الشيخ د. أكرم بركات
تأمّل في الشابّ الذي يلبث مع أبَويه عشرين سنة أو أكثر، والفتاة التي تلبث مع أبَويها عشرين سنة أو أكثر، كيف يحدث لكلّ واحد منهما تغيّرٌ في نفسه يختصّ بالعلاقة مع الآخر، إذ يطلب الزوج من زوجته ما لا يطلبه من أمّه وأبيه، وتطلب الزوجة من زوجها ما لا تطلبه من أمّها وأبيها، وكأنّه خُلق منها، وكأنّها خُلقت منه.
لذا، فإنّ الزواج هو ميلادٌ ثانٍ للإنسان، زوجاً وزوجة. وهو يفترق عن ميلاده الأوّل، فمولده الأوّل كان من دون اختياره، ودخل فيه هذه الدنيا باكياً، ومولده الثاني يحدث باختياره، ويدخل فيه دنياه الجديدة مبتسماً، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 20).
•لماذا الزواج؟
إن سألنا بعض المؤمنين الراغبين في الزواج عن سبب رغبتهم، قد يجيبون بإجابة تتأطّر في دائرة الدين والآخرة، فقد يقول أحدهم: أتزوّج كي أكمل نصف ديني، وقد يقول آخر: أتزوّج كي أعرج بصلاتي إلى الله تعالى بشكل أفضل؛ لأنّ صلاة المتزوّج بسبعين صلاة من غير المتزوّج.
إنّ هاتين الإجابتين صحيحتان من هؤلاء المتديّنين، بينما القرآن الكريم يطرح إجابة إنسانيّة هي الجواب الحقيقيّ الذي يصدر عن المؤمن وغيره، بل المسلم وغيره، بل الموحّد وغيره، ألا وهي أنّ هدف الزواج هو السعادة.
وبما أنّ للسعادة منشأً واحداً، هو الاطمئنان القلبيّ والسكينة النفسيّة، فإنّ الكتاب العزيز حصر حصول الاطمئنان بمنشأ واحدٍ، هو ذكر الله تعالى، فقال سبحانه: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28). ولا يخفى أنّ تقديم الجار والمجرور ﴿بِذِكْرِ﴾ على الفعل ﴿تَطْمَئِنُّ﴾ يفيد الحصر.
ذِكْرُ الله تعالى هو معرفة يَقِظة واعية لا تنحصر بالمعلومات في قالب الذهن، وإنّما هي التي تحرّك الإنسان نحو سلوك يتماهى مع ما يعتقده في عقله، فيسجّله العقل بقلمه على لوح القلب. وقد طرح القرآن الكريم نوعَين من السلوك، الذي يتناغم مع المعرفة، ويتفاعل مع الذكر، فيولّد السكينة، وبالتالي السعادة:
الأوّل: السلوك الفرديّ في علاقة الإنسان بربّه، ألا وهو الصلاة بين يدي الله عزّ وجلّ. قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه: 14).
الثاني: السلوك الاجتماعيّ الذي يتجلّى في الزواج، فالزواج في منطق القرآن الكريم يُنتج السكينة النفسيّة، والاطمئنان القلبيّ، فالله تعالى يقول: ﴿خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ (الروم: 20).
•كيف تتحقّق السكينة بالزواج؟
من بين مئات آلاف الكلمات التي يزخر بها معجم اللغة العربيّة، اختار الله تعالى كلمتين هما مفتاح السكينة الزوجيّة: المودّة والرحمة. ومعهما نقف لنستلهم درس القرآن الكريم لتحقيق هدف الزواج.
أوّلاً- المودّة:
المودّة هي الحبّ، لكن ليس أيّ حبّ، بل الحبّ الذي يتجلّى من خلال السلوك، وبتعبير العلاّمة الطباطبائيّ قدس سره: "الحبّ الظاهر أثره في مقام العمل"(1). والحبُّ ليس اختياريّاً يفعله الإنسان حينما يشاء، بل هو قهريّ يأتي لقلب الإنسان دون اختيار، إلّا أنّ له سبباً، وسببه هو كمال يراه المحبّ فينجذب به إلى المحبوب، فالحبُّ هو انجذاب القلب بسبب كمال يراه المحبّ في محبوبه. وسرُّ ذلك الانجذاب هو ما فطر الله عليه الإنسان من حبّ الكمال والانجذاب إليه، فالإنسان مفطور على حبّ الجمال، فينجذب إلى الجميل؛ لأنّ الجمال كمال.
من الواضح أنّ المودّة لا تحدث بشكل تكوينيّ حينما يتزوّج الإنسان، فكم من الأزواج ممّن لم يعيشوا حالة مودّة بينهما؟ وهذا يعني أنّ جعل المودة ليس تكوينيّاً، بل هو تشريعيّ؛ بمعنى أنّ الله تعالى أراد من الزوجين أن يحقّقا المودّة.
أ-كيف تتحقّق المودّة؟
كيف تتحقّق المودّة مع كون الحبّ غير اختياريّ؟! إنّ جعل المودّة بين الزوجين يتحقّق بأمرين:
- إظهار المودّة:
أن يُظهر الزوج كماله للزوجة، وهي تُظهر كمالها لزوجها، فإظهار الكمال هو إظهار لما يُسبِّب الحبّ ويصنعه، وهذا ما يرشدنا إليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلامفي ما وردنا عنهم، والذي منه:
- البشاشة: عن الإمام الصادق عليه السلام: "... البشاشة فخّ المودّة"(2). فابتسامة الزوج لزوجته، وابتسامتها له، هما مفتاح المودّة، وبالتالي السعادة.
- حُسن الخُلق: عن الإمام عليّ عليه السلام: "حسن الخُلق يورث المحبّة، ويؤكّد المودّة"(3).
- الكرم والسخاء: عن الإمام عليّ عليه السلام: "السخاء يكسب المحبّة"(4).
- الهديّة: عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "تهادوا تحابّوا"(5). فالهديّة نوع من التعبير عن الاهتمام بالآخر، والاهتمام هو من أهمّ ما تطلبه الزوجة من زوجها. وحينما يسافر الزوج تسأل نفسها: هل غيابي عن عينه يعني غياباً عن قلبه؟ فإن أتى لها بهديّة، فإنّها تتأكد أنّها كانت حاضرة في قلبه، ولعلّ هذا يكون غاية ما تريد؛ لذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا سافر أحدكم، فقدم من سفره، فليأتِ أهله بما تيسّر"(6).
- التعبير العاطفيّ: إنّ في المرأة عاطفة عجيبة، لولاها لما استمرّت البشريّة، بها تحمل تسعة أشهر في عناء، وتلد وكأنّ روحها تُنتزَعُ منها، وتسهر لنوم طفلها، وتتعب لراحته، ولا تريد منه مقابلاً.
ما السبب في ذلك؟ إنّها العاطفة التي غرسها الله تعالى في الفتاة، والتي أراد أن نراعيها؛ بدءاً من كونها ابنة في المنزل، وقد دعا نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم إلى تقديم البنت على الذكر في تقديم تحفة الأب، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من دخل السوق، فاشترى تحفة فحملها إلى عياله، كان كحامل صدقة إلى قومٍ محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور"(7). وحينما تكبر الفتاة، وتصبح زوجة، فإنّها تحتاج كثيراً إلى التغذية العاطفيّة بشكلٍ دائمٍ لا يرتبط بالعمر، وهذا ما أرشد إليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بما ورد عنه: "قول الرجل للمرأة: إنّي أحبّك، لا يذهب من قلبها أبداً"(8).
ب- التركيز على الكمالات:
بما أنّ الحبّ هو انجذاب القلب بسبب كمالٍ يراه المحبّ في المحبوب، فإنّ التركيز على كمالات الآخر يستدرّ الحبّ. فالإنسان فيه كمالات ونواقص، ومن طبيعة الإنسان حينما يركّز على كمالات شيء ينجذب إليه، وحينما يركّز على نواقصه ينفر منه. وحدث أنّ زوجين تخاصما وقرّرا الطلاق، فتحاكما لديّ، فطلبت من كلٍّ منهما أن يرسم جدولين يذكر في أحدهما إيجابيّات وكمالات الآخر، وفي الثاني سلبيّاته ونواقصه، حضرا ثانيةً وقد حضّرا نفسيهما جيّداً، فالجداول كانت مطبوعة. وبدأ الزوج بتلاوة ما كتب من كمالات زوجته، كانت كثيرة، وحينما يذكر كمالاتها كانت (البشاشة) تظهر على وجهها. أمّا النواقص فعدَّد منها اثنتين فقط.
ثمّ ذكرت الزوجة كمالات زوجها، وعدّدتها، فإذا بها كثيرة أيضاً، وكذلك ظهرت البشاشة على وجهه عند سماعه للإيجابيّات التي ذكرتها. إنّ تركيز كلٍّ منهما على إيجابيّات الآخر كان له دور كبير في حلّ تلك المشكلة.
ثانياً- الرحمة
الرحمة هي من أفعال القلب أيضاً، فهي عبارة عن رقّة القلب بسبب نقص يراه الراحم في المرحوم، فأنا حينما أرى طفلاً تنقصه القوّة، فإنّي أرحمه، وحينما أرى مريضاً تنقصه الصحّة، فإنّي أرحمه، وحينما أرى أعمى ينقصه البصر، فإنّي أرحمه. وهكذا أراد الله تعالى لنا أن نتعامل مع نقص الزوج أو الزوجة برحمة.
1- التغافل: ولتفعيل هذه الرحمة في الحياة الزوجيّة، ورد نصّ يتحدّث عن السياسة التي ينبغي أن تعتمد في هذه الحياة، ومنها تنطلق الرحمة، وهو: "إصلاح شأن المعايش ملء مكيال، ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل"(9). فالالتفات الدقيق بين الزوجين ينبغي أن لا يتجاوز الثلث، في حين ينبغي أن يسود التسامح والتغافل الحياة الزوجيّة.
2- المساعدة: من مظاهر تحقّق هذه الرحمة مساعدة الزوجة لزوجها، والزوج لزوجته. فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيّام، غلّق عنها سبعة أبواب النار، وفتح لها ثمانية أبواب الجنّة، تدخل من أيّها شاءت"(10). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عليّ، لا يخدم العيال إلّا صدّيق أو شهيد، أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة"(11).
إنّ تفعيل المودّة والرحمة في الحياة الزوجيّة يُنتج أسرة تعيش سعادة الدنيا والآخرة، تلتقي مع بعضها بعضاً على حبّ الله تعالى، فيحبّهم الله سبحانه، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله يحبّ المؤمن، ويحبّ أهله وولده، وأحبّ شيء إلى الله تعالى أن يكون الرجل مع امرأته وولده على مائدة قبل أن يتفرّقوا من موضعهم"(12).
1.تفسير الميزان، الطباطبائي، ج16، ص166.
2.بحار الأنوار، المجلسي، ج75، ص39.
3.المحبّة في الكتاب والسنّة، الريشهري، ص66.
4.ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1277.
5.الكافي، الكليني، ج5، ص144.
6.بحار الأنوار، (م.س)، ج12، ص11.
7.مستدرك الوسائل، النوري، ج15، ص118.
8.الكافي، (م.س)، ج5، ص569.
9.كفاية الأثر، الخزّاز القمي، ص240.
10.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ص172.
11.بحار الأنوار، (م.س)، ج101، ص 132.
12.تعزيز الأسرة، الريشهري، ص156.