عن مصباح الشريعة عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أردتَ الطهارة والوضوء، فتَقَدَّم إلى الماء تقدُّمك إلى رحمة الله، فإن الله تعالى قد جعل الماء مفتاح قُربته ومناجاته ودليلاً إلى بساط خدمته، وكما أنَّ رحمته تطهّر ذنوب العِباد، كذلك النجاسات الظاهرة يطهّرها الماء لا غير. قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا﴾ (الفرقان: 48)"(1).
*الطاعات حياة القلب
"وقال عزَّ وجلّ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء: 30). فكما أحيا بالماء كلَّ شيء من نعيم الدنيا، كذلك - بفضله ورحمته - جعل حياة القلوب بالطاعات.
وتفكّر في صفاء الماء ورقَّته وطهوره وبركته ولطيف امتزاجه بكلِّ شيءٍ وفي كلِّ شيء، واستعمله في تطهير الأعضاء التي أمرك الله بتطهيرها، وأْتِ بآدابها، وأْتِ بفرائض الله، فرائضه وسُننه، فإنَّ تحت كلِّ واحدة منها فوائد كثيرة، وإذا استعملتها بالحُرمة انفجرت لك عين فوائده عن قريب.
ثم عاشِر خلق الله تعالى كامتزاج الماء بالأشياء يؤدّي إلى كلّ شيء حقَّه ولا يتغيَّر عن معناه، معتبراً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مثلُ المؤمن الخالص كمثل الماء"(2).
*طهّر القلب وتوجّه..
"وليكن صفوتك مع الله في جميع طاعاتك كصفوة الماء حين أنزله من السماء، وسمّاه طهوراً. وطهِّر قلبك بالتقوى واليقين عند طهارة الجوارح بالماء"(3).
فيا أيُّها العارف بالمعارف الإلهيّة والسالك سبيل العوارف الغيبيَّة، إذا أردت الطهور المطلق، وخرجت من قيود حُجُب الألفاظ والعبارات، توجّه بالماء النازل من سحاب الرحمة إلى ظاهرك، وطهّره من القذارات بأداء آداب واجباته وسُننه، فقد جعل الله الماء مفتاحاً للقُرب والمناجاة ودليلاً إلى بِساط الخدمة.
وتوجَّه بالماء النازل من سماء الرحمة إلى باطنك وطهّره من قذارات المعاصي بالقيام بآداب واجباته وسُننه التي أشار إليها الإمام علي عليه السلام في باب التوبة (4) فإنَّ الله جعل ماء الرحمة مفتاح القُرب والمناجاة ودليلاً إلى بساط خدمته.
وتوجَّه بالماء النازل من سماء المشيئة إلى قلبك، وطهّره من القذارات القلبيّة والأوساخ المعنويّة، فإنّه مفتاح القرب المعنوي ودليل بساط الخدمة.
وتوجَّه بالماء النازل من السماء إلى روحك وطهّرها من قذارات التوجُّه إلى غيره، فهو مفتاح قرب النوافل ودليل الوصول إلى بساط الخدمة.
وإلى هذا المقام، فهي طهارة وطهور السالكين إلى الله.
*وسيلة الرقيّ إلى المقام
لقد أمر الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث الشريف بالتفكُّر في الأبعاد المختلفة للماء، وحدَّد كلّاً منها وسيلة للرقي إلى مقامٍ خاصّ - كالتفكُّر في (أبعاد الماء) في الإحياء والصفاء والرقَّة والطهوريّة، والبركة ولطافة الامتزاج - فعليك أنت أيضاً أن تطيع أمر المولى الصادق المصدّق عليه السلام وأن تتخذ الأبعاد الصوريَّة كافة وسيلةً للارتقاء إلى المقامات المعنويّة.
إذاً، فأحيِ ظاهرك باستعمال الطهور، وأبعِد عنك ببركته الكسل والفتور والنُّعاس، وامنَح صورتك (ظاهرك) صفاءً، وتوجَّه - بظاهرٍ طاهرٍ مُطهَّرٍ - إلى بساط القُرب، وأحيِ أعضاءك بطاعة مولاك.
وأحيِ باطِنك بحياة التفكُّر في المبدأ والمُنتهى والمنشأ والمرجع.
وأحيِ قلبك بحياة الإيمان والاطمئنان.
وأحيِ سرَّك بحياة التجلّيات الإلهية.
وتفكَّر في صفاء الماء، وسِر مع مولاك بصدق وصفاء، وتحقَّق في مراتب الإخلاص.
*جدارة الوصول إلى مقام القرب
وعاشر عباد الله - أيضاً - بالإخلاص؛ وأعرِض عن إعمال الإرادة المتعلِّقة بنفسك، في سبيل الحق والخلق.
وتفكَّر في لطافة امتزاج الماء بالأشياء، فهذا الامتزاج هو لإصلاح حالها وإيصالها إلى كمالها اللائق بها وإحيائها.
ولتكن معاشرتك لعباد الله وتعاملك معهم، على أساس هذه الكيفيَّة أيضاً، فانظر إلى عباد الله بعين الرأفة والإصلاح.
وليكن سعيُك لإصلاح ظاهرهم وباطنهم وإحيائهم.
ولتكن هدايتك للضالّين ونهيك أهل العصيان عن معاصيهم ابتغاء إصلاح حالهم، وليس لفرض ِإرادتك عليهم.
فإذا قرنت تطهير نفسك بالتفكُّرات المذكورة، فستتفجّر -كما وعد الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث الشريف- ينابيع المعارف والحِكم على قلبك، وستصل إلى أسرار الطهارة وحقائقها، وستتحقَّق بحقائقها من خلال الألطاف الغيبيَّة والرياضات النفسانيَّة فتُصبح جديراً بالوصول إلى مقام القُرب وبساط الأنس.
1.مصباح الشريعة، الباب العاشر؛ بحار الأنوار، المجلسي، ج77، ص339.
2.بحار الأنوار، م.ن.
3.م.ن.
4.يبدو أنه صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى الشروط والمراتب الست للاستغفار والتي أوضحها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، لشخص استغفر بلسانه وهو عند الإمام عليه السلام. راجع: نهج البلاغة، الحكمة رقم 409.