نهى عبد الله
كانت أرضاً ليتيمَين، تغطّيها شجيرات الغرقد البرّيّة الممتدة عرضاً، بعضها ارتفعت ساقه متراً وبعضها مترين لتصنع فروعها الأفقية ظلالاً وارفة تحمي من شمس الهجير. رغم إبرها الشوكية.. هي أرض عطوف، لا تظهر عطفها بسهولة.
أرض كهذه لا تزرع، لكن لها عملٌ آخر.. اشتراها السيّد الصادق الأمين بعد قدومه من مكّة؛ لتكون أمّاً من نوع آخر، احتضنت شهداء من العهد الأوّل، كلّ فتح جديد أرسل إليها وديعة من شهدائه، سكنها بنو هاشم، فتلك دار عقيل التي باتت أثراً لهم وشاهداً.. وكلّما مرّ منها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أهدى إلى ساكنيها منه سلاماً ورحمة..
ثمّة بقعة خفِرة في تلك الأرض، يعرفها أهل المدينة ويحنون رؤوسهم حين تتراءى لهم، كانت شاهداً لحزن فاطمة عليها السلام من خذلانهم يوم الشدّة، كانت تحاربهم صمتاً، فاتخذت بيتاً ليكون شاهداً ناطقاً عنها.
هي جارة مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكلّما حنّت هاشميّة لشهيدها، أب أو أخ أو زوج.. أو ابن.. مرّت من تلك الصامتة، أرض الغرقد، وبثّت إليها شجونها وحنينها..
(ويلي على شبلي أما
ل برأسه ضرب العمد
لو كان سيفك في يديـ
ك لما دنا منك أحد)
كلّ من يسمع تلك الأبيات كان يعلم أنّه موعد زيارة أمّ البنين، تحمل حفيدها عبيد الله كلّ يوم، وتدخل أرض الغرقد، ويجتمع حولها أهل المدينة. كانت مزاراً يشهد على قصّة لم تكتب فيه، لكنّه ينطق بها ويبوح للتاريخ..
بقيت أرض الغرقد تستقبل الودائع، خاصّةً آخر الأسرار التي يتركها الأولياء، على عهد أنها ستبوح رغم صمتها، احتضنت النور في أربعة مراقد، كانت أنساً لأهل المدينة وأثراً من الرسول..
ذاك، يوم كانت مزاراً، واليوم البقيع في صمتها تبوح أنّ نور الله لا يُطفَأ.