحد بأخيه اتّحاداً تامّاً، حتّى أصبحت يد
أحدهما يد الآخر، وعزّ أحدهما عزّ الآخر.
ب- السكينة والاطمئنان
ويُبرِزُ بعض الروايات عنصراً مهماً يترتّب على الأخوة وهو السكينة والاطمئنان،
لأنّ المؤمن يشعر شعوراً صادقاً براحة نفسيّة مع أخيه المؤمن. وهي السكينة التي
أنزلها الله تعالى على المؤمنين، قال تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي
قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلهِ جُنُودُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (الفتح: 47). قال بعض المفسِّرين إنّ السَّكِينَةَ
هي الرحمة التي تسكن إليها النفس ويزول معها الخوف(3). وهي تدلّ في بعض استعمالاتها
على الثبات والطمأنينة. ورد عَنْ الإمام الصادق عليه السلام أنه قَالَ: "إِنَّ
الْمُؤْمِنَ لَيَسْكُنُ إِلَى الْمُؤْمِنِ كَمَا يَسْكُنُ الظَّمْآنُ إِلَى
الْمَاءِ الْبَارِدِ"(4).
إذاً, للأخوّة الإيمانية دور رائد في بناء الشخصيّة المؤمنة، وتشييد أركان المجتمع
الإسلاميّ.
* الأصل الثاني: الإصلاح بين المؤمنين
يترتّب على الأخوّة الإيمانيّة تكليف هامّ في الحياة الاجتماعيّة وهو الإصلاح بين
المؤمنين، قال الله تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 10)، و﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا﴾ (الحجرات: 9).
وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تدعو المسلمين وتأمرهم بالاجتماع
والتآلف، وتنهى عن التفرّق والاختلاف المؤدّيَين إلى التنازع والفشل.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "صَدَقَةٌ يُحِبُّهَا الله:
إِصْلَاحٌ بَيْنِ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا وتَقَارُبٌ بَيْنِهِمْ إِذَا
تَبَاعَدُوا"(5).
*الأصل الثالث: رعاية حرمة المؤمن
قال تعالى في سورة الحجرات:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا
يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ
مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الحجرات: 11).
تحذّر هذه الآية من ثلاثة أمور تؤدّي إلى هتك حرمة المؤمن والإساءة إلى شخصيّته،
وهذه الأمور هي: السخرية، اللمز، والتنابز بالألقاب.
أ- لا تسخروا
وقد حرّم الإسلام السخرية التي يمارسها بعض الناس بحق بعضهم الآخر لشعورهم بالتفوّق
عليهم في بعض الصفات، أو الأفعال، أو المناصب، ممّا يجعل صاحب الصفة الجيّدة
وبإيحاء شيطانيّ يتعالى على الآخرين ويحتقرهم باعتبارهم أقلّ منه درجة، وكذا اعتَبر
اللّمز والتنابز بالألقاب من الأخلاق المذمومة، كونها تؤدّي إلى هتك الحرمات
والإساءة إليها وتخطّي كل الحدود واللياقات في العلاقة بالآخر.
وتتحدّث الآية 12 عن ثلاثة أمور أخرى تؤدّي نفس مؤدّى الآية 11 ولكن مضافاً إلى
البعد الشخصي لها هناك بعد اجتماعيّ، وهذه الأمور هي: سوء الظنّ، التجسّس، الغيبة.
وتعتبرها من المحرمات التي تؤدّي إلى مفاسد اجتماعية كثيرة ومخاطر كبيرة. قال
تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا
تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ﴾ (الحجرات: 12).
ب- اجتناب ظنّ السوء
والمراد بالظنّ المأمور بالاجتناب عنه، ظنّ السوء، لأنّ ظنّ الخير مندوب إليه. روي
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِه حَتَّى
يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْه ولَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ
سُوءاً وأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلاً"(6).
والاجتناب عن الظن يعني الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه كأنْ يظن بأخيه المؤمن سوءاً
فيرميه به ويذكره لغيره ويرتب عليه سائر آثاره (7).
ج- ولا تجسّسوا
والتجسّس هو تتبّع ما استتر من أمور الناس للاطلاع عليها، ولذا قيل: معنى الآية لا
تتبعوا عيوب المسلمين لتكشفوا الأمور التي سترها أهلها(8). قال تعالى:
﴿.. وَلا تَجَسَّسُوا﴾
عن معايب المؤمنين، وإنّما تحسّسوا عن محاسنهم، إظهاراً للجميل وستراً للقبيح،
والتجسّس عن أسرار المؤمنين محظور بأيّ لون وعلى أية حال.
ونهت الآية عن التجسّس مطلقاً، فالبحث عن أسرار الآخرين الخفية، ممّا لا يريدون
اطّلاع الناس عليها، لأنّ الله أعطى الحياة الخاصة حرمة شرعيّة وجعل للإنسان الحقّ
في منع غيره من الاعتداء عليها.
وحينئذٍ، يكون الإنسان المسلم محترم الكرامة ومصون العرض والمال والدم ومكفول
الحرية في المجتمع الإسلاميّ الذي يتكافأ فيه الجميع ويعيشون فيه متساوين. وبهذا
وضع الإسلام قاعدة كليّة عامّة وشاملة لكلّ أفراد المجتمع يتساوى فيها الضعيف
والقوي والرجل والمرأة والرئيس والمرؤوس والعربي والأعجمي.
روي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله [الصادق]
عليه السلام يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: يَا مَعْشَرَ
مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِه ولَمْ يُخْلِصِ الإِيمَانَ إِلَى قَلْبِه لَا تَذُمُّوا
الْمُسْلِمِينَ ولَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّه مَنْ تَتَبَّعَ
عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَه ومَنْ تَتَبَّعَ الله تَعَالَى عَوْرَتَه
يَفْضَحْه ولَوْ فِي بَيْتِه"(9).
*الأصـل الرابـع: منهج تلقّي الأخبار
قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6).
تتحدّث هذه الآية عن أحد أهم الواجبات الاجتماعية والمؤثّرة في تماسك المجتمع
ووحدته، وهو تلقّي الأنباء والأخبار والمعلومات وتناقلها فيما بينهم. والآية خطاب
من الله عزَّ وجلَّ للمؤمنين بأنّه إذا جاءكم فاسق - وهو الخارج عن طاعة الله إلى
معصيته - "بنبأ" - أي بخبر - "فتبينوا" صدقه من كذبه ولا تبادروا إلى العمل بما
تضمّنه "أن تصيبوا قوماً بجهالة" لأنّه ربما كان كاذباً وخبره كذباً، فيؤدّي العمل
به إلى:
﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ﴾.
يقول العلّامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في تفسير الآية: "يا أيها الذين
آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر، ذي شأن فتبيّنوا خبره بالبحث والفحص للوقوف على حقيقته
حذر أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصيروا نادمين على ما فعلتم بهم".
وعليه، فإنّ الأخذ والرفض في الأنباء ليسا فوضى دون حساب، وإنما لكلّ ميزان عادل،
فلا يؤخذ خبر الفاسق إلّا أن يتبيّن صدقه، ولا يرفض خبر العادل إلّا أن يتبيّن
خطأه.
وأخبار الفاسقين، سببٌ رئيسٌ في الصراعات والمشاكل الاجتماعيّة التي تعصف بالمجتمع
وبالمؤمنين. ومن الواضح أنّنا حينما ننظر إلى واقع المسلمين اليوم نجد أنّ الذين
يذكّون نار الصراع بينهم هم في الأغلب أبعد الناس عن القيم، فإذا استطاع المؤمنون
إبعاد أثر الفسقة عن تجمّعاتهم قدروا على سدّ أكبر ثغرة تهدّد كيانهم.
(*)أستاذ في جامعة المصطفى العالمية، بيروت.
1- الكافي، الكليني، ج2، باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، ص 166.
2- تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ابن شعبة الحراني، رسالته
عليه السلام في جوامع الحقوق، ص 263.
3- التبيان في تفسير القرآن، الطوسي، ج5، ص 199.
4- الكافي، م.ن. ص 247.
5- م.ن. ص 209.
6- م.ن، ص 362.
7- الميزان في تفسير القرآن، العلّامة الطباطبائي، ج18، ص 325.
8- م.ن.
9- الكافي، م.ن، ص 354.