الشيخ محمود عبد الجليل
لم يقتصر دور الإمام الصادق عليه السلام، الذي انتمى إليه المذهب الجعفريّ، على إنجازاته العلميّة والمعرفيّة، إنّما تعدّاه إلى ما هو أخطر وأعظم، وهو العمل على تشكيل الحكومة الإسلاميّة، والمواجهة السياسيّة، بل والعسكريّة، سواء مع الأمويّين أو المروانيّين أو العبّاسيّين. وقد وصل الأمر في تنظيمه عليه السلام تشكيلات سريّة، إلى حدِّ الانفجار والظهور، لكن تسرّبت تفاصيل زمان العمل العسكريّ الذي كان سيقوده الإمام عليه السلام أو أسلوبه، ما جعل الإمام يؤجّل الثورة حتّى تتهيّأ الظروف. كيف نظّم الإمام الصادق عليه السلام تلك التشكيلات؟ وما هو دورها؟ هو حديث هذا المقال.
* لماذا لم يقم الإمام عليه السلام بثورة؟
من المعلوم أنّ الظروف الموضوعيّة من ظلم وملاحقة واستبداد لم تُلجئ الإمام عليه السلام إلى الانزواء، أو الاستسلام للحكومات الظالمة وأعوانها، وإنّما اعتمد أسلوب العمل السياسيّ غير المباشر. ويمكن الإشارة إلى بعض الأسباب التي حالت دون قيامه بثورة، فمنها:
1-عدم جهوزية الأرضية اللازمة للتحرّك العسكريّ:
لذلك أحرق الإمام عليه السلام رسالة أبي سَلَمة الخلّال(1) قبل أن يقرأها؛ كونه كان يعلم بأنّ نتائج تحرّكِه سيقطف ثمارها بنو العبّاس، وسيكون مصيره بعد ذلك كمصير الخلّال والخراساني اللذَين قُتلا بعد أن استتبَّ الأمر للعبّاسيّين. وهذا ما نستفيده من بيت الشعر الذي تمثّل به الإمام عليه السلام بحضور رسول الخلّال:
أيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها
ويا حاطباً في غير حبلك تحطب(2).
2- عدم وجود الناصر الحقيقي:
أ- من الناحية النوعيّة: إنّ معظم من دعا الإمام عليه السلام إلى القيام والثورة لديهم مصالح وغايات ذاتيّة ودنيويّة، ولم يكونوا على استعداد للتضحية بها لصالح غيرهم، ولو قام فعلاً ودعاهم، لخالفوه وربّما حاربوه. وأبلغ ما يدلّ على ذلك، قصّة الخراسانيّ الذي زار الإمام الصادق عليه السلام وسأله: "يا ابن رسول الله،... ما الذي يمنعك أن يكون لك حقٌّ تقعد عنه وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟! فقال له عليه السلام : (اجلس يا خراساني، رعى الله حقّك)، ثمّ أمر أن يُسجَّر التنّور، وأمر عليه السلام الخراسانيّ أن يجلس فيه، لكنّه خاف واعتذر من الإمام عليه السلام ، فأقاله عليه السلام ، حتّى إذا أقبل هارون المكّيّ، قال له الصادق عليه السلام: (اجلس في التنّور)، فجلس في التنّور من فوره، وأقبل الإمام عليه السلام يحدّث الخراسانيّ مدّة، ثمّ قال له: (قم يا خراسانيّ، وانظر ما في التنُّور)، فقام فوجد هارون متربّعاً، حتّى خرج سليماً، فقال له الإمام عليه السلام: (كم تجد بخراسان مثل هذا؟)، فقلت: والله ولا واحداً، فقال عليه السلام : (لا والله ولا واحداً، أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت)"(3).
ب- من الناحية العدديّة: لم يتوفّر العدد المطلوب للتحرّك والقيام بالثورة المسلّحة، وهو ما نقرؤه في رواية سُدَير الصيرفيّ، حينما دخل على الإمام الصادق عليه السلام وسأله عن سبب عدم قيامه وله من الشيعة والأنصار ما يقرب من مائتي ألف، فسكت الإمام عليه السلام وطلب منه السير إلى يَنْبُع(4)، حتّى وصلا إلى غلام يرعى جِداء، فقال عليه السلام: "والله يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود، ونزلنا وصلّينا، فلمّا فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعدَدْتها، فإذا هي سبعة عشر"(5).
وعلى الرغم من صعوبة تلك الظروف وقساوتها، نجد الإمام عليه السلام لم يتخلَّ عن الدور الجهاديّ، غاية ما في الأمر أنّه اعتمد أسلوباً آخر للمواجهة، ولكن بطريقة غير مباشرة.
* التشكيلات السرِّيَّة
أطلق الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله على الإمام الصادق عليه السلام لقب: "رجل التنظيم والتشكيلات"، لكونه عليه السلام أوجد تشكيلات عظيمة من المؤمنين به، في مختلف أرجاء العالم الإسلاميّ. ويعرِّف دام ظله التشكيلات بأنّها: مجموعة من الناس، وبهدفٍ مشترك، يقومون بأعمال ومسؤوليّات مختلفة بالارتباط بمركزٍ واحد وقلبٍ نابض وعقلٍ حاكم، ويشعرون فيما بينهم بنوع من الروابط والمشاعر القريبة والمتآلفة. وهي تعني أنّه عندما يريد الإمام الصادق عليه السلام أن ينقل أيّ شيءٍ، فإنّ وكلاءه المنتشرين في كلّ مكان، سينقلونه إلى النّاس، ويعني أيضاً أنّها ستُجمع الحقوق الشرعية والميزانية المطلوبة لإدارة مواجهة سياسية عظيمة لآل عليّ عليهم السلام، ويعني أيضاً أنّ أتباع الإمام الصادق عليه السلام سيرجعون إليهم لمعرفة تكليفهم الدينيّ والسياسيّ من الإمام.
واستطاع الإمام عليه السلام، من خلال هذه التشكيلات، مواجهة جهاز بني أميّة علناً، وذلك في أواخر العصر الأمويّ، وكذلك مواجهة جهاز بني العبّاس مدّة طويلة، ولكنّ المواجهة كانت تجري بالتقيّة والكتمان؛ لأنّهم كانوا يرفعون شعارات آل عليّ ومواقفهم باللسان، فكان ظاهرهم ظاهر آل عليّ، وعملهم عمل بني أميّة(6).
تشي الأحداث التي جرت على الإمام عليه السلام والروايات الواردة عنه، في زمن العبّاسيّين، وتحديداً في زمن المنصور الدوانيقي، بالحراك السرِّيّ الذي اعتمده الإمام عليه السلام ، ويمكن الإشارة إلى ذلك من خلال تجميع القرائن، ومنها:
1- نشر الجواسيس لمراقبة الإمام عليه السلام: جرى التضييق على الإمام الصادق عليه السلام للنيل منه عند أوّل فرصة. ويدلّ هذا على وجود سبب غير ظاهر يجعل الحاكم في حالة توجُّس، ومن ذلك ما يرويه مهاجر الخزاعيّ، قال: "بعثني أبو الدوانيق إلى المدينة، وبعث معي بمال كثير، وأمرني أن أتضرّع لأهل هذا البيت، وأتحفَّظ مقالتهم،... قال: وكنت كلّما دنوت من أبي عبد الله يلاطفني ويكرمني، حتّى إذا كان يوماً من الأيّام دنوت من أبي عبد الله وهو يصلّي، فلمّا قضى صلاته التفت إليَّ وقال: (تعالَ يا مهاجر) -ولم أكن أتسمّى ولا أتكنّى بكنيتي- فقال: (قل لصاحبك: يقول لك جعفر: كان أهل بيتك إلى غير هذا منك أحوج منهم إلى هذا، تجيء إلى قوم شباب محتاجين فتدسّ إليهم، فلعلّ أحدهم يتكلّم بكلمة تستحلّ بها سفك دمه، فلو بررتهم ووصلتهم وأغنيتهم، كانوا أحوج ما تريد منهم...)"(7).
2- كشف الإمام عليه السلام محاولة للتخلّص منه: عن رزام، قال: "بعثني أبو جعفر المنصور إلى المدينة، وأمرني إذا دخلت المدينة أن أفضّ الكتاب الذي دفعه إليّ، وأعمل بما فيه. قال: فما شعرت إلّا برَكْبٍ قد طلعوا عليَّ حين قربت من المدينة، وإذا رجل قد صار إلى جانبي، فقال: (يا رزام، اتّق الله ولا تُشرِك في دم آل محمّد). قال: فأنكرت ذلك، فقال لي: (دعاك صاحبك نصف الليل، وخاط رقعة في جانب قبائك، وأمرك إذا صرت إلى المدينة تفضّها وتعمل بما فيها). قال: فرميت بنفسي من المحمل وقبّلت رجليه، وقلت: ظننت أنّ ذلك صاحبي، وأنت سيّدي وصاحبي، فما أصنع؟ قال عليه السلام : (ارجع إليه، واذهب بين يديه وتعال، فإنّه رجل نسَّاء، وقد نسي ذلك، فليس يسألك عنه). قال: فرجعت إليه فلم يسألني عن شيء، فقلت: صدق مولاي عليه السلام "(8). فمعرفة الإمام عليه السلام إن لم تكن بسبب عاملٍ غيبيّ، فلا بدَّ من أنَّ هناك من أخبر الإمام عليه السلام بعزم المنصور على قتله من داخل قصر الحاكم، وهذا من آثار التشكيلات السرِّيَّة.
3- ثورات السادّة الحسنيّين: وهم عبد الله بن الحسن وولداه محمّد (ذو النفس الزكية) وإبراهيم. وهذه الثورات كانت توحي بأنّ هناك ما يُهيِّئه العلويّون للخروج على السلطان، وتشي بدور سرّيّ للإمام الصادق عليه السلام، حتّى ولو لم يصدر تأييده علناً لهذه الثورات.
4- اعتماده عليه السلام بعض الإجراءات الأمنيّة: روي عن أبي القاسم الأصفهانيّ أنّه دخل سفيان الثوريّ على الإمام عليه السلام، فقال عليه السلام له: "أنت رجل مطلوب وللسلطان علينا عيون، فاخرج عنّا غير مطرود..."(9).
وعن حمّاد بن واقد قال: "استقبلت أبا عبد الله عليه السلام في طريقٍ، فأعرضت عنه بوجهي ومضيت، فدخلت عليه بعد ذلك، فقلت: جعلت فداك، إنّي لألقاك فأصرف وجهي كراهة أن أشقّ عليك، فقال لي: (رحمك الله، ولكنَّ رجلاً لقيني أمس في موضع كذا وكذا فقال: عليك السلام يا أبا عبد الله، ما أَحسنَ ولا أجمل)"(10)؛ أي لم يفعل حسناً ولا جميلاً.
5- تحرّي السلطة أسماء الخواصّ حدّ القتل: فقد قُتِل المعلّى بن خنيس بسبب عدم بوحه بأسماء شيعة الإمام عليه السلام ، فيروى أنّه لما ولي داود المدينة دعا المعلّى وسأله عن شيعة أبي عبد الله عليه السلام فكتمه، فقال: "أتكتمني؟! أما إنّك إن كتمتني قتلتك"، فقال المعلّى: "بالقتل تهدِّدني؟! والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم، وإن أنت قتلتني لتسعدني ولتشقيَن"، ثمّ أخرجه إلى السوق وقتله(11).
6- صدور روايات كثيرة عن كتمان السرّ عنه عليه السلام: نكتفي برواية واحدة، وهي من الروايات الجامعة في مبدأ التقيّة وكتمان السرّ، وفيها تصريح بأنّ ما أساء إلى إرادة الإمام عليه السلام بالثورة هو إفشاء الأسرار. يقول محمد بن النعمان الأحول: قال لي الصادق عليه السلام: "... المذيع علينا سرّنا كالشاهر بسيفه علينا،... يا ابن النعمان، إنّي لأحدِّث الرجل منكم بحديث فيتحدّث به عنّي، فأستحلُّ بذلك لعنته والبراءة منه...، يا ابن النعمان، إنّ المذيع ليس كقاتلنا بسيفه، بل هو أعظم وزراً، بل هو أعظم وزراً، بل هو أعظم وزراً،... فلا تعجلوا، فوالله لقد قرب هذا الأمر ثلاث مرّات فأذعتموه، فأخّره الله، والله، ما لكم سرٌّ إلّا وعدوّكم أعلم به منكم..."(12).
فهذه القرائن وغيرها الكثير، تشير إلى وجود هذه التشكيلات السرِّيَّة التي كانت تؤرّق النظام في زمانه عليه السلام.
1- هو حفص بن سليمان، كبير الدعاة العبّاسيّين، بذل ماله في سبيل الدعوة العبّاسيّة. هو أوّل مَن وقع عليه اسم الوزارة في دولة بني العبّاس. أرسل رسالة إلى الإمام الصادق عليه السلام ، يدعوه بها إلى أخذ البيعة له عليه السلام من بني العبّاس. انظر: عمدة الطالب، الحسينيّ، ص101.
2- مقتبس من مروج الذهب، المسعودي، ج3، ص280.
3- يراجع: مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج3، ص343.
4- يَنْبُع: قرية كبيرة بها حصن بين مكّة والمدينة من جهة البحر. وجاء في الأخبار: لمّا قسّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفيء أصاب عليّاً عليه السلام أرض، فاحتفر عيناً فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير، فسمّاها ينبع، فجاء البشير يبشّر، فقال عليه السلام : 5- "بشِّر الوارث، هي صدقة في حجيج بيت الله وعابري سبيل الله، لا تُباع ولا توهب ولا تورّث..."؛ انظر: الكافي، الكلينيّ، ج7، ص54.
6- الكافي، (م.ن)، ج2، ص242.
7- يراجع: إنسان بعمر 250 سنة، الإمام الخامنئيّ دام ظله، ص349-353.
8- بحار الأنوار، المجلسي، ج47، ص172.
9- دلائل الإمامة، ابن جرير الطبري، ص248.
10- مناقب آل أبي طالب، (م.س)، ج3، ص343.
11- أي لم يفعل حسناً ولا جميلاً؛ الكافي، (م.س)، ج2، ص217.
12- مناقب آل أبي طالب، (م.س)، ج3، ص343. (بتصرّف)
13- تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحرّاني، ص307.