تحقيق: نانسي عمر
تطرق بابها، فتفتح لك مرتبكة، ثم مؤهّلة مسهّلة.. تهمّ بالدخول ولكنها سرعان ما تناديك "اخلع نعليك"، فتخال لوهلة أنك في أحد الأماكن المقدسة..! تجلس في بيتها، فترى عينيها تراقبان حركات يديك.. ما القصة؟؟ لم أفهم بعد.
*للحكاية تتمّة
عندما يخرج الضيف من منزلها يبدأ عمل خرطوم المياه، الذي لا يوفر زاوية ولا مقبض باب ولا كرسياً ولا طاولة في الغرف التي دخلها الضيف إلّا ويفرغ بمياهه العذبة عليها.. وعندما يصل زوجها.. تنتهي الحكاية بمعاتبة وصراخ وأحياناً أكثر من ذلك.. إلّا أنها تصرّ على موقفها.. بأن المنزل متنجّس..
يأتي أولادها من المدرسة، فتستقبلهم على باب المنزل. تتناول حقائبهم وتفرّغها مما فيها، ثم تُلقيها في الحمام.. وتنادي: لا أحد يدخل إلى غرفته قبل أن يستحمّ، فما أدراني أين كنتم وما لمَستْ أيديكم خارج المنزل.
إنها حكاية طويلة ليست كبقيّة الحكايات.. حكاية عدوّ لدود أرخى بثقله على كثير من الأُسر.. حكاية الوسوسة القهرية التي يعاني منها عدد كبير من الناس، معظمهم من النساء، ممن سيطر عليهم هوس التطهير حتى لما هو طاهر.. من باب الاحتياط كما يدّعي بعضهم، ومن باب الجهل بالأحكام الشرعية كما يعترف آخرون.
*هل الأمر خارج السيطرة؟
تقول أم علي (أم لولدين): "الأمر خارج عن سيطرتي، فالوسوسة في أحكام النجاسات جعلتني أكره أن يزورني الناس، أو أن أقوم أنا بزيارة أحد".. وتكمل: "لا يمكن أن أقتنع بطهارة أي شيء إن لم أقم بتطهيره بيديّ".
وتعترف أم محمد (أم لأربعة أولاد) أنّ وسوستها بالطهارة كان سببها الجهل بالأحكام الشرعية، وتضيف: "كنت أستمع لكلام كبار السن فأقع في إشكالات عديدة، لأنهم كانوا قديماً يحكمون على طهارة الأشياء ونجاستها تبعاً لعادات وروايات الأجداد، كحكمهم على بول الرضيع بالطهارة، مثلاً".
أما أبو جعفر (45 عاماً) فيعتبر أن زوجته الموسوسة أصبحت تشكل عبئاً على المنزل والعائلة، فهي لا تقتنع من أحد ولا تنفذ إلا ما هي مقتنعة به. ويضيف: "وسوستها بالطهارة والنجاسة باتت السبب الرئيسي لمعظم خلافاتنا، وأنا لا أعرف كيف أخلّصها من هذا الوسواس".
*الوسوسة مذمومة عقلاً وشرعاً
الوسوسة ليست من الفضائل، بل هي حالة مذمومة عقلاً وشرعاً لأنها خروج عن الوسطية، والاعتدال، وهدر لطاقات الإنسان دون أيّ فائدة.. هكذا يصفها فضيلة الشيخ محمد الحمود (أستاذ في الحوزة العلمية ومرشد ديني في مدارس المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ). ويكمل: "الوسوسة ليست ضرباً من الورع والتقوي ولا عناية مرغوباً فيها في أحكام الشرع المقدّس، وإنما هي اختلال في إدراك الإنسان وضعف في نفسه وإرادته واستسلام لإيحاءات الشيطان..".
ويضيف سماحته: "إن أغلب الفقهاء يعتبرون الممارسة الوسواسية حراماً شرعاً، وأن المقدمات التي تؤدي إلى الوسوسة كالمبالغة في الاحتياطات، محرمة أيضاً، ومستثناة من عنوان الاحتياط الراجح والمحبّب. فالله تعالى رحيم بعباده ولا يكلفهم فوق طاقتهم. ولم يأمرهم بتوقي الأشياء الطاهرة خشية الوقوع في النجاسات. ولكن الإنسان هو الذي يضيق على نفسه بالوساوس والتخيلات".
*الأصْل الحُكم بالطهارة
وعن كيفية تطبيق قواعد الطهارة يقول الشيخ الحمود: "إن البناء على النجاسة يحتاج إلى دليل قاطع لا إلى حساب الاحتمالات، وبالتالي ينبغي أن ينزع الوسواسي من عقله الاحتمالات غير المنطقية والتي تقول له إنّ الأصل هو نجاسة الأشياء، وطهارتها تحتاج إلى إثبات. فهذا كلام باطل، والأصل هو الحكم بالطهارة ما لم يثبت العكس بالدليل العيني القاطع. ولو كان الظن بالنجاسة بنسبة 90 % فينبغي البناء على الطهارة لأصالة الطهارة، ولأن الله تعالى أمرنا باتباع الظاهر لا الواقع، والنجاسة لا تثبُت إلَّا بدليل، كالحس، والاستصحاب، والبيّنة الشرعية".
*لا تُطع الشيطان
وبحسب الشيخ الحمود، فإن الدين يعيد الوسوسة إلى الشيطان، كما نصّ العديد من النّصوص القرآنية والروائية، وهو سبب قد لا يستطيع العلم إثباته بوسائله وأدواته الطبيعيَّة، ولكنَّه أيضاً لا يملك إمكانيَّة نفيه. كما أن هذا لا يمنع من وجود أسباب أخرى نفسية أو بيولوجية، إضافة إلى الجهل بالأحكام الشرعية أو عدم تلقي الأحكام الشرعية بصورة صحيحة أو دقيقة.
وبهذا الصدد يروى عن أحد العلماء أنه قال لأحد الموسوسين: أنت تخالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام وتعبد الشيطان! فقال الموسوس: كيف ذلك وأنا أؤمن بالله وألعن الشيطان؟ فقال له العالِم: لأن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام قد قرروا للطهارة والنجاسة قدراً وحدّوا لها حدوداً، فيقول لك الشيطان: هذا الكلام باطل واحكم بالنجاسة على كل شيء، فتَبِعْتَه فيما أوحى لك، وتركت ما قاله لك الأخيار فأنت تعبده من دون أن تدري! فالتفت ذلك الموسوس إلى نفسه ثم ضرب بيده على رأسه، ولحيته، وبكى وترك الوسوسة ببركة هذا العالِم.
*كل شيء لك طاهر
وبعبارات مبسطة ينصح الشيخ محمد الحمود الموسوس بالقول:
1- إنّ كل الأشياء محكومة بالطهارة ما لم يعلم بالنجاسة.. وبالتالي لا يجب الفحص ولا السؤال ولا التدقيق، حتى ولو كان الفحص سهلاً.
2- لو حصل ظنٌّ بحدوث النجاسة لدى الموسوس فلا يجب الاعتناء بها، والظن هنا بحكم العدم، ولا ينبغي حتى الاحتياط، لأن الاحتياط هنا من الشيطان، بل ينبغي أن يبني على الطهارة الظاهرية.
3- الأهم في حالة الوسوسة الرجوع إلى الأسباب الحقيقية التي أدَّت إلى ذلك.
*رأي الطب النفسي
للطبِّ النفسي أيضاً رأيه في هذا الموضوع، حيث يعرّف الدكتور قاسم عطيّة (متخصّص في الطبّ النفسي) الوسواس بأنّه "فكرة أو صورة تراود ذهن المريض بشكل متكرر ولمرات متتالية، لتتحول في مراحل متقدمة إلى عمل أو سلوك مستمر".
وبحسب د. عطيّة فإن "المريض يعرف سخافة هذه الفكرة ولكنه لا يستطيع مقاومتها. فالمريض يحاول تجنب العمل لكن شعوره بالقلق والتوتر يدفعه للقيام به تخفيفاً لتوتره".
أنواع الوسواس القهري عديدة، أكثرها انتشاراً اليوم وسواس النظافة، والترتيب، والعدّ. وهو يبدأ في سن المراهقة ويشتدّ مع مرور الزمن إن لم يتم تداركه سريعاً. ويذكر الدكتور عطيّة أن وسواس النظافة منتشر بنسبة ثلاثة إلى سبعة في المئة من الناس، ولكنّ أغلب المرضى لا يراجعون الطبيب إلّا بعد سنتين على الأقل من ظهور العوارض.
*أسبابٌ بيولوجية
ويرجع الطبّ النفسي بحسب د. عطيّة الوسوسة إلى أسباب بيولوجية تتمثل في حدوث خلل في بعض هورمونات الجسم، وأسباب وراثية لأنه في أغلب الأحيان يكون أحد أفراد العائلة من الموسوسين، إضافة إلى الضغوط الحياتية التي قد تزيد منها فتبرز بشكل أسرع وأكبر.
ويؤكد د. عطيّة أن الوسوسة تترافق بنسبة 67 % مع ظهور اكتئاب وشرود ذهني وقلة تركيز، والتي بدورها تؤدي إلى فشل في الأمور الحياتية المختلفة وتحديداً العلاقات الاجتماعية. ولذلك فإن العلاج لمثل هذه الحالات يكون أولاً دوائياً، وترافقه معالجة سلوكية تعمل على تخفيف القلق والتوتر الناتج عن الوسوسة.
ورغم أن الوسوسة يمكن اعتبارها مرضاً كبقية الأمراض إلّا أنها غير معدية، ولكن يمكن للفرد أن يتأثر بمن حوله إذا كان لديه استعداد مرضي أو نفسي لذلك.
وختاماً يؤكد د. قاسم عطيّة أن الوسوسة مرض يمكن معالجته والتخلص منه، بشكل سهل، في البدايات. ولكن كلما تأخّر المريض في طلب العلاج تفاقمت حالته، وبالتالي تزيد مدّة علاجه، وكلما كان طلبه للعلاج مبكراً كانت معالجته أسهل وأسرع.