فاطمة نصر الله (*)
واجه العالم منذ أكثر من ثلاثة أشهر جائحة "كورونا"، فأفرزت واقعاً جديداً فرض نفسه بشكلٍ كبير جدّاً على مناحي الحياة كافّة، ولا سيّما الاجتماعيّة منها، حيث إنّ التوصية الطبيّة الأساسيّة تمحورت حول التباعد الاجتماعيّ والحجر المنزليّ. وبالتوازي مع ذلك، اكتشفت بعض الأُسر علاقات جديدة جميلة امتدّت من العائلة الصغيرة إلى العائلة الأكبر... فكيف يمكن استثمار هذه التجربة؟
•التقارب الأسريّ
إنّ تعطّل الحياة العامّة، من وظائف رسميّة وأعمال ومهن على اختلافها ومدارس وجامعات، ألزم أفراد الأسرة جميعهم بالتواجد في المنزل بعضهم مع بعض طوال ساعات اليوم الأربعة والعشرين، ما فرض إعادة النظر من قِبَلهم في التعايش معاً كما لو أنّهم يلتقون للمرّة الأولى.
لم يكن أفراد الأسرة الواحدة قبل الجائحة بحالة تباعد وجفاء، كما أنّهم لم يكونوا بهذا المستوى من الالتصاق والاقتراب قبل ذلك، سواء من حيث الزمان أو المكان. فالبرنامج اليوميّ صار منزليّاً تماماً، خاصّةً لربّ الأسرة الذي كان يقضي وقتاً طويلاً خارج المنزل بحكم دوام عمله، الأمر الذي فرض على الأزواج أن يعاودوا النظر مع زوجاتهم في نمط الحياة التي أتاحت لهم الاطّلاع على مجريات النشاطات اليوميّة لأفراد الأسرة، ولا سيّما بعد انقطاع الأبناء عن مدارسهم وجامعاتهم، وحتّى اهتماماتهم العامّة والمختلفة.
•ما بين العائلة النواتيّة والممتدّة
من الترتيبات الجديدة التي فرضتها جائحة "كورونا"، أنّها وضعت الناس أمام صنفين على الأقلّ من الحجر المنزلي: الصنف الأوّل، وهو حجر للأسرة النواة الصغيرة المؤلّفة من أب وأمّ وأبناء، والصنف الآخر، المتمثّل بالعائلة الممتدّة التي ضمّت إليها الأجداد والجدّات وأحياناً الأخوال والخالات والأعمام والعمّات.
الكلام في الصنف الثاني، المتمثّل بالعائلة الممتدّة، حيث غادرت بعض الأسر المدن باتّجاه القرى والمناطق الريفيّة؛ بحثاً عن مساحات خضراء أو فسحات إضافيّة، فقد واجه بعضهم مشكلة أنّ بيوت المدن تتّصف بالمساحات الضيّقة والغرف الصغيرة، الأمر الذي شكّل عبئاً على الوالدين من خلال تحمّلهما الحركة الزائدة للأطفال، الناتجة عن الحصر في تلك الغرف الصغيرة. إنّ حجر العائلة الكبيرة في بيتٍ واحدٍ، فرض على أفرادها مواجهة أمور عدّة:
1- تقاسم مساحة المنزل المحدودة مع أفرادٍ آخرين لم يعتد الأطفال على العيش معهم في مساحة واحدة، هذا الأمر يستلزم جهوزيّةً تامّةً واستعداداً كبيراً من حيث الالتفات إلى الخصوصيّات المرتبطة بكلّ شخص يتشارك معهم في المنزل.
2- اختلاف التوقيت في ممارسة العادات اليوميّة بين هؤلاء الأفراد، ما يستدعي من الجميع كباراً وصغاراً تقدير ظروف الشخص الآخر الذي لا تنسجم ممارساته اليوميّة مع عاداتهم.
3- اختلاف عادات الطعام والشراب والذوق العامّ في اختيارها وكيفيّة تحضيرها، وحتّى في مواعيدها وتفاصيلها الأخرى.
4- اختلاف الطباع لدى الأفراد الحاضرين في هذه المساحة المحدودة. فمضافاً إلى التباين في الاحتياجات الشخصيّة، تبقى احتياجات المسنّين الجسديّة والنفسيّة والصحّيّة مختلفة عن احتياجات الأفراد الآخرين كالأطفال والناشئة والشباب أيضاً.
5- التباين في الآراء والأفكار العامّة المتعلّقة بنظرة كلّ فردٍ من أفراد الأسرة الممتدّة الذين يقضون زمن الحجر المنزليّ بعضهم مع بعض.
•كيف يمكن استثمار تجربة كورونا؟
هذه الأمور كلّها التي ذكرناها يمكن أن نحوّلها من أزمةٍ أو ضائقة إلى فرصة استثنائيّة في كيفيّة التعاطي مع الآخر بمحبّة وتواضع كبيرين، فلعلّ الأيّام لن تكرّرها مرّة أخرى؛ مضافاً إلى ضرورة الاعتراف بأنّ الحجر ساهم في إنشاء تقارب أُسريّ جديد، ولاستثمارها بإيجابيّة يمكن تدريب النفس على:
1- الصبر على اختلاف طباع الأفراد الحاضرين في منزل واحد، مضافاً إلى تقبّل وجهات النظر المختلفة.
2- التقرب من أفراد الأسرة كافّة وتعزيز قيمة برّ الوالدين وصلة الأرحام، والاستفادة من المحطّات اليوميّة كوجبات الطعام والسهرات وغيرها.
3- تجنّب طرح المشاكل المختلف عليها، بحضور الجميع، تجنّباً لإثارة النقاشات الحادّة في العائلة، ويمكن طرحها جانباً بشكل منفرد.
4- تجنّب تذكير أفراد العائلة الكبرى بالذكريات السيّئة أو التجارب الفاشلة القديمة أمام العائلة، والالتفات إلى أنّها ليست مادّة لتمضية الوقت والتسلية.
5- التركيز على الأحاديث الوديّة التي تُعزّز العلاقات الأُسريّة.
6- بناء جسور عدّة مع أفراد العائلة: أبناء العمّ، الخال، والتعرّف إليهم عن قرب.
7- تعليم الأبناء كيفيّة الاستفادة من وجود الجدود، لجهة الحبّ والودّ، وطلب الرأي والمشورة منهم؛ لأنّهم اختبروا الحياة، ولا شكّ في أنّ تأثير نصيحة الجدّ تصل بشكل مؤثّر للأحفاد.
8- توقير الكبار واحترامهم وتعويد الأطفال على ذلك، ومراقبتهم للقيام بهذا السلوك تُجاه الأجداد والأرحام الآخرين، إن وجدوا.
9- التعامل الرحيم مع الأطفال والرأفة بهم وتحمُّل كلّ هفواتهم وأخطائهم، ولا سيّما مع تواجد أطفال آخرين، حيث تميل أجواء اللعب إلى الفوضى غالباً. لذلك يجدر بالآباء في العائلة الممتدّة توفير مساحة لعب للأطفال، ليتمّ تفريغ طاقاتهم بأمان.
10- العمل على ابتكار الأنشطة الفنيّة المختلفة، كالرسم والتلوين والتعبير، والألعاب الرياضيّة المتنوّعة للأطفال، وذلك من خلال التركيز على تحريك عضلات الطفل الصغيرة والكبيرة، كالركض والقفز واللعب بالطابة وغيرها.
11- مشاركة جميع أفراد الأسرة في نشاط الزراعة مهما كان متواضعاً، حتّى لو انحصر في استخدام الأواني البلاستيكيّة، وإجراء النقاش، ولا سيّما مع الأطفال حول خطوات الزراعة وعناصر حياتها، كذلك الحديث عن نِعَم الله تعالى، مع التشديد على مراقبتها اليوميّة والعناية بها.
12- المشاركة في النشاطات العباديّة، خاصّة في ليالي الجمعات ونهاراتها، مع الحرص على قراءة الأدعية وتأدية الصلوات في وقت واحد، والتأكيد على حلول بركة الله ورضاه في هذه اللحظات.
13- الحرص على التواضع في المأكل والملبس والحاجيات، وتعويد الأفراد كلّهم على الاقتصاد في ذلك؛ لأنّ أفراد العائلة الممتدّة قد يتفاوتون في القدرة الشرائيّة والماديّة، لذلك يجب المراعاة، فضلاً عن التعاون والمساندة.
14- اهتمام الكبار، خاصّةً الوالدين، بالبرامج التعليميّة للصغار والتي تقدَّم من أغلب المؤسّسات التعليميّة عبر وسائل التواصل، وحثّهم على أداء فروضهم تنشيطاً للذاكرة واستفادة قصوى من ساعات النهار الطويلة.
15- استخدام وسائل التواصل الحديثة من خلال الهواتف والشاشات الذكيّة للاطمئنان على بقيّة أفراد الأسرة الآخرين المتواجدين في غير مكان داخل الوطن أو خارجه.
وأخيراً، إنّ الظرف الاستثنائيّ الذي حكم البشريّة وألقى بظلاله الثقيلة على النّاس، حرمنا من حريّتنا في التواصل الاجتماعيّ المباشر. في المقابل أعادنا إلى بركة اجتماع العائلة على مائدة واحدة، والتمتّع بوجود الجدّ والجدّة الودودين.
كان فيروس "كورونا" رسول رحمة من الله ليعيدنا إلى زمان... كان يقال عنه جميلاً، عسى أن نقطف منه جميله لسائر أيّامنا.
(*) مختصّة في التربية الاجتماعيّة.