الشيخ مهدي أبو زيد
"إنّ ابنتي ليست رخيصةً حتّى أقدّمها لزوجها دون مقابل".
"نريد مبلغاً ماليّاً كبيراً كمقدّم ومؤخّر يُسجَّل في عقد الزواج".
"نشترط شراء شقّةٍ مسجّلة باسمها".
"إنّ هذا المهر هو الذي سيضمن لها حياة كريمة، إن جار الزمن عليها".
هي شروط كثيرة، بل عوائق كبيرة إن صحّ التعبير، يفرضها معظم الآباء في مجتمعنا على الشبّان المقبلين على الزواج، متجاهلين الأحوال الاقتصاديّة القاهرة السائدة، والأعباء التي يُلقون بها على كاهل الشاب، فضلاً عمّا أرساه الدين الإسلاميّ من توصياتٍ في هذا المجال، فيقفون بذلك حجر عثرة في طريق تلك السنّة الإلهيّة المقدّسة.
•العودة إلى السنّة النبويّة الشريفة
لأنّنا مكلّفون بالعودة إلى السنّة النبويّة الشريفة، نعيد تسليط الضوء على المنهج الرساليّ في إرساء القواعد السليمة للاستحقاق الذي بات يشكّل بالنسبة إلى غالب أبناء المجتمع معضلة اجتماعيّة مرعبة دونها الكثير من العقبات.
ويجدر التأكيد على أنّ ما أرست المدرسة النبويّة من بساطة لم يكن منسجماً مع ما كان سائداً، بل كان وقوفاً في وجه تيّار شبيه بما نحن عليه اليوم من جاهليّة حديثة، لترسّخ سنّة حسنة تخفّف عن كاهل الشباب كثيراً من الحرج الاجتماعيّ، والمشقّة الطبقيّة الموهومة.
وإذا ما اعتمدنا قصّة زواج أمير المؤمنين عليه السلام من الصدّيقة الطاهرة عليها السلام محوراً للتأسيس لمشروع زواجٍ نموذجيّ، سنستنتج ونلحظ أنّ تأسيس بيت في الإسلام أبسط بمراتب من ممارساتنا الحاليّة المعوجة.
•دخولٌ على استحياء
لو واكبنا دخول أمير المؤمنين عليه السلام دار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على غير عادته هذه المرّة، لشاهدناه بحالة تنبئ بأنّه قصد ما يحرج طرحه، ولم يكن أول قاصد، فعلم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من ظاهر الحال مراده، فهوّن عليه الخطب واختصر عليه المسافة. يقول عليه السلام: ".. فلمّا قعدتُ بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعتُ أن أتكلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما جاء بك؟ ألك حاجة؟)، فسكتّ، فقال: (لعلّك جئتَ تخطب فاطمة؟)، فقلت: نعم.."(1).
لقد أعانه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على مهمّته، ولم يُشدّد عليه الأمر كما الحال في أيّامنا هذه. فالقاعدة الحاكمة هي ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب إليكم فزوّجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"(2).
علماً أنّ أكثر من شخصيّة تقدّمت لخطبة الزهراء عليها السلام من أصحاب الجاه والشأن الاجتماعيّ، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يردّهم ردّاً جميلاً، إذ لم يرَ فيهم الكفاءة، بل أبدى انزعاجه من عروض بعضهم التي تحمل نكهة المعاوضة المالية والترفّع الاجتماعيّ، ولكنّ الموضوع مختلف بالنسبة إلى ربيب الرسالة، لذا توجّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى فاطمة قائلاً: "إنّ عليّ بن أبي طالب ممّن قد عرفتِ قرابتَه وفضلَه وإسلامَه، وإنّي سألت ربّي أن يزوّجك خير خلقه وأحبّهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئاً، فما ترين؟ فسكتت، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: (الله أكبر، سكوتها إقرارها)"(3).
•ماذا نستفيد من النهج النبويّ؟
ولنا أن نستفيد من النهج النبويّ صلى الله عليه وآله وسلم أمرين:
الأوّل: يفترض أن لا يكون التزويج عن جهالة، بل لا بدّ من الوضوح والمعرفة، بحيث يكون الرأي للفتاة صاحبة القرار، وهو ما أكّده الفعل النبويّ وأقرّه.
الثاني: يؤكّد السياق التاريخيّ والروائيّ أنّها عليها السلام لمّا بلغت مبلغ النساء جاء من يخطبها. وهو الانسجام التامّ مع الطبيعة البشريّة وما استودعه الباري تعالى فينا من خصائص.
فما الحكمة في أن نرجئ ما صوّبه التكوين وصحّحه؟ ولِمَ نعاند الطبيعة البشريّة، ونتنكّر للحقائق والوقائع، كما تفعل الأبواق الداعية إلى تأخير سنّ الزواج؟ فهل يرنو إلّا إلى فسح المجال للوقوع في الاضطرابات والمخالفات، وهو ما تؤكّده التقارير والحوادث اليوميّة للمجتمعات التي ابتعدت عن تعاليم الرسالات، لتصبح النتيجة كمّاً هائلاً من المواليد من غير أُسر؟
•"قد زوّجتك بالدرع"
وبالعودة إلى السنّة النبويّة، يترتّب على الموافقة المبدئيّة جملة خطوات جادّة. فبعد أن استشفّ الرضى من إقرار الزهراء عليها السلام، سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ".. أبا الحسن، فهل معك شيء أزوّجك به؟" فقال: "فداك أبي وأمّي، والله ما يخفى عليك من أمري شيء، لا أملك إلّا سيفي ودرعي وناضحي، ما أملك شيئاً غير هذا"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عليّ، أمّا سيفك فلا غناء بك عنه تجاهد به في سبيل الله وتقاتل به أعداء الله، وأمّا ناضحك فتنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكنّي قد زوّجتك بالدرع ورضيتُ بها منك"(4).
فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعلّمنا الخطوات الأساسيّة والحدّ الأدنى الذي يُنتج انطلاقةً سليمةً للأسرة. ولا نُنزل أنفسنا منزلة من يقف أمام غريم يريد أن يقتصّ منه وصولاً إلى إلقائه في التهلكة، بحيث يدخل إلى دار الزوجيّة وقد أنهكته الديون.
•لا عبرة للإمكانيّات الماديّة
لم يتعرّض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للترتيبات الماديّة إلّا بعد أن علم موافقة ابنته على أصل الموضوع، وأنّها راضية بأن تشكّل مع هذه الشخصيّة العظيمة أسرة المستقبل.
ولا عبرة للإمكانيّات الماديّة مع وجود الوعي الحقيقيّ لدى الطرفين؛ لأنّ قلّتها ومحدوديّتها ليستا أمراً ثابتاً، بل هي خاضعة لجملة تقلّبات النشأة الدنيويّة، فكم من مقتدر غنيّ أصبح لا يملك ما يسدّ الرمق، والعكس صحيح؟
لقد باع عليّ عليه السلام درعه بأربعمائة وثمانين درهماً(5) (1185 غراماً تقريباً)، قال عليه السلام: "... ودخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسكبتُ الدراهم في حجره، فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته، ثمّ قبض قبضةً ودعا بلالاً فأعطاه فقال: (ابتع لفاطمة طيباً)، ثمّ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدراهم بكلتا يديه وخاطبني: (ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت)"(6).
فلمّا وضع عليه السلام ذلك -المشتريات- بين يدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جعل يقلّبه بيده ويقول: "... اللهم بارك لقوم جُلُّ آنيتهم الخزف". ودفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باقي ثمن الدرع إلى أمّ سلمة، فقال: "اتركي هذه الدراهم عندك"(7).
•عبرة ودروس
ولنا من ذلك أن نستنتج عبراً ودروساً عدّة:
الأول: استعمل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المهر كرأس مال أوّليّ لتأمين الاحتياجات الأوّليّة لانطلاقة الأسرة الجديدة.
الثاني: لنا أن نسأل عن ممارساتنا اليوم، وما نشترطه من منزل وعدد غرف، وتجهيز ربّما لا يحتاجه المنزل بعد عقود من تأسيسه...، فنرهق كواهلنا بما لا طائل منه إلّا الإسراف أحياناً والتبذير أحياناً أخرى.
الثالث: إنّ القناعة والتنازل الماديّين في هذا السبيل سيثمر فوزاً معنويّاً عند الربّ الجليل، وبيتٌ أُسّس من ثمن درع، يشتريه الباري بما لا يخطر على قلب بشر، ففي الحديث: "... جعل الله مهر فاطمة الزهراء عليها السلام شفاعة المذنبين من أمّة أبيها"(8). وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "لا تغالوا بمهور النساء فيكون عداوة"(9).
•بالإمكانات البسيطة والمتوافرة
تأمّنت احتياجات المنزل الضروريّة، ولم يبقَ إلّا الحياء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاجباً بين العروسين، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "... ومكثتُ بعد ذلك شهراً لا أعاود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر فاطمة بشيء استحياءً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"(01).ثمّ أُخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم برغبة عليّ عليه السلام فأرسل خلفه.. فقال: "أتحبّ أن تدخل عليك زوجتك؟"، فقلت وأنا مطرق: "نعم، فداك أبي وأمّي"، فقال: "نعم، وكرامة يا أبا الحسن، أُدخلها عليك في ليلتنا هذه أو في ليلة غد، إن شاء الله"(11).
بهذه البساطة كلّها وبالإمكانيّات المتوافرة، حدّد صلى الله عليه وآله وسلم الموعد، وطلب من النساء أن يجهّزن فاطمة عليها السلام.
"وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدراهم التي سلّمها إلى أمّ سلمة عشرة دراهم، فدفعها إليّ وقال: (اشترِ سمناً وتمراً وأقطاً) -من الحليب-، فاشتريتُ وأقبلتُ به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحسر عن ذراعيه ودعا بسفرة من أدم، وجعل يشدخ التمر والسمن ويخلطهما بالأقط حتّى اتّخذه حيَساً"(12) -نوع من الحلوى-.
وهكذا أولم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومن المهر أيضاً، لهذا الزفاف الميمون.
•زواج النورَين
"ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عليّ ادعُ من أحببت)، فخرجتُ إلى المسجد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون، فقلت: أجيبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقاموا جميعاً وأقبلوا نحو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم"(31).
"... قالت أمّ سلمة: ثمّ دعا بابنته فاطمة، ودعا بعليّ عليه السلام، فأخذ عليّاً بيمينه وفاطمة بشماله، وجمعهما إلى صدره، فقبّل بين أعينهما، ودفع فاطمة إلى عليّ وقال: يا عليّ، نِعم الزوجة زوجتك، ثمّ أقبل على فاطمة وقال: يا فاطمة، نِعم البعل بعلك، ثمّ قام يمشي بينهما حتّى أدخلهما بيتهما الذي هُيّئ لهما..."(14).
•فلنفرح قلب صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
هكذا زوّج خير الخلق طرّاً خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم ابنته سيّدة نساء العالمين عليها السلام من أمير المؤمنين عليه السلام.
فلنتّخذ هؤلاء الأطهار أسوة حسنة، ولنمدّ يد العون لشبابنا، ولا نقف أمام سنّة الله في خلقه، وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، ونترجم ما أسّسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عوداً إلى الأصالة، ونهاجر إلى قيم السماء، ونهجر أهل الدنيا الزائفة، وزخارفها الزائلة، فنعيد بناء ما أراد أعداؤنا هدمه، ونشدّ أواصر المودّة والألفة في مجتمعنا، فندخل بذلك السرور على قلب إمام زماننا عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ لأنّ بيتاً يتأسّس متأسّياً بالبيت النبويّ، لا شكّ في أنّه من مواطن سروره.
1.بحار الأنوار، المجلسي، ج43، ص119.
2.الأمالي، الطوسي، ص519.
3.بحار الأنوار، (م.س)، ج43، ص112.
4.قادتنا كيف نعرفهم، الميلاني، ج3، ص147.
5.راجع: اللمعة البيضاء، التبريزي الأنصاري، ص256.
6.بحار الأنوار، (م.س)، ج43، ص94.
7.(م.ن)، ج43، ص130.
8.الأسرار الفاطميّة، المسعودي، ص178.
9.بحار الأنوار، (م.س)، ج100، ص351.
10.(م.ن)، ج43، ص130.
11.(م.ن).
12.(م.ن)، ج43، ص132.
13.(م.ن).
14.(م.ن).